عبد الرحمان بن عبد الله بن عمران بن عامر السعدي

تاريخ السودان

  1. ذكر ملوك سغي
  2. ذكر أول سن وهو علي كلن
  3. استيلاء كنكن موسى على مملكة سغي
  4. ذكر مملكة ملي
  5. ذكر جني ونبذة من أخبارها
  6. ذكر العلماء والصالحين والقضاة الذين سكنوا مدينة جني
  7. ذكر تنبكت ونشأتها
  8. تعريف التوارق
  9. ذكر معض العلماء والصالحين الذين سكنوا مدينة تنبكت
  10. نبذة من كتاب الذيل لأحمد بابا
  11. ذكر آية المسجد الجامع ومسجد سنكري على الترتيب
  12. ذكر الظالم الأبر سن علي
  13. ذكر أمي المؤمنين أسكيا الحاج محمد بن أبي بكر
  14. ذكر أسكيا موسى وأسكيا محمد بنكن
  15. ذكر أسكيا إسماعيل ابن أسكيا الحاج محمد
  16. ذكر أسكيا إسحاق ابن أسكيا الحاج محمد
  17. ذكر أسكيا داوود وغزواته
  18. ذكر أسكيا الحاج ابن أسكيا داوود
  19. ذكر أسكيا محمد بان ابن أسكيا داوود
  20. ذكر أسكيا إسحاق ابن أسكيا داوود
  21. ذكر مجيء الباشا جودر إلى بلاد السودان
  22. ذكر أسر الأسكيا محمد كاغ
  23. ذكر حروب الباشا محمود بن زرقون
  24. ذكر الباشا محمد طابع
  25. ذكر الباشا عمار
  26. ذكر البلاد ماسنة
  27. ذكر الباشا سليمان والباشا محمود لنك
  28. ذكر آفات ومحن في مدينة مراكش
  29. نبذة في تاريم الملوك السعدية
  30. ذكر الوفيات والتواريخ لبعض الأجناد والفقهاء والأعيان والإخوان واللأقارب وذكر بعض الحوادث فيها على الترتيب
  31. ذكر الباشاوات من سنة 1021 إلى سنة 1039
  32. سياحة مؤلف الكتاب في بلاد ماسنة
  33. ذكر الباشاوات من عام 1039 إلى عام 1042
  34. ذكر الوفيات والتواريخ من العام الحادي والعشرين بعد الألف إلى العام الثاني والأربعين بعد الألف
  35. ذكر الباشاوات من عام 1042 إلى عام 1063
  36. ذكر الوفيات والتواريخ من عام فاثاني والأربعين والألف إلى آخر العام الثالث والستين والألف
  37. ذكر من تولى أمور البلاد من السودانيين من مجيء الباشا جودر إلى عام 1063
  38. تاريخ السودان من عام 1063 إلى عام 1065

    بسم الله الرحمان الرحيم
    وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم

    الحمد لله المنفرد بالملك والبقاء والقدرة والثناء المحيط بعلمه بجميع الأشياء يعلم ما كان وما يكون وإن لو كان كيف يكون، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، سبحانه من ملك قادر وعزيز قاهر الذي قهر عباده بالموت والفناء وهو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء. والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا ومولانا محمد خاتم الرسل والأنبياء وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين من أهل الصفوة والاعتناء، صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم صلاة وسلاماً بلا انقطاع ولا انقضاء.

    وبعد، فقد أدركنا أسلافنا المتقدمين أكثر ما يتوانسون به في مجالسهم ذكر الصحابة والصالحين رضي الله عنهم ورحمهم. ثم ذكر أشياخ بلادهم وملوكهم وسيرهم وقصصهم وأنبائهم وأيامهم ووفياتهم، وهو أحلى ما يرون وأشهى ما يتذاكرون حتى انقرض ذلك الجيل ومضى رحمة الله تعالى عليهم. وأما الجيل الثاني ما كان فيهم من له الاعتناء بذلك ولا من يقتدي بطريق السلف الماضين ولا من له همة عالية في وجوه البر، كلهم وإن كان فاهله ينعد ويحصر ولم يبق إلا من له همة سفسافية من التباغض والتحاسد والندابر والاشتغال بما لا يعني من القيل والقال والخوض في عيوب الناس والافتراء عليهم، وذلك من أسباب خاتمة السوء. والعياذ بالله.

    ولما رأيت انقراض ذلك العلم ودروسه وذهاب ديناره وفلوسه وأنه كبير الفوائد كثير الفرائد لما فيه من معرفة المرء بأخبار وطنه وأسلافه وطبقاتهم وتواريخهم ووفياتهم فاستعنت بالله سبحانه في كتب ما رويت من ذكر ملوك السودان أهل سغي وقصصهم وأخبارهم وسيرهم وغزواتهم وذكر تنبكت ونشاتهم ومن ملكها من الملوك وذكر بعض العلماء والصالحين الذين توطنوا فيها وغير ذلك إلى آخر الدولة الأحمدية الهاشمية العباسية سلطان مدينة حمراء مركش. فأقول وبالله تعالى أستعين وهو حسبي ونعم الوكيل.

    الباب الأول

    ذكر ملوك سغي

    أول من تملك فيها من الملوك زا الأيمن، ثم زا زكي، ثم زا تكي، ثم زا أكي، ثم زا كو، ثم زا علي في، ثم زا بي كمي، هم زا بي، ثم زا كري، ثم زا يم كروي، ثم زا يم، ثم يم دنك كيبع، ثم زا كوكُرَى، ثم زا كِنكِن. هؤلاء أربعة عشر ملوكاً ماتوا جميعاً في جاهلية وما آمن أحد منهم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    والذي أسلم منهم زا كُسُي يقال له في كلامهم مسلم دَم معناه أسلم طوعاً بلا إكراه رحمه الله تعالى، وذلك في سنة أربعمائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم زا كُسُي داربي، ثم زا هن كُزونك دم، ثم زا بي كي كيم، ثم زا نِتناسني، ثم زا بي كَين كنب، ثم زا كين شَنيُنبُ، ثم زا تب، ثم زا يم داد، هم زا فدزو، ثم زا علي كر، ثم زا بير فلك رحمه الله تعالى، ثم زا ياسبي، ثم زا دورُ، ثم زا زنك بار، ثم زا بس بار، ثم زا بدا.

    ثم سنّ الأول علي كلن وهو الذي قطع حبل الملك على رقاب أهل سغي من أهل ملّي وأعانه الله تعالى على ذلك. ثم السلطان بعده وليه أخوه سلمن نار وهما أبناء زا ياسبي، ثم سُنّ إبراهيم كبي، ثم سن عثمان كَنَفَ، ثم سن باركين أنكبي، ثم سن موسى، ثم سن بكر زنك، ثم سن بكر دل بُيُنب، ثم سن ماركري، ثم سن محمد داع، ثم سن محمد كوكيا، ثم سن محمد فار، ثم سن كربيف، ثم سن مار في كل جُم، ثم سن مارُاركَنَ، ثم سن مارارندن، ثم سن سليمن دام، ثم سن علي، ثم سن بار اسمه بكر داع، ثم بعده أسكيا الحاج محمد.

    أما الملك الأول زا الأيمن أصل اللفظ جاء من اليمن قيل أنه خرج من اليمن هو وأخوه سائرين في أرض الله تعالى حتى انتهى بهما القدر إلى بلد كوكيا، وهو قديم جداً في ساحل البحر في أرض سغي كان في زمن فرعون حتى قيل حشر منه السحرة في مناظرته مع الكليم عليه السلام.

    وقد بلغاه في بئس الحال حتى كادت صفة البشرية أن تزول عنهما من التقشب والتوسخ والتعري إلا خرق الجلود على أجسادهما. فنزلا عند أهل ذلك البلد فسألوهما عن مخرجهما، فقال الكبير جاء من اليمن. وبقوا لا يقولون إلا زا الأيمن فغيروا اللفظ لتعسر النطق به على لسانهم لأجل ثقله من العجمة. فسكن معهم ووجدهم مشركين لا يعبدون إلا وثناً، فيتمثل لهم الشيطان في صورة الحوت يظهر لهم فوق الماء في البحر والحلقة في أنفه في أوقات معلومة، فيجتمعون إليه ويعبدونه فيأمرهم وينهاهم فيتفرقون عن ذلك ويتمثلون بما أمر ويجتنبون ما نهى.

    وهو يحضر ذلك معهم. فلما علم أنهم على ضلال مبين اضمر في قلبه قتله وعزم عليه فأعانه الله في ذلك فرماه بالحديد في يوم الحضور وقتله. فبايعوه وجعلوه ملكاً. قيل أنه مسلم لأجل هذا الفعل. والارتداد طرا في عقبه بعده ولا نعلم من ابتدأ به منهم ولا تاريخاً لخروجه من اليمن ولا لوصوله إليهم ولا ما هو اسمه، وبقي اللفظ علماً له وصدره لقباً لكل من تولى بعده من الملوك.

    فتناسلوا وتكاثروا حتى لا يعلم عدتهم إلا الله سبحانه. وكانوا ذوي قوة ونجدة وشجاعة وعظم جثة وطول قامة بحيث لا يخفى ذلك على من كان عنده معرفة بأخبارهم وأحوالهم.

    الباب الثاني

    ذكر أول سن وهو علي كلن

    وأما سن الأول علي كلن فكان من قصته أنه سكن في الخدمة عند سلطان ملي هو وأخوه سلمن نار ابنا زا ياسبي. أصل الاسم سليمن، فتغير من أجل عجمة لسانهم.

    وأمّاهما شقيقتان. أما والدة علي كلن فاسمها أمّا، واسم والدة سلمن نار فتِ وهي الأولى عند أبيهما فأخذت كثيراً ولم تلد حتى أيست من الولادة، فقالت لزوجها تزوج أختي أمّا، لعلك تجد منها عقباً حيث لم تجده مني. فتزوجها وهم من الجاهلين لأنهما لا تشتركان في العصمة. فحملا بقدرة الله تعالى في ليلة، واحدة وولدتا كذلك في ليلة واحدة ولدين ذكرين. فطرحا على تراب في بيت مظلم دون غسل إلا في الغد، وهي عادة عندهم في المولود بليل. فابتدأن بغسل على كلن ولذلك جعل كبيراً ثم غسل سلمن نار فكان الأصغر بذلك.

    فلما بلغا مبلغ الاستخدام أخذهما سلطان ملي لأنهم في طاعته حينئذ للخدمة على عادتهم لأولاد الملوك الذين في طاعتهم، وتلك العادة جارية عند سلاطين السودان كلهم إلى الآن. فمنهم من يرجع بعد الخدمة إلى بلادهم ومنهم من يبقى فيها إلى أن يموت.

    وكانا هنالك، فعلي كلن يغيب في بعض الأحيان لطلب المنفعة على سبيل العادة، ثم يرجع وهو لبيب عاقل فطن كيس جداً. وبقي يزيد في الغيبة حتى قارب سغي وعرف طرقاتها كلها فأضمر الخلاف والهروب إلى بلده، فاحتال واستعد لذلك بما ينبغي من الأسلحة والأزودة وكمنهم في مواضع معروفات في طريقه.

    ثم فطن أخاه وأطلعه على سره، فعلفا حصانهماً عافاً مليحاً صحيحاً جيداً حتى لا يخشيان عليهما عجزاً ولا عياء فخرجا وتوجها لسغى. فلما فطن لهما سلطان ملي جعل في إثرهما رجالاً ليقتلوهما. وكلما دنوا منهما تقاتلوا فيكسرانهم وتكرر القتال بينهم فما نالوا منهما نيلاً حتى وصلا بلدهما.

    فكان علي كلن سلطاناً على أهل سغي وتسمى بسن وقطع حبل الملك عن أهله من سلطان ملي. وبعد ما مات تولى أخوه سلمن نار ولم يجاوز ملكهم سغي وأحوازها فقط إلا الظالم الأكبر الخارجي سن علي. فزاد علي جميع من مضى قبلهم في القوة وكثرة الجند، فعمل الغزوات وطوّع البلادات وبلغ ذكره شرقاَ وغرباَ. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. وهو آخر ملكهم إلا ابنه أبو بكر داع تولى بعد موته، فعن قليل نزع الملك منه أسكيا الحاج محمد.

    الباب الثالث

    استيلاء كنكن موسى على مملكة سغي

    تنبيه: سلطان كنكن موسى هو أول من ملك سغي من سلاطين ملي، وهو صالح عادل لم يكن فهم مثله في الصلاح والعدل، قد حج بيت الله الحرام وكان مشيه والله أعلم في أوائل القرن الثامن في قوة عظيمة وجماعة كثيرة، والحندي منهم ستون ألفاً رجالاً، ويسعي بين يديه إذا ركب خمسمائة عبيد، وبيد كل واحد منهم عصى من ذهب، في كل منها خمسمائة مثقال ذهب.

    ومشى بطريق ولات في العوالي وعلى موضع توات. فتخلف هنالك كثير من أصحابه لوجع رجل أصابه في ذلك المشي تسمى توات في كلامهم. فانقطعوا بها وتوطنوا فيها، فسمى الموضع باسم تلك العلة.

    فورخ أهل المشرق مجيئه ذلك وتعجبوا من قوته في ملكه، ولكن ما وصفوه بالجود والكرم لأنه ما تصدق في الحرامين مع كثرة ملكه إلا بعشرين ألفاً ذهباً بنسبة ما تصدق به أسكيا الحاج محمد فيهما، وهو مائة ألفاً ذهباً.

    ودخل أهل سغي في طاعته بعد جوازه إلى الحج. وبطريقها رجع فابتنى مسجداً ومحراباً خارج مدينة كاغ صلى فيها الجمعة، وهي هنالك إلى الآن. وذلك عادته رحمه الله في كل موضع أخذته الجمعة فيها.

    وطرق تنبكت فملكها وهو أول ملوك ملكها وجعل خليفته فيها وابتنى بها دار السلطنة فسميت مع دك معناه في كلامهم دار السلطان، والموضع معروفة الآن. وصارت مجزرة للجزارين.

    قال أبو عبد الله محمد بن بطوطة في رحلته رحمه الله تعالى كان السلطان منسى موسى يعني مل كُي كنكن موسى لما حج نزل بروض لسراج الدين بن الكويك أحد كبار التجار من أهل الاسكندرية ببركة الحبش خارج مصر. وبها نزل السلطان واحتاج إلى مال فتسلقه من سراج الدين هذا وتسلف منه امراؤه أيضاً. وبعث معهم سراج الدين وكيله يقتضي المال فأقام بملي فتوجه سراج الدين بنفسه لاقتضاء ماله ومعه ابن له. فلما وصل تنبكت أضافه أبو إسحاق الساحلي. فكان من القدر موته تلك الليلة. فتكلم الناس في ذلك واتهموا أنه سُم. فقال لهم ولده إني أكلت معه ذلك الطعام بعينه فلو كان فيه سم لقتلنا جميعاً، لاكنه انقضى أجله. ووصل الولد إلى ملي واقتضى ماله وانصرف إلى ديار مصر.

    قال فيه وبهذه البلدة قبر أبي إسحاق هذا وهو الشاهر [الشاعر] المعاني الغرناطي المعروف ببلده بالطويجن. وبها أيضاً قبر سراج الدين المذكور. انتهى كلامه.

    وفي رابع وخمسين بعد سبعمائة سنة والله أعلم قدم الشيخ أبو عبد الله صاحب الرحلة تنبكت.

    وقيل أن السلطان كنكن موسى هو الذي بنى صومعة الجامع الكبير التي بها. ثم غزا إليها في أيام دولتهم سلطان موش في جيش عظيم فخاف منهم أهل ملي وهربوا وتركوا البلد لهم، فدخل فيهم وأفسدها وحرقها وخربها وقتل من قتل وأكل ما فيها من الأموال وولى إلى أرضه. ثم رجع إليها أهل ملي وملكوها مائة عام.

    قال العلامة الفقيه أحمد بابا رحمه الله تعالى خربت تنبكت ثلاث مرات: الأولى على يد سلطان موش والثانية على يد سُنِ علي والثالثة على يد الباشا محمود بن زرعون. قال وهي أضعف الأوليين وقيل سفك الدماء في خراب سُن علي أكثر منها في خراب صاحب موش.

    وفي آخر دولة أهل ملي بتنبكت أخذ توارق مغشرن يغيرون عليهم ويفسدون في الأرض من كل جهة ومكان. وسلطانهم أكِلّ أكملوَل. فتشوشوا من كثرة ضررهم، وأذايتهم ولا يقفون لهم للمقاتلة. قالوا البلد الذي لا يدفع عنهى سلطانها لا يجوز له ملكها فسلّموا فيها ورجعوا إلى ملي. فملكها أكلّ المذكور أربعين عاماً تتمّة.

    الباب الرابع

    ذكر مملكة ملي

    أما ملي فإقليم كبير واسع جداً في المغرب الأقصى إلى جهة البحر المحيط. وقَيَمَغَ هو الذي بدأ السلطنة في تلك الجهة، ودار إمارته غانة، وهي مدينة عظيمة في أرض باغن. قيل أن سلطنتهم كانت قبل البعثة فتملك حينئذ اثنان وعشرون ملكاً، وبعد البعثة اثنان وعشرون ملكاً. وعدد ملوكهم أربعة وأربعون ملكاً، وهم بيضان في الأصل ولكن ما نعلم من ينتمي إليه في الأصل. وخدامهم عكريون.

    فلما انقرضت دولتهم خلفها في السلطنة أهل ملي وهم سودان في الأصل فوسعت سلطنتهم كثيراً جداً فملكوا إلى حد أرض جني وفيها كَلَ وبندك وسِبرِدك في كل من الثلاثة اثنا عشرة سلطاناَ. أما سلاطين كَلَ فمنهم ثمانية كلهم في جزيرته، أولهم في حد أرض جني متجاور بها وهو ورُن كي، ثم ونزُ كي، ثم كمِي كُي، ثم فدكُ كي بالدال الساكنة ويقال بالراء أيضاً، ثم كِركُ كي، ثم كَو كي، ثم فرما كي ثم زُنَ كي، هؤلاء ثمانية.

    وأما الأربعة فهم على وراء البحر من جهة الشمال، أولهم كوكِرِ كي وهو في حد أرض زاغ من جهة المغرب، ثم يار كي، ثم سَنَ كي، ثم سام كي ويقال له سنبَنبَ وفال فرن هو رئيسهم، وهو الذي يتقدمهم عند سلطان ملي إذا اجتمعوا ويشاوره عنهم.

    وأما سلاطين بندُكُ فكلهم في وراء البحر من جهة اليمين، أولهم في حد أرض جني أيضاً متجاور بها وهو كَو كي، ثم كعن كي، ثم سَمَ كي، ثم تَرَ كي، ثم داع كي، ثم أمَ كي، ثم تعب كي ونسيت الخمسة.

    وأما سلاطين سبدك فهم وراء هؤلاء متجاورون إلى جهة ملي.

    وملك سغي وتنبكت وزاغ وميمة وباغن وما أحوازها إلى البحر المالح فكان أهلها في قوة عظيمة وبطشة كبيرة التي جاوزت الحد والغاية. وله قائدان أحد منهما صاحب اليمين يسمى سنفر زومع، والآخر صاحب الشمال يسمى فرن سُرا. وتحت يد كل واحد منهما كذا وكذا من القياد والجيش حتى أورث ذلك الطغيان والتجبر والتعدية في أواخر دولتهم فأهلكهم الله تعالى بعذاب من عنده، فظهر لهم في يوم واحد ضحوة في دار سلطنتهم جند الله تعالى في صور الأطفال الآدميين، فأعملوا فيهم السيوف حتى كادوا أن يفنوهم. ثم غابوا في ساعة واحدة بقدرة العزيز المقتدر ولا يدري أحد من أين جاؤا ولا أين ذهبوا.

    فمن يومئذ دخل فيهم الضعف والوهن إلى دولة أمير المؤمنين أسكيا الحاج محمد. فواصلهم هو وأولاده بعده بالغزو التي لم يبق فيهم من يرفّع رأسه. وتفرقوا ثلاثة فرق كل واحد في طرف الأرض بطائقته يزعم أنه سلطان وخالف عليهم القائدان فاستقل كل واحد منهما بنفسه في أرضه.

    وفي قوتهم في أيام دولتهم الغلبة راموا أن يدخل أهل جنى في طاعتهم فلم يقبلوا ذلك لهم. فصار أهل ملي يغزوهم بغزوات كثيرات ومعارك هائلاة شديدات معدودات إلى تسعة وتسعين مرة. وكل ذلك يغلبهم أهل جني. وذكر في الأخبار أنه ولا بد تكمّل مائة بينهما في آخر الدهر وأن أهل جني هم الغالبون أيضاً يومئذ.

    الباب الخامس

    ذكر جني ونبذة من أخبارها

    وهي مدينة عظيمة ميمونة مباركة ذات سعة وبركة ورحمة، جعل الله ذلك في أرضها خلقاً وجبلة وطبيعة، أهلها التراحم والتعاطف والمواساة. ولكن المنافسة على الدنيا كانت من أخلاقهم جداً، حيث إذا زادت لأحد جاه بينهم أجمعوا على بغضه من غير أن يظهروه له ولا يتبين إلا إذا وقع من صروف الزمان، والعياذ بالله. فساعتئذ يبدي كل واحد ما عنده من قول البغض وفعله.

    وهي سوق عظيم من أسواق المسلمين. وفيها يلتقي أرباب الملح من معدن تغاز وأرباب الذهب من معدن بيطُ، وكلا المعدنين المباركين ما كانت مثلهما في الدنيا كلها. فوجد الناس بركتها في التجارة إليها كثيراً وجمعوا فيها من الأموال مالا يحصيه إلا الله سبحانه.

    ومن أجل هذه المدينة المباركة تأتي الرفاق من جميع الأفاق إلى تنبكت شرقها وغربها يمينها وشمالها وهي لتنبكت في وراء البحرين بين المغرب واليمين في جزيرة البحر متى فارض، ومتى رجع تباعد عنها الماء. والوقت الذي تحيط بها من أغشت والذي تباعد عنها من فبراير.

    أصل بنائها موضع يقال له زبر. ثم ارتحلوا منها إلى المكان الذي هي له اليوم. والموضع الأول بقربها من جهة اليمين. وهي محيطة بالسور، ولها إحدى عشر باباً. ثم سدوا الثلاثة فبقي على ثمانية أبواب. وإذا كنت بعيداً عنها من خارج لا تحسبها إلا غابة من كثرة الأشجار فيها. وإذا دخلت فيها كأنها ما فيها شجرة واحدة.

    ابتدأت في الكفر في أواسط القرن الثاني من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. ثم أسلموا عند تمام القرن السادس، والسلطان كنبر هو الذي أسلم وأسلم أهلها بإسلامه. ولما عزم على الدخول في الإسلام أمر بحشر جميع العلماء الذين كانوا في أرض المدينة فحصل منهم أربعة آلاف ومائتان عالماً، فأسلم على أيديهم، وأمرهم أن يدعوا الله تعالى بثلاث دعوات لمدينة تلك. وهي أن كل من هرب إليها من وطنه ضيقاً وعسراً أن يبدلها الله له سعة ويسراً حتى ينسى وطنه ذلك، وأن يعمرها بغير أهلها أكثر من أهلها، وأن يسلب الصبر من الواردين إليها للتجارة في ذات أيديهم لكي يملوا منها فيبيعونها لأهلها بناقص الثمن فيربحون بها. فقرءوا الفاتحة على هذه الدعوات الثلاث. فكانت بقبولة وهي كائنة إلى الآن بالمشاهدة والمعاينة.

    ولما أسلم خرب دار السلطنة وحوّلها مسجداً لله تعالى وهو الجامع وأنشأ الأخرى لسكناهم وهي في مجاورة الجامع في جهة المشرق. وأرضها منعمة عامرة معمرة بالأسواق في أيام الأسبوع كلها. وقيل أن في ذلك الأرض سبعة آلاف قرية وسبعة وسبعين قرية متقاربة بعضها إلى بعض. وكفاك في المقارنة أن السلطان إذا احتاج إلى حضور من كان بقرب بحر دب في قريته خرج الرسول إلى باب السور فنادى الذي يريد حضوره، فيمشي الناس النداء له من قرية إلى قرية، فتبلغه في الساعة ويحضر. كفى بهذا عمارة.

    وحد أرضها عرضاً من كِيَكي قرية في قرب بحر دب من جهة اليمين إلى يَو بلد في مجاورة أرض وُرُنَّ كي، وطولاً من تيني بلد في حد أرض سلطان كابر إلى وراء جبال تنبلا قبيلة من قبائل المجوسيين كثيراً جداً.

    وللسلطان اثنا عشر أمراء الأجناد في جهة المغرب في أرض سنا لا يرصدون إلا غزو ملي كي. ويقاتلون جنده متى جاءوا بلا استئذان السلطان. منهم يَوس وسُناسُرُ وماتِغ وكرمو وغيرهم، وسَن فرن هو بئيسهم. وكذلك له اثنا عشر أمراء الأجناد أيضاً في جهة المشرق وراء البحر من ناحية تِنِلي. ولما توفي السلطان كُنبُرُ، رحمه الله تعالى الذي في السلطنة هو الذي جعل الأبراج على الجامع والذي خلف هذا، هو الذي بنى السور الذي يدور بالجامع. وأما سلطان آدم فهو من أفضل سلاطينهم.

    ومن حين كانت المدينة ما غلب أحد أهلها من الملوك إلا شي علي وهو الذي طوّعهم وملكهم بعد ما حاصرهم في تلك المدينة سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام على ما قال أهلها. ومحلته في زُبر يقاتلونهم كل يوم حتى يدور بهم البحر، فيرتحل بجيشه إلى موضع يقال له تِبكة شي، سميت بذلك لأجل مكثه. فيها فيمكثون هنلك ويحرثون إلى أن ييبس الماء، فيرجعون إلى زبر للمقاتلة. وهم كذلك إلى العدد المذكور من الأعوام.

    فحدثني به السلطان عبد الله بن السلطان أبي بكر حتى وقعت المجاعة في أهلها ونقصت قوتهم. ومع ذلك يكابرون بحيث لم يعلم شن علي في أحوالهم شيئاً. فعمل وعزم الرجوع إلى سغي. فبعث له واحد من كبراء جيش سلطان جني، قيل هو جد أنس مان سري محمد، فأخبره بأسرارهم ومنعه عن الرجوع حتى يرا ما يؤول إليه أمرهم. فتصبر وزاد في الحرص.

    ثم شاور السلطان قياده وكبراء جيشه في التسليم لسي علي فوافقوه على ذلك فبعث المرسول إليه بذلك، فأنعم وقبل. ثم خرج إليه مع كبراء جيشه فلما قرب إليه نزل ومشى إليه برجله فلقيه بالترحيب والإكرام. فلما رآه شاباً حديث السن قبضه وأجلسه إلى جنبه فوق بساطه فقال: المقاتلة مع الولد في هذا الزمن كله. فأخبره خدامه أن والده مات في اثناء الفتنة فخلفه في السلطنة. هذا هو السبب في مجالسة سلطان سغى مع سلطان جني على بساط واحد إلى الآن.

    فخطب منه أمه وتزوجه. قال لي السلطان عبد الله هذا الزواج هو الذي زاد السبعة الأيام على العدد المذكور فبعث مس علي حصان سرجه لركوب زوجته إليه في المحلة. فلما وصلته رد الحصان لسلطان جني عطية مع جميع آلائه، وهن عند أهل جني إلى الآن. فارتحل راجعاً إلى سغي مع زوجته.

    وحدثني بعض الإخوان أنه سمع ولي الله تعالى الفقيه محمد عريان الرأس رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته يقول حاصر سن علي مدينة جني أربع سنين، فما نال من أهلها نيلاً. وما ذلك إلا أن الخلفاء الأربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم أجمعين يحرسوه تلك المدينة، كل واحد منهم على ركن واحد من أركانها الأربع، إلى ليلة واحدة ظلم واحد من كبراء الجيش مسكيناً ظلماً فاحشاً فسلّموا في المدينة. وفي غدها فتحها سن علي وملكها وفعل بها ما شاء. وقال الشيخ المذكور أن أرباب القلوب الذين ينظرون بنور الله كائنون في هذا الإقليم يومئذ.

    وحدثني بعض الإخوان أن ذلك الظلم الذي ارتكبها ذلك الجيشي هو أن واحداً ضعيفاّ مسكيناّ غصب منه زوجته واصطفاها لنفسه وغلب عليها بالفحشاء، والعياذ بالله. فلذلك عاقب الله الجميع وسلب منهم ملكهم. ورأيت في خط بعض المعتبرين من الطلبة أن سن علي أقام بجني عاماً واحداً وشهراً واحداً ولم يبين أنه من هذه المرة أو من مرة أخرى.

    الباب السادس

    ذكر العلماء والصالحين والقضاة الذين سكنوا مدينة جني

    وقد ساق الله تعالى لهذه المدينة المباركة سكاناً من العلماء والصالحين من غير أهله من قبائل شتى وبلاد شتى.

    منهم مورمغ كنكي أصله تاي قرية بين بيغ وكوكر. فرحل إلى كابر لأخذ العلم، ثم رحل إلى جني في أواسط القرن التاسع، والله أعلم. كان فقيهاً عالماً صالحاً عابداً جليل القدر. وأسرع إليه الطلبة لاقتباس فوائده. وفي نصف ليل يخرج من داره إلى الجامع لنشر العلم. فيجلس الطلبة حوله يأخذون العلم إلى الإقامة لصلاة الصبح ثم يعودون إليه بعد الصلاة إلى الزوال وفيها يرجع لداره، ثم بعد صلاة الظهر كذلك إلى صلاة العصر. هكذا عادته مع الطلبة إلى يوم واحد، وهو في صلاة الصبح مع الإمام، سمع رجلاً بجنبه يدعوا في السجود وهو يقول: اللهم إن مورمغ كنكر ضاق علينا بلد، أرحنا منه. فلما سلّم قال: يا رب لا أعرف مضرتي للناس حتى يدعى علي. فارتحل ويمئذ من جني إلى كونا فنزل فيها. وسمع بخبره أهل جنج فبعثوا له القارب وارتحل فسكن في جنج إلى أن توفي، رحمه الله تعالى ونفعنا به. وقبره هنالك معروف يزار.

    ومنهم فودي الفقيه محمد ساقوا الونكري. كان فقيهاً عالماً عابداً صالحاً ولياً، فسكن جني في أواخر القرن التاسع، رحل من بلده في أرض بيط من أجل فتنة وقعت فيها، فتوجه إلى أرض جني. فبينما هو يسير ذات يوم حتى غربت عليه الشمس في موضع تأخر فيه لأجل صلاة المغرب وبسط برنسه وقام عليه يصلي، فلما فرغ من القريضة قام يصلي النوافل، فإذا اللصوص جاء عليه من ورائه فجبذ البرنس تحت رجله جبذاً رفيقاً. فنحي رجله ذلك عنه. ثم جبذه تحت الرجل لأخرى فنحاه عن بعضه وهو قائم ثابت لا يبرح. فخاف منه اللصوص ورد البرنس تحته على الحال الذي أخرجه، فتاب على يديه والله أعلم.

    فوصل في مسيره إلى بلد طورا وهو قرية بين جنى وشينَ من وراء البحر. فسكن فيه وبقي يأتي إلى جني كل يوم الجمعة لإداء فريضتها ولا بعرفه أحد. ثم إن واحداً من كبراء سلطانها رءا في منامه قائلاً يقول له: إن هذا الرجل الذي يأتيكم من طورا لصلاة الجمعة فأي بلد سكن فيها هو وذريته فهو أمان لها من الفتن، وأي بلد كان فيها قبره من توجه إلى أهلها بما يروّعهم روّعه بما هو أكبر منه. وبقي يرا تلك الرؤيا إلى ثلاث مرات. وفي المرة الثالثة نعته له، فأخبر السلطان بالرؤيا إلى آخرها. فأمره أن يرصده حتى يراه ويأتيه به. فلما رءاه، وقد توفرت فيه النعوت، أتى به إلى السلطان فقال له: هذه النعت التي رأيت.

    فأمره بالسكنى معهم في جني. فشرع في تخريب بيت الصنم الذي يعبده جاهليهم مع الديار التي هو في وسطها، لأنها بقيت على حالها من حين أسلموا خالية، وعدّها له دار السكنى، فأعطاه إياها وعظمه وأكرمه غياة التعظيم والإكرام. ومع ذلك كله لا يعشاهم في ديارهم ولا يجالسهم، فراوده بذلك السلطان غير مرة فلم يجده منه. ثم إن يوماً واحداً جاءه رجل واحد من أهل طاعة السلطان بمأرب يريد منه أن يذهب معه إليه لإنقاذ روحه، وقد توعده بالقتل. فقال: ليس من عادتي أن آتيه. فقال له روحي على عنقك تخاصمك له به غداً بين يدي الله تعالى إن لم تذهب معي إليه. فلما سمع منه ذلك القول عظم عنده وحاوز العظمة، فذهب معه إليه في الحين والساعة عاجلاً سرعاً. فلما شوّر عليه تعجب من إتيانه فأذن له بالدخول، فأخبره بسبب مجيئه. قال: عفوت عنه مع قبيلته أجمع من كل ذنب وجناية ومن كل ما يلزمهم من وظائف السلطنة إلى آخر الدهر، لكن بشرط أن تأكل معي طعامي. فرضي، فلما أحضر الطعام بين أيديهما مد الشيخ يده إلى الطعام انتفخ يده انتفاخاً شديداً قبل دخوله في الطعام. قال له: رأيت ما جرى. فقام وخرج عزيزاً مكرماً. وترك السلطان ذلك الرجل وقبيلته كما وعد له. هذه عصمة من الله تعالى لأوليائه الصالحين.

    ولما رءاه ولي الله تعالى الفقيه سيدي محمود بن عمر ابن محمد أقيت حين سافر إلى جني عجبه حاله جداً، فأثنى عليه لما رجع لتنبكت. ولذلك ولاه أمير المؤمنين أسكيا الحاج محمد قضاء مدينة جني بعد رجوعه من الحج. وهو أول قاض فيها الذي يفصل بين الناس بالشرع. وقبل ذلك لا يتفاصل الناس إلا عند الخطيب بالصلح، وهو شأن السودانيين، والبيضان هم يتحاكمون عند القضاة. وتلك عادة جارية عندهم إلى الآن. وجميع ما ذكر في بركاته رءاها الناس وشاهدوه معاينةً. والدعاء مستجابة عند روضته على القطع، وهي رحبة الجامع عند محراب السور المحيط بها الشمالي، رحمه الله تعالى ورضي عنه وأعاد علينا من بركاته أمين.

    ومن أهله القاضي العباس كب جنوي بلداً وعكري أصلاً كان فقيهاً عالماً جليلاً فاضلاً خيراً سخياً، له قدم راسخ في السخوة. وقبره في داخل الجامع قريب إلى مؤخره من جهة اليمين، رحمه الله تعالى.

    ومنهم القاضي محمود بن أبي بكر بغيغ والد العالمين الفاضلين الصالحين الفقيه محمد بغيغ والفقيه أحمد بغيغ وهو جنوي بلداً ونكري أصلاً كان فقيهاً عالماً جليلاً تولى القضاء بعد وفاة القاضي العباس كب في العام التاسع والخمسين بعد تسعمائة على يد أسكيا إسحاق ابن الأمير أسكيا الجاد محمد بعد رجوعه من غزوة تَعبَ.

    ومنهم القاضي أحمد ترف بن القاضي عمر ترف جنوي الأصل. والبلد كان خطيباً، ثم جعل إمام الجامع، ثم قاضياً فجمع المراتب الثلاث. ثم مشى للحج واستناب الخطيب ماما على الخطيبية والإمام يحيى على إمامة الجامع والقاضي مودب بكر تروري على القضاء. فتوفي هنالك رحمه الله تعالى، وبقوا في تلك المراتب راتبين. أما القاضي بكر المذكور فهو كَمَوِي أصلاً من أولاد سلاطينها، فزهد في السلطنة وخدم العلم فنال بركته.

    ومنهم القاضي محمد بنب كنات ونكري الأصل، كان فقيهاً عالماً جليلاً، تولى القضاء بعد وفاة القاضي بكر تروري، فهو آخر القضاة في دولة السودانيين.

    فهؤلاء من علماء مدينة جني المشهورين ولم نوردهم في هذا الكتاب إلا لأجل شهرتهم بالعلم تبركاً بذكرهم.

    وأما ذكر القضاة على الترتيب فأولهم القاضي محمد فودي سانو، هم القاضن فوك، ثم القاضي كناجي، ثم القاضي تنتاع، عم القاضي سنقم، ثم القاضي العباس كب، ثم القاضي محمود بغيغ، ثم القاضي عمر ترف، ثم القاضي تلماكلس، ثم القاضي أحمد ترف بن القاضي عمر ترف، ثم القاضي موذب بكر تروري، ثم القاضي محمد بنب كنات. فهؤلاء قضاة من أول دولة أمير المؤمنين أسكيا الحاج محمد إلى آخرها. والقضاة بعدهم في المدينة المذكورة سيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى عند ذكر الدولة الأحمدية الهاشمية العباسية الملوية صاحب مراكش رحمه الله تعالى.

    وأما علماء البيضان فقد سكن فيها كثير من أهل تنبكت وسيأتي ذكر بعضهم إن شاء الله عند ذكر الوفيات في الدولة الأحمدية المذكورة.

    الباب السابع

    ذكر تنبكت ونشأتها

    فنشأت على أيدي توارق مقشرن في أواخر القرن الخامس من الهجرة. فنزلوا فيها راتعين. وفي وقت الصيف في ساحل البحر في قرية أمظغ ينزلون، وفي وقت الخريف يرتحلون ويصلون أروان منازلاً ويبدلون، وهي حدهم في العوالي. ثم اختاروا موضع هذه البلدة الطيبة الطاهرة الزكية الفاخرة ذات بركة ونجعة وحركة التي هي مسقط رأس وبغية نفس، ما دننستها عبادة الأوثان ولا سجد على أديمها قط لغير الرحمان، مأوى العلماء والعابدين ومألف الأولياء وازاهدين وملتقى الفلك والسيار. فجعلوها خزانة لمتاعهم وزروعهم إلى أن صار مسلكاً للسالكين في ذهابهم ورجوعهم. وخازنهم أمتهم مدعوة بتنبك، ومعناه في لغاتهم العجزة، وهي بها، فسميت الموضع المبارك بها.

    ثم أخذالناس يسكنون فيه ويزداد بقدرة الله تعالى وإرادته في العمارة ويأتيه الناس من كل جهة ومكان حتى صار سوقاً للتجارة. وأكثر الناس إليه وروداً للتسّق أهل وغد، ثم أهل تلك الجهة كلها. وكان التسوق قبل في بلد بير وإليه يرد الرفاق من الآفاق وسكن فيه الأخيار من العلماء والصالحين وذوي الأموال من كل قبيلة ومن كل بلاد، من أهل مصر ووجل وفزان وغدامس وتوات ودرعة وتفلالة وفاس وسوس وبيط إلى غير ذلك.

    ثم انتقل الجميع إلى تنبك قليلاً قليلاً حتى استكملوا فيه وزيادة مع جميع قبائل الصنهاجة بأجناسها. فكانت عمارة تنبكت خراب بير، ولم أتته العمارة إلا من المغرب، لا في الديانات ولا في المعاملات. فأول الحال كانت مساكن الناس فيه زريبات الأشواك وبيت الأخشاش. ثم تحولوا عن الزريبات إلى الصناصن. ثم تحولوا عنها إلى بناء الحيوط أسواراً قصاراً جداً، بحيث من وقف في خارجها يرا ما في داخلها. ثم بنوا مسجد الجامع على حسب الإمكان، ثم مسجد سنكري كذلك. ومن وقف في بابه يومئذ يرا من يدخل في مسجد الجامع لأجل تخلية البلد من الحيطان والبنيان. وما ثبتت عمارته إلا في أواخر القرن التاسع، وما تكاملت البناء في الالتئام إلا في أواسط القرن العاشر في مدة أسكيا داوود ابن الأمير أسكيا الحاج محمد.

    فأول من ابتدأ فيه الملك كما تقدم أهل ملي، ودولتهم فيه مائة عام، وتاريخه من عام سبعة وثلاثين في القرن الثمن ثم. توارق مغشرن ودولتهم أربعون عاماً، وتاريخه من عام سبعة وثلاثين في القرن التاسع. ثم سن علي، وتاريخه من عام ثلاثة وسبعين في القرن التاسع، ومدة ملكه فيه أربهة وعشرون سنة. ثم أمير المؤمنين أسكيا الحاج محمد، ودولته مع عقبه مائة عام وأحد، وتاريخه رابع عشر من جمادي الأخرى في العام الثامن والتسعين في القرن التاسع، وآخرها سابع عشر من جمادي الأخرى في العام التاسع والتسعين في اقرن اعاشر. ثم الشريف الهاشمي السلطان مولاي أحمد الذهبي، وتاريخه انقراض دولة أهل سغي، وهو السابع عشر من جمادي الأخرى في العام التاسع والتسعين في القرن العاشر. وكان ملكه فيه اليوم خمسة وستين سنة.

    أما أكِل سلطان توارق فقد بقي في أيام سلطنته على حالهم القديمة من سكني البرارى في الحلات ويتبعون المراتع، وقوض أمر البلد على تنبكت كي محمد نض، وهو صنهاجي من قبيلة آخر أصله شنجيط. وهو أصل جميع هذه القبيلة، كما أن أصل أهل ماسنة تشيت وأهل تفرَست بير، بعد ما خرجوا من الغرب. وأمه بنت سوم عثمان، وهو في دولة أهل ملي من أرباب هذا المكان. واللقب الذي تبدل بتبدل الدولة وبيده الأمر والنهي والقبض والدفع، وغير ذلك الحاصل هو حاكم البلد. فبنى المسجد المعروف وجعل صاحبه وحبيبه الولي الفاضل القطب الكامل سيدي يحيى التادلي إماماً فيه. فتوفيا معا في آخر هذه الدولة. وراء الشيخ محمد نض في آخر عمره في المنام ليلةً واحدة أن الشمس غربت فغاب القمر بعدها في فورها. فقصها على السيد فقال له: إن كنت لا تخاف عبّرتها لك. فقال: لا أخاف. قال: أموت وتموت بعدي بقرب. فاغتم ساعتئذ فقال: ألست قلت أنك لا تخاف؟ فقال: هذا الغم ليس من خوف الموت، إنما هو من حنانة على أولادي الصغار. فقال له: فوض أمرهم إلى الله تعالى. فمات سيدي يحيى فمن قليل مات هو، رحمهم الله تعالى. ودفن في مجاورة السيد في تلك المسجد. وقيل ذهب بصره في آخر عمره ولم يفطن به الناس إلا ليلة وفاة السيد. لما زوحم على جنازته أخذ يضرب الناس بالسوط وإذا كان بصيراً لا يضرب أولئك الناس.

    وبعد وفاته ولي السلطان أكِل ولده الأكبر عمار مقامه. ثم تبينوا في آخر دولتهم بالظلم الفاحش الكثير الطغيان الكبير، وبقوا يسعون في الأرض فساداً، ويخرجون الناس من ديارهم قهراً ويزنون بحرمائهم. وما هي عادتهم مع تنبكت كي من العطية منعه منها أكِل. وكل ما جاء من الغرامة فلتنبكت كي منها ثلثها عادة. ومتى جاء من الحالات ودخل في البلد يكسبهم منها ويضيعهم ويفعل فيها جميع مراواته، والثلثان يقسمها على خدامه القينين.

    وفي يوم واحد جاء ثلاثة آلاف مثقال ذهباً ففرقها عليهم بالعود في يده-وعادتهم أن لا يمسوا الذهب بأيديهم-ثلااثة فرق، فقالوا: هذا ثمن كسوتكم وهذا ثمن أسواطكم وهذا عطية لكم. قالوا له: هذا لتنبكت كي عادةً. قال: من هو تنبكت كي، وما يعني، وما فائدته؟ اذهبوا به فهو لكم.

    فعضب وجمع كيده في الانتقام منه، فبعث لسن علي سراً أن يأتي حتى يمكن له تنبكت فيملكه. وأضعف له أحوال أكل في كل شيء في قدره وفي جسمه، وبعث له نعله ليعلم حقيقته وهو رجل نحيف قصير جداً. فأنعم له سن علي. فبينما أكل وتنبكت كي عمر ذات يوم جالسين على تنبكة أمظغ فإذا خيل سن علي وقوف في ساحل البحر من جهة كرم. فعزم أكل على الهروب ساعتئذ، وهو هروبه إلى بير مع فقهاء سنكري. وأما وراء البحر ما دخل فيها ملك التوارق أصلاً. فشرع تنبكت كي في إرسال القوارب الذين يقطعون فيه. ثم جاء سن علي في جهة هَوص فهرب عمر إلى بير خوفاً من مؤاخذة سن علي مما صدر منه قبل من المخالفة. فقال لأخيه المختار بن محمد نض: هذا الرجل ولا بد ينتقم مني، وتأخر إلى الغد وامض إليه بنفسك كأنك تخبره به، وقل له من أمس ما رأينا أخي عمر ولا أحسبه إلا هرب. وإذا سبقت إليه بذلك الخبر لعل إن شاء الله يجعلك تنبكت كي، فتبقى دارنا في ستر الله. وإذا ما فعلت هذا التدبير لا بد يقتلني ويقتلك، ويحرب دارنا ويشتّت شملنا. فكان الأمر بقدرة الله وإرادته كما ظن عمر، وهو رجل عاقل فاطن لبيب. ثم دخل تنبكت وخربها كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره، بعد ذكر العلماء والصالحين الساكنين بتنبكت تبركاً بهم. أنالها الله تعالى بركاتهم في الدارين.

    الباب الثامن

    تعريف التوارق

    وهم المسوفة ينتسبون إلى صنهاجة. وصنهاجة يرفعون أنسابهم إلى حمير كما في كتاب الحلل الموشية في ذكر أخبار المراكشية. ونصه: هؤلاء لمتون ينتمون إلى المتونة وهم من أولاد لمت، ولمت وجدال ولمط ومسطوف ينسبون إلى صنهاجة. فلمت جد لمتونة، وجدال جد جدالة، ولمط جد لمطة، ومسطوف جد مسوفة، وهم ظواعن في الصحراء رحالة لا يطمئن بهم منزل، ليس لهم مدينة يأوون إليها، ومراحلهم في الصحراء مسيرة شهرين ما بين بلاد السودان وبلاد الإسلام. وهم على دين الإسلام وأتباع السنة، وهم يجاهدون السودان.

    وصنهاجة يرفعون أنسابهم إلى حمير، وليس بينهم وبين البربر نسب إلا الرحم، وإنهم خرجوا من اليمن وارتحلوا إلى الصحراء، وطنهم بالمغرب. وسبب أن أحد الملوك التبابعة لم يكن فيمن تقدمه من ملوك قومه مثله، ولم يبلغ أحد منهم في فضله وعزة ملكه وبُعد غوره ونكاية عدوه وقهره للعرب والعجم مبلغه. فأنسى جميع الأمم ممن كان قبله وكان قد أخبره بعض الأخبار بحوادث الأيام وبالكتب المنزلة من الله على رسوله عليه السلام وأن الله عز وجل يبعث رسولاً هن خاتم الأنبياء ويرسله إلى جميع الأمم، فآمن به وصدق بما يأتي به. قال فيه في أبيات من الشعر فقال:

    شهدت على أحمد أنه * رسول الله بارئ النسم

    فلو مد عمري إلى عمره * لكنت وزيراً له وابن عم

    في أبيات كثيرة قصتها مشهورة، وسار إلى اليمن ودعا أهل مملكته إلى ما آمن به فلم يجبه إلى ذلك إلا طائفة من قومه حمير. ولما مات غلب أهل الكفر أهل الإيمان فكان كل من آمن به مع تبع بين قتيل وطريد ومطلوب وشريد. فعند ذلك تلثموا لفعل نسائهم في ذلك الزمان، وفروا بأنفسهم وتفرقوا في الأقطار أيادي سبا. فكان خروخ سلف المتلثمين عن اليمن ما ذكر، وكانوا أول من تلثم. ثم انتقلوا من قطر إلى قطر ومن مكان إلى مكان باتقال الأيام والأزمان حتى صاروا بالمغرب الأقصى بلاد البرابر. فاحتلوا بها واستوطنه، وصار اللثام زيهم الذي أكرمهم الله به ونجاهم لأجله من عدوهم، فاستحسنوه ولازموه وصار زياً لهم ولأعقابهم، لا يفارقونه إلى هذا العهد. فتبربرت ألسنتهم بمجاورتهم البرابر وكونهم معهم ومصاهرتهم إياهم. والأمير أبو بكر بن عمر بن إبراهيم أبن تورقيت اللمتوني الذي خط مدينة حمراء مراكش هو الذي أخرجهم من المغرب إلى الصحراء لما غارت جدالة على لمتونة. واستخلف حينئذ ابن عمه يوسف بن تاشفين على المغرب. انتهى منه باختصار.

    الباب التاسع

    ذكر معض العلماء والصالحين الذين سكنوا مدينة تنبكت

    ذكر بعض العلماء والصالحين الذين سكنوا تنبكت سلفاً وخلفاً، رحمهم الله تعالى ورضي عنهم ونفعنا ببركاتهم في الدارين، وذكر بعض فضائلهم ومآثرهم. وكفى في ذلك ما رواه الشيوخ الثقات عن الشيخ العالم الفاضل الصالح الولي ذي الكرامات والعجائب الفقيه القاضي محمد الكابري، رحمه الله تعالى أنه. قال: أدركت من صالحي سنكري من لا يقدم عليه في الصلاح أحد إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين.

    منهم الفقيه الحاج جد القاضي عبد الرحمان بن أبي بكر بن الجاج، تولي القضاء بتنبكت في أواخر دولة أهل ملي، وهو أول من أمر الناس بقراءة نصف حزب من القرآن للتعاليم في جامع سنكري بعد صلاة العصر وبعد صلاة العشاء. جاء هو وأخوه السيد الفقيه إبراهيم من بير فسكن في بنك، وقبره معروف هنالك يزار. قيل أنه من الأبدال. وروي عن شيخنا الفاضل الزاهد الفقيه الأمين بن أحمد أنه قال: جاءت غزوة سلطان موش في زمانه إلى بنك فخرج الناس إلى قتاله، ووجد الحال أن الجماعة قعود عنده ساعتئذ. فتكلم بما تكلم على شيء من الدخن وأمرهم بأكله فأكلوه إلا واحد منهم وهو صهره فاستحي لأجل المصاهرة. وقال لهم: اذهبوا إلى القتال ولا يضركم من سهامهم. فسلموا جميعاً إلا الرجل الذي لم يأكله فمات من ذلك القتال. فانهزم سلطان موش وطردوه مع جيشه، وما نالوا من أهل بنك ببركة هذا السيد المبارك.

    ومنه تنسل ولي الله تعالى الفقيه إبراهيم بن ولي الله تعالى الفقيه القاضي عمر الساكن يِندِبُغ وهما من عباد الله الصالحين. أسكيا الحاج محمد هو الذي ولاه قضاء تلك الناحية. وله ابن أخت كان يزور تنبكت بعض الأحيان فاشتكى به القاضي الفقيه محمود عند الأمير أسكيا الحاج محمد أنه ينقل كلامهم إلى أهل يندبغ على وجه النميمة. فلما نزل تِلَ جاءه الفقيه القاضي عمر في جماعته من أهل يندبغ للسلام عليه، فسأل عن ابن أخته قالوا له: هاهو ذا قال له: أنت الذي تنقل الكلام بين الفقيه محمود وبين خالك بالنميمة. فغضب القاضي عمر وقال له: أنت هو النمام الذي جعلت القاضي في تنبكت وجعلت القاضي في نيدبغ فقام مغضباً فسار نحو المرسى. قال لأصحابه: نسير ونقطع البحر ونمشي في حالنا. فلما وصل البحر أراد أن يدخل فيه. قالوا له: القارب ما كانت الساعة، اصبر حتى يجيئ. قال: ولو لم يكن. ففهموا منه أنه يقطع البحر بلا قارب، فأمسكوه وأجلسوه حتى جاء القارب وقطعوا معه، رحمهم الله ونفعنا بهم آمين.

    ومنهم الفقيه أبي عبد الله أند غمحمد بن محمد بن عثمان بن محمد بن نوح، معدن العلم والفضل والصلاح. ومنه تنسل كثير من شيوخ العلم والصلاح، منهم من جهة الآباء ومنهم من جهة الأمهات، ومنهم من جهتهما معاً. فهو عالم جليل قاضي المسلمين. قال العلامة الفقيه أحمد بابا رحمه الله: هو أول من خدم العلم من أجداده فيما أعلم، وهو جد جدي لأمه أبي أم جدي. تولى القضاء بتنبكت في أواسط القرن التاسع. قلت: وذلك في دولة التوارق. ثم عمر والد جدي فكان فقيهاً عالماً صالحاً، قرأ على الفقيه الصالح القاضي مودب محمد الكابري. انتهى كلام الفقيه أحمد بابا مختصراً.

    ومنهم ولد الفقيه المختار النحوي العالم بلك فن من فنون العلم. عاصر هو وابوه مع الفقيه العالم القطب ولي الله تعالى سيد يحيى التادلسي رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. توفي رحمه الله تعالى في أواخر العام الثامنيث والعشرين بعد تسعمائة.

    ومنهم ولده أيضاً الفقيه عبد الرحمن عالم التهذيب للبرادعي التقي الحليم، ولم يترك عقباً إلا ابنة واحدة.

    ومنهم حفيده أبو العباس أحمد بُريُ بن أحمد بن أند غمحمد العالم التقي المقلل من الدنيا المتواضع لله تعالى. أخذ عنه العلم جماعة كثيرة من شيوخ العلم من المتأخرين من أهل سنكري رحمه الله تعالى.

    ومنهم حفيده أبو عبد الله أند غمحمد بن الفقيه المختار النحوي بن أند غمحمد إمام مسجد سنكري. سلم فيها شيخ الإسلام أبو البركات الفقيه القاضي محمود عند كبر سنه، فولاه إياها. وهو عالم تقي ورع متواضع واثق بالله شهير في علم العربية مادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم مسرد لكتاب الشفاء للقاضي عياض رحمه الله تعالى في رمضان في مسجد سنكري، رحمه الله تعالى.

    ومنهم أبو عبد الله محمد بن الإمام أند غمحمد المادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم المسرد لكتاب الشفاء للقاضي عياض بعد موت أبيه في مسجد سنكري إلى أن مات، رحمه الله تعالى.

    ومنهم الفقيه المختار بن محمد بن الفقيه المختار النحوي بن أند غمحمد المادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم المنفق عن المداحين في ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ويطرب لذلك غاية الطرب، ويبذل جهده فيه إلى أن مات رحمه الله تعالى.

    ومنهم ابنه الفقيه محمد سن بن الفقيه المختار شيخ المداحين، فقام به أحسن قيام بالسكينة والوقار على الدوام والاستمرار إلى أن توفي رحمه الله تعالى. كان خيراً فاضلاً تقياَ زاهداً ورعاً ذا مروة ووفاء وعهد، لازمته من حين الطفولية إلى انقضاء عمره والحمد لله على ذلك. وهو من ذرية الفقيه أند غمحمد الكبير من جهة الأب، والأم وأمه بنت الفقيه الإمام أند غمحمد. وكذلك الفقيه القاضي محمد قرينك وأخوه الفقيه القاضي سيد أحمد. أمهما بنت الفقيه الإمام أند غمحمد وأبوهما الفقيه أند غمحمد بن الفقيه أند غمحمدن بن أحمد بري بن أحمد بن الفقيه أند غمحمد الكبير. ولهذا الإمام المبارك خمس بنات مباركات، كلهن ولدن رجالاً مباركين، هاتان المذكورتان، الثالثة أم شيخ الشيوخ إمام مسجد سنكري الفقيه محمد بن محمد كري، والرابعة أم حامل كتاب الله تعالى محمد بن يُمذغربين، والخامسة أم أحمد ماتن بن أسِكل أخ تاكُرَي.

    ومنهم أبو العباس الفقيه أحمد بن أند غمحمد بن محمود بن الفقيه أند غمحمد الكبير الزكي الفطن العالم بفنون العلم من الفقه والنحو والأشعار وغير ذلك، رحمه الله تعالى.

    ومنهم أبو محمد عبد الله بن الفقيه أحمد بُريُ بن أحمد بن الفقيه أند غمحمد الكبير، وهو من ذريته من جهة الأب والأم، لأن أمه أخت الفقيه أبي العباس أحمد بن أند غمحمد. كان مفتياً في زمنه نحوياً لغوياً متواضعاً، شهر في زمنه بعلم القرآن والتوثيق، رحمه الله تعالى.

    ومنهم أسباطه الثلاثة شيوخ الإسلام الأئمة الأعلام: الفقيه عبد الله والفقيه الحاج أحمد والفقيه محمود أبناء الفقيه عمر ابن محمد أقيت. قال فيهم العارف بالله تعالى القطب سيدي محمد البكري: أحمد ولي، محمود ولي، عبد الله ولي. لو لا أنه في قرية، وقد بقي في تازخت حتى توفي فيه. ووصى أن لا يغسله أحد إلا تلميذه إبراهيم جد حبيب بن محمد بابا. فأتى ووجد سراجاً نوقداً عنده فقال لأهل بيته: اين سبحة الشيخ؟ فأتي به. فأمر بإطفاء السراج فوضع السبحة في مكان، فسطع منها نور أضاءت البيت حتى فرغ من الغسل.

    وأما الحاج أحمد فوهو من عباد الله الصالحين والعلماء العاملين.

    وأما محمود فهو صاحب كرامات وبركات كثيرات. وكم نودي في مواظن الغيبة لتفريج الشدائد والملمّات. فحضر ونفذ، وبعد ما دفن أخوه الأكبر الحاج أحمد رحمه الله تعالى ونفعنا به ورجع لداره صار حزيناً جداً، بحيث يعزيه الناس ولا يفطن لهم. فلما حاذا بدار عثمان طالب تنفس الصعداء وقال: الآن افترق أخي أحمد مع الملائكة. وعلم الناس أنه يشاهدهم، ولذلك تحزن. وهذا نوع عظيم في الكرامات والمكاشفات. وروي عن الفقيه المصلي وهو من أكبر شهود مجلسه واسمه الفقيه أند غمحمد بن ملوك بن أحمد بن الحاج الدليمي من أهل الزاوية في المغرب، وهو سمي جد الفقيه محمود من أمه، ولقب بالمصلي لكثرة صلاته في المسجد، أنه قال: عزمت على خطبة ابنة منه فكتبت البراءة مني فعزمت متى خرج جميع جلسائه وبقيت أنا وهو أعطيتها إياه. فلما تخاليت معه بداني بالكلام وقال: الطيور التي يتّحد جنسها هي التي تجمع في الطيران. فعلمت حينئذ أنه كوشف على ما عزمت عليه فتركتها. وتوفي المصلي رحمه الله سنة خمس وتسعين وتسعمائة، بعد ما أخذ العلامة الفقيه القاضي أبو حفص عمر سنتين في القضاء.

    ومنهم أبو حفص عمر ابن الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت النحوي المادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم صباحاً ومساءً، المسرد لكتاب الشفاء في كل يوم رمضان في مسجد سنكري، الواصل لرحمه المتعاهد لأقاربه، يتفقدهم في صحتهم ويعودهم في مرضهم، المنشر وجهة للخاصة والعامة، المتوفي شهيداً في مدينة مراكش. رحمه الله تعالى ورضي عنه، وبرد ضريحه وأسكنه أعلى الفراديس فسيحه.

    ومنهم أخوه أبو بكر المعروف بأبكر بير بن الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت العالم الزاهد المتصدق المنفق على الأيتام والتلاميذ، المتغرب في أيام دولته مع جميع عياله وأولاده إلى مجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وسكن المدينة المشرفة إلى أن مات مع كافة عياله في جوار المصطفى صلى الله عليه وسلم. وقد عزم على ترحيلهم حين حج في المرة الأولى حتى برز بجميع العيال وانفصل بهم عن البلد. فانتزعهم منه القاضي العدل العاقب، وعلم أنه لا يرجع إليهم، ولا يحب مفارقته إلى المرة الثانية. بعد وفاة العاقب رحل بهم جميعاً وجاور في المدينة المشرفة إلى أن ماتوا كلهم. ومن كرامته أن أخاه العلامة الفقيه أحمد بن الجاج أحمد طلب من أبي البركات ولي الله تعالى القطب سيدي محمد البكري رحمهم الله تعالى ورضي عنهم أن يريه ولياً من أولياء الله الذي يتوسل به إليه سبحانه. فأنعم له إلى ليلة واحدة بعد ما صلى العشاء الآخرة في جامع الأزهر أراد أن يخرج، وهو ممسك بيد الفقيه أحمد، فوضع يده ذلك على رأس رجل جالس فيه في الظلام. فقال هاهو مطلوبك. فجلس بين يديه وسلم عليه، فإذا هو أخوه أبكر بير فتحدث معه قليلاً. ثم خرج ووجد ذلك السيد واقفاً في باب الجامع ينتظره. فقال: هذا الذي أريتني. فقال: هاهنا يصلي العشاء الآخرة كل ليلة.

    ومنهم أخوه العلامة المحدث الفقيه أحمد بن الحاج أحمد عمر بن محمد أقيت العالم الجميل الفصيح الذي كمل الله له أوناع الجمال كلها خلقاً ولوناً وصوتاً وخطاً وفصاحة، البارع في علم الأدب والفقه والحديث، المادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، المسرد للصحيحين في مسجد سنكري، المحبب إلى جميع الخلق، العزيز عندهم. وكفى في عزه وشرفه ما خاطبه به السيد الولي الصالح أبو عبد الله محمد البكري في قصيدته المرسلة إليه حين غاب عنه. وذلك قوله رضي اله عنه ونفعنا به:

    أحبّتنا والله إني على عهدي * وحبي لكم حبي وودّي لكم ودي

    ولم أنس أيام التداني وطيبها * وأوقاتنا ما بين عور إلى جدي

    وإني على ذكري لكم وتوجهي * إلى الله فيما ترتحبون من الرفدي

    وأسأله في كل وقت مكرم * بتحقيق ما تبغون من واسع المدّي

    لعمر ودين ثم أولادكم وما * ترومون من فضل يفيض بلا حدي

    ومنهم أولاد شيخ الإسلام أبي البركات ولي الله تعالى الفقيه القاضي محمود ابن عمر بن محمد أقيت: القاضن محمد، والقاضي العاقب، والقاضي عمر، والفقيه عبد الله والولي الزاهد الفقيه عبد الرحمن. قال بركة الإسلام الفقيه مسر أند غمحمد والشيخ الفاضل الفقيه مسر بير ما فضلنا محمود بن عمر إلا بالأولاد الصالحين انتهى.

    أما القاضي محمد فكان عالماً جليلاً فهاماً ذكياً، وليس له نظير في عمره في الفهم والدهاءة والعقل. وساعدته الدنيا، وما أصبح في ليلة ولادته إلا وألف مثقال هباً، بات في ملكه من ضيافة الرجال الذين فرحوا بولادته/ لأنه أول مولود ذكر لأبي البركات الفقيه محمود.

    وأما القاضي العاقب فكان عالماً جليلاً ثاقب الذهن، قوي القلب، صليب في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم، ذا فراسة إذا تكلم في شيء، لا يخطئ كلامه، كأنه ينظر في الغيب. قد ملأ أرضه بالعدل بحيث لا يعرف له نظير في ذلك من جميع الأفاق.

    وأما أبو حفص القاضي عمر قد برع في علم الحديث والسير والتواريخ وأيام الناس. وأما الفقه فقد بلغ فيه الغاية القصوى، حتى قال بعض من عاصره الشيوخ أنه لو كان موجوداً في زمن ابن عبد السلام بتونس لاستحق أن يكون مفتياً فيها.

    وأما عبد الله فهو عالم فقيه مدرس متقلل من الدنيا مع ما بسط الله تعالى له فيها من الرزق حتى كاد أن لا يعرف نهايته.

    وأما الشيخ الصالح الولي الناصح العارف بالله تعالى ابنه الناسك العابد الزاهد الورع الواعظ أبو زيد عبد الرحمن. كان فقيهاً عالماً معرضاً عن الدنيا بكليته، بحيث لم يقبلها ولو في لحظة واحدة، ذا مكاشفات. وأصحاب مدرسته يحكون عنه في ذلك حكايات كثيرات من ذلك ما روي بالتواتر أن محملة الباشا جودار لما برزت من مراكش أشار بها لأهل تنبكت يومئذ، وهو يوم الأربعء الثاني من المحرم فاتح عام التاسع التسعين بعد تسعمائة. فلما صلى بالناس الظهر وجلس في مدرسته قال بالله بالله بالله لتسمعن في هذا عالم ما لم تسمعوا بمثله قط ولترون في ما لم تروا بمثله قط. وفي جمادي الأولى منه ورد السودان وفعلوا ما فعلوا. والعياذ بالله من مثلها. هكذا يفعل منها كثيراً.

    ومنهم الفقيه العالم الرباني الولي الصالح أبو العباس أحمد بن الفقيه محمد السيد بسط الفقيه محمد، المشهور بالعلم في زمنه، وحضر مجلسه جماعة كثيرة من شيوخ العلم للأخذ عنه، منهم القاضي عمر بن الفقيه محمود، والفقيه محمد بغيع الونكري، وأخوه الفقيه أحمد يغيع، والفقيه محمود كعت، والفقيه محمد كب بن جابر كب وغيرهم. وذهدوا له بالعلم والسيادة والورع والصلاح رحمه الله تعالى وأبقى بركته علينا وعلى المسلمين.

    ومنهم حفيده الفقيه العالم أبو بكر بن أحمد بير بن الفقيه محمود، كان فاضلاً خيراً تاقياً صالحاً، نشأ به وشهد له بذلك أعمامه الصالحون واتفقوا على تقديمه للصلات بالناس حين مرض الإمام القاضي العاقب رحمه الله تعالى.

    ومنهم الفقيه العالم العلامة فريد دهره ووحيد عصره البارع في كل فن من فنون العلم أبو العباس أحمد بابا بن الفقيه أحمد بن الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت. فجد واجتهد في بداية أمره بخدمة العلم حتى برع جميع معاصره وفاق عليهم جداً، ولا يناظر في العلم إلا أشياخه، وشهدوا بالعلم. وفي الغرب اشتهر أمره وانتشر ذكره، وسلم له علماء الأمصار في الفتوى وكان. وقّاناً عند الحق، ولو كان من أدنى الناس، ولا يداهن فيه ولو للأمراء والسلاطين. واسم محمد مكتوب في عضده الأيمن في الخلقة بخط أبيض. وجميع من ذكرنا بعد ذكر الشيخ المبارك الفقيه أند غمحمد الكبير إلى هنا فهم من نسله المباركين وذريته الصالحين، رحمهم الله تعالى ورضي عنهم ونفعنا ببركاتهم في الدارين.

    وأما جد الفقيه محمود محمد أقيت فهو من أهل ماسنة، وسمعت العلامة الفقيه أحمد بابا رحمه الله أنه قال: ما رحّله منها إلى بير إلى بغض الفلانيين وهم متجاورون في سكناها وقال عنه أنه على يقين من عدم مناكحته معهم ولكن يخاف ذلك على أولاده لئلا يتناسلوا معهم. انتهى كلامه.

    ثم بعد ذلك خطر له حب سكنى تنبكت وأكِل هو سلطانه يومئذ. فارتحل من بير ونزل بحلته بينه وبين رأس الماء. ثم تحدث مع جد مسر أند عمر وأخبره به. فقال له: ما يمنعك منه؟ قال: أكِل، فأتت بيني وبينه عداوة كبيرة. فقال له: أنا إن شاء الله تعالى أكون سبباً حتى تزول تلك العداوة وتسكن في تنبكت كما تريد. فجاء إلى أكِل في حلته ونزل عنده وبقي يتحدث معه إلى أن أخبره أن محمد أقيت ما يريد اليوم إلا أن يسكن في تنبكت. قال: لا يصيب ذلك. قال له ولِم. فدخل في خيمته وأخرج درقة مشقوقة بالطعن بالرمح والضرب بالسيف، فقال له: انظر إلى ما عمل لي محمد أقيت، وكيف يسكن المرء في بلده مع عدوه الذي عمل له هذا العمل؟ وقال له: هيهات الذي عرفته فيه قد فات، صار اليوم مسكيناً ذا عيال لا يريد إلا العافية. وما زال يلاطفه بالقول اللين الحسن حتى زالت منه تلك العداوة وأذن له بالمجيء إلى تنبكت. فرجع إليه وأخبره به فارتحل مع عياله إليه وسكن فيه.

    ومن الشيوخ المباركين أهل سنكري الفقيه أحمد بن الفقيه إبراهيم ابن أبي بكر بن القاضي الحاج والد مام سِر. روي عن شيخنا الزاهد الفقيه الأمين بن أحمد أخي الفقيه عبد الرحمن أنه قال: لا يحول بين الشيخ أحمد هذا وبين درس المصحف إلا إقراء العلم. وهو يلازم هذا العمل الصالح في جميع أوقاته رحمه الله تعالى ورضي عنه وأعاد علينا من بركاته.

    ومنهم الفقيه صالح ابن محمد أند عمر المعروف بصالح تكن، الشيخ المعمري المستحرم عنه السلاطين، يشفع للمساكين عندهم، ولا يردون شفاعته على كل حال. ألّف شرحاً على مختصر الشيخ خليل، رحمه الله تعالى.

    ومنهم السيد أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان بن عبد الله بن أبي يعقوب العالم الفقيه اللغوي النحوي المتفنن في علوم الأدب والتفاسير والأشعار وشهد له بالعلم جماعة الشيوخ رحمه الله آمين.

    الباب العاشر

    نبذة من كتاب الذيل لأحمد بابا

    وفي كتاب الذيل للعلامة الفقيه أحمد بابا رحمه الله قال: أحمد بن عمر بن محمد أقيت بن عمر بن علي بن يحيى بن كدالة الصنهاجي التنبكتي جدي، والد الوالد، يعرف بالحاج أحمد، أكبر الإخوة الثلاثة شهروا علماً وديناً في قطرهم من أهل الخير والفضل والدين، حافظاً على السنة والمروة والصيانه والتحري، محباً في النبي صلى الله عليه وسلم، ملازماً لقراءة قصائد مدحه وشفاء عياض على الدوام، فقيهاً لغوياً نحوياً عروضياً محصلاً، اعتنى بالعلم طول عمره، وكتبه كتب عدة، كتب بخطه مع فوائد كثيرة، وترك نحو سبعمائة مجلد أخذ عن جده لأمه الفقيه أند غمحمد وعن خاله الفقيه مختار النحوي وغيرهما. شرّق في عام تسعين وثمانمائة وحج، ولقي الجلال السيوطي والشيخ خالد الوقاد الأزهري إمام النحو وغيرهما. ورجع في فتنة الخارجي سن علي، ودخل كَنو وغيرها من بلاد السودان، ودرس العلم وأفاد وانتفع به جمع كثير، أجلهم الفقيه محمود، قرأ عليه المدونة وغيرها. واجتهد في العلم درساً وتحصيلاً حتى توفي ليلة الجمعة في ربيع الثاني عام ثلاثة وأربعين وتسعمائة عن نحو ثمانين سنة. وطلب للإمامة فأبى فضلاً عن غيرها. ومن مشهور كراماته أنه لما زار القبر الشريف طلب الدخول إلى داخله فمنعه الخدام منه، فجلس خارجه يمدحه صلى الله عليه وسلم فانحل له الباب وحده بلا سبب فتبادروا لتقبيل يده هكذا سمعت الحكاية من جماعته.

    عبد الله بن عمر بن محمد أقيت بن عمر بن علي بن يحيى الصنهاجي المسوفي، شقيق جدي المتقدم. كان فقيهاً حافظاً زاهداً ورعاً ولياً صالحاً في غاية الورع والتوقي قوي الحفظ، درس بولاتن، وتوفي بها سنة تسع وعشرين وتسعمائة. وولد سنة ست وستين وثمانمائة. له كرامات.

    محمود بن عمر بن محمد أقيت بن عمر بن علي بن يحيى الصنهاجي التنبكتي قاضيها أبو الثناء وأبو المحاسن عالم التكرور وصالحها ومدرسها وفقيهها وإمامها، بلا مدافع كان من خيار عباد الله الصالحين العارفين به، ذا تثبت عظيم في الأمور وهدي تام وسكون ووقار وجلالة، اشتهر علمه وصلاحه في البلاد وطار صيته في الأقطار شرفاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، وظهرت بركته إلى ديانة وصلاح وزهد ونزاهة لا يخاف في الله لومة لائم. هابته الخلق كلهم: السلطان فمن دونه، فصاروا تحت أمره يزورونه في داره متبركين به، فلا يلتفت إليهم. ويهادونه بالهدايا والتحف تترى. وكان سخياً جواداً ولي القضاء عام أربعة وتسعمائة، فسدد في الأمور الشدد، وتوخى الحق، ولذوي الباطل هدد. فاشتهر عدله بحيث لا يعرف له نظير في وقته، مع ملازمة التدريس وللفقه، من فيه حلاوة وطلاوة سهل العبارة حسن التقريب، فلا يتكلف فانتفع به كثيرون، وحيى العلم ببلاده، وكثر طلبة الفقه، ونجب جماعة منهم فصاروا علماء. وأكثر ما يقرئ المدونة والرسالة ومختصر خليل والألفية والسلالحية وعنه. انتشر إقراء خليل هنالك وقيّد عنه تقاييد عليه أبرزها بعضهم شرحاً في سفرين. وحج عام خمسة عشر وتسعمائة فلقي السادة كإبراهيم المقدسي والشيخ زكرياء والقلقشندي من أصحاب ابن حجر واللقانيين وغيرهم، وعرف صلاحه ثمة. ورجع لبلاده ولازم الإفادة وإنفاذ الحق، وطال عمره فألحق الأبناء بالأباء، درس نحو خمسين سنة. توفي سنة خمس وخمسين ليلة الجمعة سادس عشر رمضان. وبلغ من الجلالة وتعظم الناس له وشهرة الذكر بالصلاح مبلغاً لم ينله غيره. وولد سنة ثمان وستين وثمانمائة. أخذ عنه والدي رحمه الله وأولاده الثلاثة القضاة محمد والعاقب وعمر وغيرهم.

    مخلوف بن علي بن صالح البلبالي فقيه حافظ رحلة، اشتغل بالعلم على كبر على ما قيل. فأول شيوخه سيدي العبد الصالح عبد الله بن عمر بن محمد أقيت شقيق جدي بولاتن، قرأ عليه الرسالة ورأى منه نجابة، فحضّه على العلم، فرغب فيه. وسافر للغرب فأخذ عن ابن غازي وغيره. واشتهر بقوة الحافطة حتى ذكر عنه العجب في ذلك. ودخل بلاد السودان ككنو وكشن وغيرهما، وأقرأ هناك. وجري له أبحاث في نوازل مع الفقيه العاقب الانصمني. ثم دخل تنبكت وأقرأ بها. ثم رجع للغرب فدرس بمراكش، وسمّ هناك فمرض فرجع لبلده. وتوفي بعد الأربعين وتسعمائة.

    محمد ابن أحمد بن أبي محمد التازختي عرف بأيد أحمد بهمزة مفتوحة وياء ساكنة فدال مفتوحة، مضاف لاسم أحمد معناه ابن. كان فقيهاً عالماً فهاماً محدثاً متفنناً محصلاً جيد الخط حسن الفهم كثير المنازعة. قرأ ببلاده على جدي الفقيه الحاج أحمد بن عمر وعلى خاله الفقيه علي، وحصل ولقي بتكدة الإمام المغيلي وحضر دروسه. ثم رحل للشرق صحبة سيدنا الفقيه محمود، فلقي أجلاء كشيخ الإسلام زكرياء والبرهانين القلقشندي وابن أبي شريف وعبد الحق السنباطي وجماعة فأخذ عنهم علم الحديث، وسمع وروى وحصل واجتهد حتى تميز في الفنون وصار من المحدثين، وحضر درس الأخوين اللقانيين، وتصاحب مع أحمد ابن محمد وعبد الحق السنباطي. وأجازه من مكة أبو البركات النويري وابن عمته عبد القادر وعلي بن ناصر الحجازي وأبو الطيب البستي وغيرهم. ثم رجع لبلاد السودان وتوطن كشن فأكرمه صاحبها وولاه قضاءها. وتوفي في حدود ست وثلاثين وتسعمائة عن نيف وستين سنة له. تقيد وطرر على مختصر الشيخ خليل.

    محمد بن محمود بن عمر بن محمد أقيت بن عمر بن علي بن يحيى الصنهاجي قاضي تنبكت. كان فقيهاً فهاماً دراكاً ثاقب الذهن من عقلاء الناس ودهانهم. ولي القضاء بعد أبيه. فساعدته الدنيا، فنال ما شاء من دولة ورياسة وحصل له دنيا عريضة. شرح رجز المغيلي في المنطق. أخذ عنه والدي البيان والمنطق. وتوفي في صفر سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة. مولوده عام تسعة وتسعمائة.

    العاقب ابن محمود بن عمر بن محمد أقيت بن عمر بن علي ابن يحيى الصنهاجي قاضي تنبكت. كان رحمه الله مسدداً في أحكامه، ثبتاً فيها، صليباً في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، قوي القلب جداً، مقداماً في الأمور العظام التي يتوقف فيها، جسوراً على السلطان فمن دونه، لا يبالي بهم. ووقع له معهم وقائع، وكانوا يخضعون له ويهابونه ويطاوعونه فيما يريد. إذا رأى ما يكره عزل نفسه وسد بابه، فيلاطفونه حتى يرجع. وقع له مراراًز. ذا بصيرة نافذة في الأمور، لا يخطئ فراسته كأنه ينظر في الغيب، موسعاً عليه في دنياه، مجدوداً في أموره مع التحري والتوقي مهيباً جداً. أخذ عن أبيه وعمه. رحل وحج ولقي الناصر اللقاني وأبا الحسن البكري والشيخ البشكري وطبقتهم. أجازه اللقاني كل ما يجوز له وعنه، وأجازني هو كذلك وكتب في خطه بذلك. ولد عام ثلاثة عشر وتسعمائة، وتوفي في رجب عام أحد وتسعين.

    العاقب ابن عبد الله الأنصمني المسوفي من أهل تكدة قرية عمرها صنهاجية قرب السودان. ففيه نبيه ذكي الفهم وقّاد الذهن مشتغل بالعلم في لسانه، ذراية له تعاليق، من أحسنها كلامه على قول خليل، و"خصصت نية الحالف" حسن مفيد، لخصته مع كلام غيره في جزء سميته "تنبيه الواقف على تحرير خصصت نية الحالف". وله جزء في وجوب الجمعة بقرية انصمن خالف فيه غيره والصواب معه، و"الجواب المجدود عن أسئلة القاضي محمد بن محمود"، و"أجوبة الفقير عن أسئلة الأمير" أجاب فيها أسكيا الحاج محمد، وغيرها. أخذ عن المغيلي والجلال السيوطي وغيرهما. ووقع له نزاع من الحافظ مخلوف البلبالي في مسائل كان حياً قرب الخمسين وتسعمائة.

    أبو بكر بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت تنبكتي المولد نزيل المدينة المشرفة، عمي. كان خيراً صيتاً ورعاً زاهداً تقياً أوّاهاً ولياً مباركاً معروف الصلاح ظاهر الزهد والورع والبر متين الدين كثير الصدقة والعطاء، قل أن يمسك شيئاً مع قلة ذات يده، مبرزاً في الخير لا نظير له، نشأ على ذلك. حج وجاور. ثم آب لبلاده لأجل أولاده. فأخذهم ورجع وحج وسكن المدنية حتى مات فاتح إحدى وتسعين وتسعمائة. ولد عام اثنين وثلاثين. وهو أول من قرأت عليه علم النحو، فلب بركته ففتح لي فيه في مدة قريبة بلا عناء. له أحوال جليلة، كثير الخوف والمراقبة لله، ونصح عباده، يردف زفرة بعد أخرى. رطب اللسان بالتهليل وذكر الله على الدوام، كثير الانشراح مع الناس من خيار صالحي العباد. رفض الدنيا وزهد في زهرتها مع ما لأهل بيته حينئذ من عظيم الجاه. ما رأيت قط مثله ولا من يقرب منه في حاله. تواليف لطاف في التصوف وغيره.

    أحمد بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت بن عمر بن علي ابن يحيى والدي الفقيه العالم بن الفقيه العالم. كان ذكياً دراكاُ متفنناً محدثاً أصولياً بيانياً مشاركاً. وكان رقيق القلب، عظيم الجاه، وافر الحرمة عند الملوك وكافة الناس، نفاعاً بجاهه، لا يرد له شفاعة، يغلظ على الملوك فمن دونهم، وينقادون له أعظم الانقياد ويزورونه في داره. ولما مرض في كاغ في بعض أسفاره كان السلطان الأعظم أسكيا داوود يأتي إليه بالليل فيسهر عنده حتى برئ ويسمر عنده تعظيماً لقدره. وكان مشهور القدر والجلالة وافر الجاه بحيث لا يعارض محباً في أهل الخير، متواضعاً لهم، لا ينطوي على حقد لأحد، منصفاً للناس، جماعاً للكتب، وافر الخزانة، محتوية على كل علق نفيس، سموحاً بإعارتها. أخذ عن عمه بركة العصر محمود ابن عمر وغيره، ورحل للشرق سنة ست وخمسين فحج وزار واحتمع بجماعة كالناصر اللقاني والشريف يوسف تلميد السيوطي والجمال بن الشيخ زكرياء والأجهوري والتاجوري، وبمكة وطيّبة بأمين الدين الميموني والملائي وابن حجر وعبد العزيز اللمطي وعبد المعطي السخاوي وعبد القادر الفاكهي وغيرهم وانتفع بهم ولازم أبا المكارم محمد البكري وتبرك به وقيد عنه فوائد. ثم قفل لبلده فدرس قليلاً، وشرح مخمسات العشرينيات الفازازية في مدائح النبي صلى اله عليه وسلم ومنظومة المغيلي في المنطق شرحاً حسناً، وعلق على موضع من خليل وعلى شرحه للتتاءي حاشية بيّن فيه مواضع السهو منه، وعلى صغرى السنوسي والقرطبية، وجمل الخونجي، وفي الأصول، ولم يكمل غالبها. أسمع الصحيحين نيفاً وعشرين سنة في شهر رجب وتالييه وغيرهما. توفي في ليلة الاثنين سابع عشر من شعبان عام إحدى وتسعين وتسعمائة. وثقل عليه لسانه وهو يقرأ صحيح مسلم في الجامع. فأشار عليه شيخنا العلامة محمد بغيع وهو جالس حذاءه بقطع القراءة. فتوفي ليل الاثنين بعده أخذ عنه جماعة كالفقيهين الصالحين شيخنا محمد وأخيه أحمد أبي الفقيه محمود يغيع، قرأ عليه الأصول والبيان والمنطقن، والفقيهين الأخوين عبد الله وعبد الرحمن أبي الفقيه محمود وغيرهم. وحضرت أنا عليه أشياء عدة وأجازني جميع ما يجوز له وعنه. وسمعت بقراءة الصحيحين والموطأ والشفاء. وُلد فاتح المحرم عام تسعة وعشرين وتسعمائة. ورأيت له بعد وفاته رؤياً حسنة، رحمه الله تعالى.

    أحمد ابن محمد بن سعيد سبط الفقيه محمود بن عمر فقيه عالم محصل مدرس. حضر على جده المذكور الرسالة ومختصر خليل مرة، وأخذ عن غيره المختصر والمدونة. انتفع الناس به من عام ستين إلى وفاته في المحرم فاتح ست وسبعين وتسعمائة.

    ومنهم الفقيهان الأخوان شيخنا محمد وأخوه أحمد قرأ عليه الموطأ والمدونة وخليلاً وغيرها. وله حاشية على خليل اعتمد فيه على البيان والتحصيل. ولد عام إحدى وثلاثين. أدركته وأنا صغير وحضرت دولته. >محمد بن محمود ابن أبي بكر الونكري التنبكتي عرف ببغيع بباء مفتوحة فغين معجمة ساكنة فياء مضمومة وعين مهملة مضمومة، شيخاً وبركتنا الفقيه العالم المتفنن الصالح العابد الناسك. كان من صالحي خيار عباد الله والعلماء العاملين مطبوعاً على الخير وحسن النية وسلامة الطوية والانطباع على الخير واعتقاده في الناس حتى كاد الناس يتساوون عنده في حسن ظنه بهم وعدم معرفة الشر، يسعى في حوائجهم، ويضر نفسه في نفعهم، ويتفجع لمكروههم، ويصلح بينهم، وينصحهم إلى محبة العلم وملازمة تعليمه وصرف أوقاته فيه وصحبة أهله والتواضع التام. وبذل نفائس الكتب الغريبة العزيزة لهم، ولا يفتش بعد ذلك عنها كائناً ما كان من جميع الفنون، فضاع له بذلك جملة من كتبه نفعه الله بذلك. وربما يأتي لبابه طالب يطلب كتاباً فيعطيه له من غير معرفته من هو. فكان العجب العجائب في ذلك إيثاراً لوجهه تعالى مع محبته للكتب وتحصيلها شراء ونسخاً. وقد جئته يوماً أطلب منه كتب نحو ففتش في خزانته فأعطاني كل ما ظفر به منها. إلى صبر عظيم على التعليم أناء النار، وعلى إيصال الفائدة للبليد بلا ملل ولا ضجر حتى يمل خاكروها وهو لا يبالي حتى سمعت بعض أصحابنا يقول: أظن هذا الفقيه شرب ماء زمزم لئلا يمل في الإقراء، تعجباً من صبره، مع ملازمة العبادة، والتجافي عن ردي الأخلاق، وإضمار الخير لكل البرية حتى الظلمة، مقبلاً على ما يعنيه، متجنباً الخوض في الفضول. ارتدى من العفة والمسكنة أزين رداء. وأخذ بيده من النزاهة أقوى لواء مع سكينة ووقار وحسن أخلاق وحياء سهلة الإيراد والإصدار. فأحبّه القلوب كافة، وأثنوا عليه عامة بلسان واحد إلى الغاية. فلا ترا إلا محباً مادحاً ومثنياً بالخير صادقاً طويل الروح لا يأنف من تعليم مبتدئ أوبليد. أفنى فيه عمره مع تشبثه بحوائج العامة وأمور القضاة، لم يصيبوا عنه بديلاً ولا نالوا له مثيلاً. طلبه السلطان بتولية ولاية محلته فأنف منه وامتنع وأعرض عنه، واستشفع فخلصه الله تعالى. لازم الإقراء سيما بعد موت سيدي أحمد بن سعيد. فأدركته أنا يقرئ من صلاة الصبح أول وقته إلى الضحى الكبيرة دولاً مختلفة. ثم يقوم لبيته ويصلي الضحى مدة، وربما مشى للقاضي في امر الناس بعدها، أو يصلح بين الناس. ثم يقرئ في بيته وقت الزوال، ويصلي الظهر بالناس، ويدرس إلى العصر. ثم يصليها ويخرج لموضع آخر يدرس فيه للاسفرار أو قربه. وبعد المغرب يدرس في الجامع إلى العشاء، ويرجع لبيته. وسمعت أنه يجيئ آخر الليل على الدوام. وكان دراكاً ذكياً فطناً حاضر الجواب سريع الفهم منور البصير سكوتاً صموتاً وقوراً. وربما انبسط مع الناس، وربما زجرهم آية من جودة الفهم وسرعة الإدراك، معروفاً بذلك أخذ العربية والفقه عن الفقيهين الصالحين والده وخاله. ثم قطن مع أخيه الفقيه الصالح أحمد تنبكت. فلازما الفقيه أحمد بن سعيد في مختصر خليل. ثم رحلا للحج مع خالهما فلقوا الناصر اللقاني والتاجوري والشريف يوسف الأوميوني والبرهموشي الحنفي والإمام محمد البكري وغيرهم فاستفادوا ثمة. ثم رجعا بعد حجهما وموت خالهما فنزلا بتنبكت. فأخذ عن ابن سعيد الفقه والحديث فرآ عليه والموطأ والمدونة والمختصر وغيرها ولازماه وعن سيدي والدي الأصول والبيان والمنطق قرآ عليه أصول السبكي وتلخيص المفتاح. وحضر عليه شيخنا وحده جمل الخونجي، ولازم مع ذلك الإقراء حتى صار أخيراً شيخ وقته في الفنون لا نظير له. ولازمته أكثر من عشر سنين. فختمت عليه مختصر خليل بقراءته وقراءة غيره نحو ثماني مرات، وختمت عليه الموطأ قراءة فهم، وتسهيل ابن مسالك قراءة بحث وتحقيق مرة بثلاث سنين، وأصول السبكي بشرح المحلي ثلاث مرات قراءة تحقيق، وألفية العراقي بشرح مؤلفها، وتلخيص المفتاح بمختصر السعد مرتين فأزيد، وصغرى السنوسي وشرح الجزيرة له، وحكم ابن عطاء الله مع شرح زروق ونظم أبي مقرعة، والهاشمية في التنجيم مع شرحهما ومقدمة التاجوري فيه، ورجز المغيلي في المنطق، والخزرجية في العروض. فشرح الشريف السبتي وكثيراً من تحفة الحكام لابن عاصم مع شرحها لولده كلها بقراءته. قرأت عليه فرعي ابن الحاجب قراءة بحث جميعه وحضرته في التوضيح، كذلك لم يفتني منه إلا من الوديعة إلى الأقضية، وكثيراً من المنتقي للباجي، والمدونة بشرح أبي الحسن الزرويلي، وشفاء عياض. وقرأت عليه صحيح البخاري نحو النصف وسمتعه بقراءته، وكذا صحيح مسلم كلها ودولاً من مدخل ابن الحاج، ودروساً من الرسالة والألفية وغيرها. وفسرت عليه القرآن العزيز إلى اثناء سورة الأعراف، وسمعت بلفظه جامع المعيار للونشريسي كاملاً وهو سفر كبير، ومواضع آخر منه. وباحثته كثيركثيراً في المشكلات، وراجعته في المهمات. وبالجملة فهو شيخي وأستاذي ما نفعني أحد كنفعه وبكتبه رحمه الله تعالى وجازاه بالجنة. وأجازني بخطه جميع ما يجوز له وعنه. واقفته على بعض تواليفي، فسر به، وقرظ عليه لي بخطه، بل كتب عني أشياء من أبحاثي، وسمعته ينقل بعضها في دروسه لإنصافه وتواضعه وقبوله الحق حيث تعين. وكان معنا يوم الواقعة علينا فكان آخر عهدي به. ثم بلغني أنه توفي يوم الجمعة في شوال عام اثنين وألف. مولوده عام ثلاثين وتسعمائة. له تعاليق وحواشي نبه فيها على ما وقع لشراح خليل وغيره، وتتبع ما في الشرح الكبير للتتاي من السهو نقلاً وتقريراً في غاية الإفادة، جمعتها في جزئي تأليفاً رحمه الله تعالى. انتهى ما كتبته من الذيل.

    ومن سادات أهل سنكري من روي ثقات عن ثقات أنه تصدق بألف مثقال ذهباً على يد الشيخ الفقيه الولي الصالح أبي عبد الله القاضي مودب محمد الكابري، وفرقه على المساكين في باب مسجد سنكري، وذلك أنه كانت مجاعة حينئذ. فتكلم الشيخ في مدرسته وقال: من يفتح في ألف مثقال أتكفل له الجنة. ففتحها ذلك السيد المتصدق وفرقها على المساكين. وقيل رئي بعد ذلك في المنام قائلاً يقول له لا تنكفل علينا بعد.

    وروي أن الولي الزاهد الفقيه عبد الرحمن بن الفقيه محمود حكى هذه القصة في مدرسته في المسجد، فقال له رجل: يا سيدي وهنا الساعة، من إذا تكفلت له الجنة يعطي ألف المثقال ذهباً؟ فقال السيد عبد الرحمن في الجواب: الكابري وأمثاله هم رجال هذا الطريق.

    ومنهم هذا الشيخ أعني الفقيه القاضي مودب محمد الكابري شيخ الشيوخ، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به في الدارين. توطن تنبكت في القرن التاسع والله أعلم، وعاصر فيها كثيراً من الأشياخ، منهم الفقيه سيدي عبد الرحمن التميمي جد القاضي حبيب، والفقيه أند غمحمد الكبير جد الفقيه القاضي محمود لأمه، والفقيه عمر بن محمد أقيت والد الفقيه محمد المذكور، والعلامة القطب سيدي يحيى التادلسي وغيرهم. قد بلغ الغاية القصوى في العلم والصلاح. وأخذ عنه الفقيه عمر ابن محمد أقيت وسيدي يحيى. وقيل لا ينسلخ شهر إلا ويختم عليه تهذيب البرادعي لكثرة قراءه، والبلد حافلة يومئذ بالطلبة السودانيين، أهل المغرب المجتهدين في العلم والصلاح، حتى قيل أن معه في روضته ثلاثون كابرياً مدفونون كلهم عالمون صالحون. وروضته بين روضة ولي الله تعالى الفقيه الحاج أحمد بن عمر ابن محمد أقيت وبين موضع صلاة الاستسقاء، على ما خبرنا به شيخنا الزاهد الفقيه الأمين بن أحمد أخ الفقيه عبد الرحمن، ردمهم التراب.

    ولهذا الشيخ المبارك كرامات كثيرة باهرة، منها أن واحداً من طلبة مراكش يطلق لسانه فيه ويذكره بما لا ينبغي، حتى يقول فيه الكافري، بكسر الفاء المكسورة. وهو ممن له جاه بليغ وحظ عظيم عند الأمراء الشرفاء، ويسرد لهم صحيح البخاري في رمضان. فسلط الله عليه الجذام، وجلب له الأطباء من كل جهة ومكان حتى قال واحد منهم لا يداويه إلا قلب الصبي الأدمي يأكله. فكم من صبيان ذبحهم له الأمير يومئذ فما نفع فيه شيء حتى مات منه في بئس الحال، والعياذ بالله. روي ذلك عن العلامة الفقيه أحمد بابا رحمه الله تعالى. ومن كراماته ما رويته عن والدي رحمه الله تعالى عن أشياخه أنه خرج ذات يوم من أيام عشر ذي الحجة لشراء الأضحية، وكانت منه في وراء البحر، ومعه واحد من تلاميذه. فتخطى على البحر وتبعه التلميذ على ما ظهر له في الحال مما الله تعالى عالم به، فغرق في وسط البحر بعد ما خرج منه الشيخ. فصاح عليه ومد يده وأخرجه منه، فقال له: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: لما رأيتك فعلتَ فعلتُ أنا إذاً. فقال له: أين قدمك من القدم الذي ما تخطى في معصية قط؟ انتهى.

    وقد رثاه يوم مات رحمه الله تعالى الشيخ الإمام الوالي العارف القدوة المكاشف القطب الغوث الجامع السالك السيد الشريف الرباني سيدي يحيى التادلسي بأبيات وهو هذه:

    تذكر ففي التذكار جل الفوائد * وفي طيه ورد على خير وأرد
    ألم تر سفر الحث بالفضل خصصوا * سفر ذوي الأفكار أحظى بزائد
    تُفيء لب المرء طبية الصبا * فيلحق فتياناً ويقوي لساعد
    وفي نقص هذه الأرض للحجر عبرة * من أطرافها يبدو ومن كل ماجد
    وبالقبض للنظار في العلم قبضة * وفي ذلك أنذار بقرب الشدائد
    آ طلاب علم الفقه تدرون ما الذي * يثير هموم القلب من كل وافد
    يثير هموم القلب فقد سُمَيدع * فقيه حليم حامل للفرائد
    بحسن تعليم مقرب فهمه * وفتاق نهذيب بحسن الفوائد
    محمد الأستاذ مودب ذي النهي * رباطاً صباراً أمره في التزايد
    فيا عجباً هل بعده من مبيّن * ويا عرباً هل بعده من مجالد
    فلو لا التعزي بالنبي وصحبه * وأعلام علم الدين منه وراشد
    لحق لدمع العين سيح على الولا * لإفناء أشباح وإطفاء واقد
    لقد أظلم الورى وبانت همومه * صبيحة أسرى نفيه في الأصاود
    أينكر ذو حجر زحاماً لحمله * ففي السلف الأسى قوي التكابد
    إذا انكسر النعشان من تحت سالم * ومن آمنا الغرا زيادة واحد
    وفي ذلك تعظيم وحسن تأدب * مع الصالح الموفي بعهد المقالد
    آ إخواننا فادعوا له بتقبل * وروح وريحان سني الشاهد
    وبسط برزق في فراديس جنة * شهادة أستاذ وطاعة عابد
    عليه من الرحمن ذي المجد والعلى * سلام باللطاف عزيز القوائد
    وصلى إله العرش ربي بمنه * على خير مبعوث وأفضل شاهد
    محمد المختار للختم رحمة * بتتميم أخلاق كرام المعاهد
    وللآل والأصحاب والتابع الذي * بحبهم يدعو دعاء المعاقد

    انتهى نقلتها من خط والدي رحمه الله تعالى وعفى عنه بمنه.

    ذكر نسب الشيخ سيدي يحيى رحمه الله تعالى ونفعنا به وأعاد علينا من بركاته في الدنيا والآخرة. وهو يحيى بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن الثعلبي بن يحيى البكاء ابن أبي الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز ابن حاتم بن فصي بن يوسف بن يوشع بن ورد بن بطال ابن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنهم ورحمهم أجمعين. قدم تنبكت والله أعلم في أوائل دولة التوارق. فتلقاه تنبكت كي محمد نض فأحبه وأكرمه عاية الإكرام، فابتنى مسجده وجعله إماماً فيه. فبلغ الغاية القصوى في العلم والصلاح والولاية، وانتشر ذكره في الآفاق والأقطار، وظهرت بركاته للخاصة والعامة. فكان ذا كرامات ومكاشفات. قال أبو البركات الفقيه القاضي محمد: ما طرا قدم تنبكت قط إلا وسيدي يحيى أفضل من صاحبه. وقال ابنه الولي الزاهد الفقيه الواعظ أبو زيد عبد الرحمن بن الفقيه محمود: فواجب على أهل تنبكت أن يزوروا روضة سيدي يحيى للتبرك في كل يوم، ولو كانت منهم على مسافة ثلاثة أيام. وفي بداية أمره رحمه الله تعالى تخلي عن المعاملات، ثم اشتغل بها في آخر الحال، وأخبر أنه قبل الاشتغال بها يرى النبي صلى الله عليه وسلم كل ليلة، ثم صار لا يراه إلا مرة واحدة في الأسبوع، ثم بعد شهر مرة، ثم بعد سنة مرة. وسئل: ما السبب في ذلك؟ قال: لا أحسبه إلا من تلك المعاملات. فقيل له: فهلا تركتها؟ قال: لا، ما أحب أن أحتاج إلى الناس لأنظر-رحمنا الله وإياك-إلى مصيبة المعاملة، مع أن هذا الشيخ المبارك يتحافظ فيها من المحظورات غاية ونهاية. وانظر أيضاً إلى ثقل الاحتياج إلى الناس، كيف ترك هذا السيد المبارك هذه المزية العلية العظيمة لأجله. نسأل الله العفو والمعافات في الدارين بمنه.

    ويروى أنه كان في مدرسته ذا ت يوم تحت الصومعة من خارج يقرأ وحوله عصابة من الطلبة، فإذا لصحاب ارتفع وحصل على إنزال المطر، حتى استعد الطلبة للقيام. ثم ترعد فقال لهم: على رسلكم فاسكنوا، ولا ينزل هنا والملك يأمره بالنزول في أرض كذا. فجاز على حاله. وحدثنا شيخنا الزاهد الفقيه الأمين بن أحمد رحمه الله تعالى أن جواري الشيخ سيدي يحيى طبخن حوتاً طرياً من صبح إلى عشي فلم تؤثر النار فيه شيئاً، فتعجبن بذلك حتى سمعه، فقال لهن أن رجلي مس شيئاَ مبلولاً في السقيفة حين أخرج لصلاة الصبح اليوم، لعل هو والنار لا تحرق ما مسه جسدي. وروي أن طلبة سنكري إذا جاءوه لأخذ العلم يقول: يا أهل سنكري كفاكم سيدي عبد الرحمن التميمي، وهو جاء من أرض الجحاز صحبة السلطان موسى صاحب ملي حين رجع من الحج، فسكن تنبكت وأدركه حافلاً بالفقهاء السودانيين. ولما رأى أنهم فاقوا عليه في الفقه رحل إلى فاس وتفقه هنالك، ثم رجع إليه فتوطن فيه. وهو جد القاضي حبيب رحمهم الله تعالى. وفي السنة السادسة والستين بعد ثمانمائة توفي سيدي يحيى وتوفي بعده عن قريب صاحبه الشيخ محمد نض كما مر رحمه الله تعالى عليهما.

    ومنهم الشيخ مسِر بوب الزغراني صاحب الفقيه محمود بن عمر كان عالماً فاضلاً خيراً صالحاً عابداً نادر المثل في قبيلته، لأنها لا تعرف بالصلاح ولا بحسن الإسلام. لازمه الواعظ الزاهد الفقيه عبد الرحمن بن الفقيه محمود في بداية أمره، فاتدى بهديه واستمع من مواعظه. وقيل أنه كان في مدرسته ذات يوم فأذنه الناس بجنازة فقال من هو؟ قيل: زغراني. قال: نصلي عليه لأجل الشيخ مسِر.

    صاحب الكرامات الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي ابن موسى عريان الرأس كان من عباد الله الصالحين زاهداً سخياً. خرج من ماله كله صدقة لله، ويأتيه التدور والفتوحات، فلا يمسك منها شيئاً بل يتصدق بها للفقراء والمساكين. واشترى كثيراً من المماليك وأعتقهم لوجه الله تعالى والدار الآخرة. وليس له بواب، كل من جاء يدخل بلا استئذان، يزوره الناس من كل فج في كل ساعة، وأكثرها بعد صلاة العصر من يوم الجمعة. وأكثر الناس زيارة له أهل المخزن الباشات فمن دونهم والعربان المسافرون لما رأوا من بركاته كثيراً. وهو بين انبساط وانقباض. إذا انبسط يتحدث لمن أغشاه بعجائب وغرائب ويضحك ويفرط فيه، وربما يضرب بيده المباركة في يد من قابله في الجلس في حالة الضحك، ويضع يده اليسرى على فيه، وقد ضرب في يدي كثيراً. ومتى انقبض لا يتحدث بشيء سوى الجواب لمن تكلم له. وأكثر ما أسمعه في تلك الحال: ما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن، أو يقول: حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعى، ليس وراء الله منتهى. ومن طلب منه الفاتحة عند انقلابه يمد يديه المباركين يقول بعد التعوذ والبسملة يس إلخ، يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين. ثم يقرأ الفاتحة ثلاث مرات ويدعو ويقول: أصلحنا الله وإياكم وأصلح أمورنا وأموركن وأصلح عاقبتنا وعاقبتكم في عافية ثلاث مرات، إلا في آخر عمره. لما دنا الرحيل اتخذ بواباً ولا يأذن في الدخول عليه مثل الحال الأول بل يرد الناس في بعض الأحيان واقتصر حينئذ في قراءة الفاتحة على مرة واحدة. ثم تركها فقال لي يوماً واحداً حين جلست بين يديه: كل من جاء هنا قلت لهم لا أقدر على قراءة تلك الفاتحة. فدعا لي بالدعوة المعهودة مرة واحدة وعليها اختتم. رحمه الله تعالى ورضي عنه وأعلى درجته في أعلى عليين.

    وفي بداية أمره تجلى له أبو المكارم ولي الله تعالى القطب الجامع سيدي محمد البكري، وهو حديث السن يومئذ. وقد خرج من عند حبيبه في الله تعالى الفقيه أحمد بن الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت على العادة المعروفة بينهما في الزيارة، فأدركه قاعداً عند باب مسجد سنكري وقت الزوال، والمسجد ما زال ما فتح، وبيده كتاب الرسالة لابن أبي زيد القيرواني يقرأه على شيخه الفقيه عبد الرحمن بن الفقيه محمود. فوقف عليه الشيخ المبارك وسأله: أيش هذا كتاب الذي بيدك؟ فقال: الرسالة، فمد إليه يده المباركة وقال: أرنيه. فجعله في يده، فطالع فيه قليلاً، ثم رده له. وقال: بارك الله لك فيه. فجاز وهو لا يدري من هو ولا رأى مثل لونه قط. فلما جاء شيخه المسجد قص عليه القصة، فظن أنه الشيخ المذكور. فلما خرج من المسجد طرق أخاه الفقيه أحمد المذكور، فقال له: وهل جاء عندكم اليوم السيد محمد البكري؟ قال: نعم وقد تأخر عندي اليوم أكثر من عادته المعتادة. فأخبره بما جرا بينه وبين محمد ولد أد علي موسى، هكذا يقول له أهل سنكري. ثم بعد ذلك تشوش عقله حتى ظن الناس أن به جنوناً، ولا يبيت إلا في المساجد. ستكون عاقبته له خيراً. وقد أخبرني الثقة من طلبته أنه سأله: هل كان أحد رأى الله سبحانه في الدنيا؟ قال: نعم ومعك في هذا البلد الآن من رأى الله تعالى جل وعز. قال أخبرت شيخنا العلامة الفقيه محمد بابا بن الفقيه الأمين به، من غير أن أذكر له القائل. فقال لي: الذي أخبرك به هو الذي رآه تبارك وتعالى. وكنا عنده ثلاثة نفر أنا ورجلان يوماً واحداً بعد صلاة العصر من يوم الجمعة وهو في حال الانبساط يحدثنا، فإذا السحاب قد ثارت، فتغير وجهه وتشوش وقطع حديثه وجعل ينزعج في مجلسه. وأول ما نزل من أقطار المطر غلظ لنا في الكلام وشدد، وقال: لا أجالس مع الإنسان إذا ينزل المطر، فخرجنا جميعاً. فحدثت شيخنا الفقيه الأمين به، فتعدب. وروينا عن بعض الإخوان أنه قال: كان لي جار نتجالس في طرفي النهار ونتوانس، فتفقدته، وداره قريب لداري فمشيت إليه لأرى كيف هي حاله. فلما سلمت عند باب داره شاور عني البواب، فجاء وقال: سيدي يقول لا تراه في هذه الساعة. قال فكدت أتميز من الغيظ من تلك المقالة فضربت صدري بيدي وقلت: مثلي يجيء إلى فلان لداره ويردني بلا رؤيته! عزمت على أن لا أكلمه أبداً. ثم بعد ذلك زرت الشيخ المبارك سيدي محمد عريان الرأس. فلما حصلت بين يديه بدأني بالكلام بعد السلام، فقال: كان ولي من أولياء الله تعالى تفقد حالاً من أحواله فحزن لذلك حزناً شديداً حتى تمنى لقاء الخضر عليه السلام ليكون له وسيلة عند الله تعالى في رد تلك الحال. ثم إن الله تعالى ردها له بفضله وكرمه بلا وسيلة أحد. فبعد ذلك جاء الخضر فسلم عليه في باب داره وقال: من أنت؟ فقال: المطلوب. قال: قد أغنانا لله عنك. فرجع الخضر ولم يضرب صدره بيده بقول: مثلي يرد، يا فلان! الإنسان معذور وربما يكون في حال لا يقبل أن يراه أحد فيها. قال ففهمت ما إليه الإشارة، فتبت في نفسي اسغفرت ومشيت إلى ذلك الأخ فسلمت، وأمر بفتح الباب بسرعة، فدخلت وقال لي: سامحني في تلك المجيء الذي ما رأيتني فيه، وأنا ممدود ساعتئذ على الأرض وبطني سبيل لا أقبل أن يراني أحد في تلك الحال. وقلت: سامح الله لنا ولك جميعاً.

    وروي عن بعض جيرانه أنه قال أتيت القاضي محمود بن أحمد بن عبد الرحمن يوماً فقال لي: وجارك هنالك؟ قلت: نعم. قال الولي الذي لا يأتي الجمعة؟ فسكت، ثم بعد ذلك أتيت جيراني السيد محمد عريان الرأس فقال لي: يا فلان نعفو أولاً. قلت: العفو هو أفضل. قال: إن لم نعف يكن ما لا ينبغي. قل للذي يزعم بعدم إتيان الجمعة من أدراه قبل أن يأتي الجمعة هو سبقه إليها الذي زعم أنه لا يأتيه. والحكاية عنه في هذا الباب كثير جداً، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به في الدارين أمين.

    ومنهم الفقيه العالم الزاهد الصالح التقي الورع شيخنا الأمين بن أحمد أخ الفقيه عبد الرحمن بن أحمد المجتهد لأمه، كان لسانه رطباً، يذكر الله تعالى. ولا يسميه السيد محمد عريان الرأس إلا بالأمين الذاكر. وحدثني بعض الإخوان من أهل سنكري عن والده وهو شيخ معمر أنه قال: أدركت سنكري والأسلاف الصالحون متوافرون فيها، فلم أر مثل حال الفقيه الأمين فيهم في حسن الإسلام. وحدثنا رحمه الله تعالى في مدرسته أن الفقيه عمر ابن محمدم بن عزر أخ الفقيه أحمد مغيا كان يقرأ كتاب الشفاء للقاضي عياض على العلامة الحافظ الفقيه أحمد بن الحاج أحمد ابن عمر بن محمد أقيت، يحضر هو وولده الفقيه أحمد بابا والفقيه القاضي سيدي أحمد. ولا يقبل الأستاذ السؤال لأحد إلا للعارف وحده وللسيد أحمد في بعض الساعات. وأما ولده أحمد بابا إذا سأل يقول له: اسكت، إلى يوم واحد سأل الأستاذ القارئ عمر عن قبح هل هو لازم أو متعد، فسكت. ثم سأل سيدي أحمد، فسكت. قال فتلوت هذه الأية: هم من المقبوحين. فرفع بصره إلي وتبسم، وكنا جماعة نعرض على شيخنا الفقيه الأمين كتاب دلائل الخيرات، والنسخ تختلف في إثبات لفظة سيدنا وإسقاطها، فسألناه عنه. فقال: كنا نعرضه على الشيخ العلامة الفقيه محمد بغيع فسألناه عنه كذلك. فقال: ليس في ذلك الاختلاف بأس، لا يضر بشيء. وسألنا أيضاً عن القول المؤلف" وأن تغفر لعبدك فلان بن فلان". فقال كنا نعرضه أيضاً على الفقيه عبد الرحمن بن الفقيه محمود، فسألناه عنه. فقال مجاوباً: وإن تغفر لعبدك عبد الرحمن ولم يذكر والده. وأما تاريخ وفاته فسيأتي إن شاء الله تعالى في العام الحادي والأبعين بعد ألف وتاريخ وفاة السيد محمد عريان الرأس يأتي إن شاء الله تعالى في العام والعشرين بعد ألف.

    الباب الحادي عشر

    ذكر آية المسجد الجامع ومسجد سنكري على الترتيب

    أما جامع الكبير فالسلطان الحاج موسى صاحب ملي هو الذي بناها، وصومعتها على خمسة صفوف، والقبور لاصقة بها من خارجها في جهتي اليمين والمغرب. وتلك عادة السودان أهل المغرب لا يدفنون أمواتها إلا في رحاب مساجدهم وجوانبها من خارج، وذلك بعد ما رجع من الحج تتملك تنبكت. فلما جدد الفقيه العدل القاضي العاقب بن القاضي محمود بناءها خربها وسواها مع جميع القبور بالأرض من كل جهة، صير الجميع مسجداً، وزادها زيادة كبيرة.

    فأول من تولى إمامتها الفقهاء السودانيون كانوا أئمة فيها في دولة أهل ملي وفي طائفة من دولة التوارق. وآخر الأئمة منهم فيها الفقيه القاضي كاتب موسى مكث في الإمامة أربعين سنة، لم يستنب ولو في صلاة واحدة لأجل صحة البدن التي رزقه الله تعالى بها. وسئل عن سبب تلك الصحة فقال: أحسبها من ثلاثة أشياء، ما بت في الهوى ولو ليلة واحدة في الفصول الأربعة كلها، وما بت ليلة واحدة إلا ودهنت جسمي، وبعد الفجر استحممت بالماء السخون، وما خرجت لصلاة الصبح قط إلا بعد الفطور. هكذا سمعته من والدي ومن الفقيه سيد أحمد رحمهم الله تعالى. ولا يقضي بين الناس إلا في رحبته سُسُ دبي في وراء داره من جهة المشرق ينصب له المنصّة تحت شجرة كبيرة، كانت هنالك يومئذ. وهو من علماء السودان الذين رحلوا إلى فاس لتعلم العلم في دولة أهل ملي بأمر السلطان العدل الحاج موسى.

    فخلفه في الإمامة والله أعلم جد جدتي أم والدي الفقيه الفاضل الخير العابد سيدي عبد الله البلبالي وهو والله أعلم أول البيضان صلى بالناس في تلك المسجد في أواخر دولة التوارق وفي أوائل دولة سن علي. جاء إلى تنبكت صحبة الفقيه الإمام القاضي كاتب موسى لما رجع من فاس هو مع أخيويه والد عبد الرحمن المعروف بالفع تُنكَ ووالد موسى كرَى ووالد نانا بير تور، وقد احترمه الخارجي سن علي كثيراً جداً. كان من عباد الله الصالحين زاهداً ورعاً لا يأكل إلا من عمل يده. وظهرت له كرامات وبركات. فدخل عليه سارق ليلة واحدة وطلع على نخلة كانت في عرصة داره يريد أن يسرق تمرها، فلصق على النخلة إلى الصبح، فعفى عنه وأمره بالنزول فخرج. ومن بركته أنه وقع مرض بتنبكت في بعض الأحيان، قلً من سلم منه. فاحتطب يوماً على رأسه إلى البلد وباعها، فكل من توقد تلك الحطب واصطلى بها استشفى وبرئ من حينه. ثم عاود فكذلك حتى فطن الناس له، وبقي يخبر بعضهم بعضاً به، فازدحموا على شرائها. فرفع الله تعالى ذلك المرض عن الناس ببركته.

    وما خلفه في الإمامة فيما أظن والله أعلم إلا الشيخ الفاضل الصالح الخير الزاهد العابد العارف بالله تعالى الولي سيدي أبو القاسم التواتي قد سكن في جوار المسجد الجامع من جهة القبلة، ليس بينها وبين داره إلا الطريق الضيق النافذ، بعد ما ابتنى محضراً في قبالة المسجد لاصقاً بها، وفيها يقرأ الأطفال.

    وبعد ما توفي خلفه فيه تلميذه السيد منصور الفزاني وبعده السيد الفاضل الصالح الخير الزاهد المقرئ عالم التجويد الفقيه إبراهيم الزلفي وهو أستاذ والدي.

    والسيد أبو القاسم هو الذي أحدث هذه المقبرة التي هي المقابر اليوم بعد ما امتلأت المقبرة القديمة التي حول المسجد وجعل عليها السور. ثم خربت وامتحت. وهو الذي ابتدأ قرأة الختمة في المصحف بعد صلاة الجمعة مع قرأة حرف واحد من العشرينيات. وحبس أمير المؤمنين أسكيا الحاج محمد تابوتاً فيها ستون جزءاً من المصحف في ذلك الجامع لأجل تلك الختمة، وبقيت تقرأ فيها إلى العام العشرين بعد ألف، بدلت بأخرى، حبسها الحاج علي ابن سالم بن عبيدة المسراتي، وهي في الجامع الآن.

    وصلى الأمير الجمعة فيها يوماً من الأيام، فتربص بعد السلام إلى أن يسلم على الشيخ الفاضل الإمام سيد أبي القاسم التواتي. فبعث أخاه فرن عمر ليخبره بإتيانه للسلام عليه، فأدركهم في قرأة المدح، فوقف على رأسه ينتظر فراغهم. فلما تأخر أتبعه الأمير المرسول الآخر، فإذا فرن برفع الصوت فقال: أسكيا يريد الركوب. فأجابه هو برفع الصوت، ما زالوا في القرأة، فنهاه الشيخ أشد النهي وقال: اخفض صوتك، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر أينما يمدح. فيقرأ عليه مصراعاً من أبيات المنشد وأدنيته بالذكر، فهو به معي. فبعد الفراغ جاءه الأمير فسلم عليه، وقرأ له الفاتحة.

    وتأخر في تلك الإمامة جداً. كان ذا كرامات وبركات، يطعم الطعام، وأكثر إطعامه للمداحين لشدة محبته لمدح النبي صلى الله عليه وسلم. وموضع المدح قريب لداره، ومتى سمعهم يمدحون خرج إليهم بالرغائف السخونة كأنما خرجن من الفرن تلك الساعة، ولو كان في جوف الليل حتى تبين للناس أنها من الكرامة.

    وروي أن المؤمنين رأوا الماء يقطر في ثيابه يوماً واحداً وهو في صلاة الصبح ويغلس بها جداً. فلما سلم سئل عنه، فقال استغاث فيّ غريق تلك الساعة في بحر دب فأنقذته، فمنها تلك الماء.

    وروي أن الناس ازدحموا على نعشه في الليل المظلمة وتصادموا حتى سقطوا على الأرض جميعاً. وبقي النعش في الهوى واقفاً بقدرة البارئ سبحانه حتى قاموا وأمسكوه وراء الناس. هنالك جماعة كثيرة غير معروفين بعد تسعمائة. وتوفي الفقيه المختار النحوي في أواخر تلك السنة كما وقفت عليه في بعض التواريخ.

    وسمعت من بعض الفقهاء الذي له حفظ واعتناء بمعرفة التواريخ أن سيدي أبا القاسم توفي في العام الخامس والثلاثين بعد تسعمائة، وأن أبا البركات الفقيه محمود بن عمر لم يتأخر بعده إلا عشرين سنة، وأنه ما وقف قدام الناس للصلاة بعد ما سلم في الإمامة لابن خاله الإمام أند غمحمد لأجل ضعف أعضائه المباركة من الكبر، إلا في جنازة سيدي أبي القاسم التواتي، وفي جنازة شاهده قياض الغدامسي، فهو الذي صلى عليهما. ودفن في المقبرة الجديدة، ودفن فيها كثير من الصالحني. وقيل أن معه هنالك خمسين رجلاً تواتيين أمثاله في الصلاح والعبادة. وكذلك المقبرة القديمة حول المسجد فيها كثير من عباد الله الصالحين.

    وروي أن رجلاً واحداً شريفاً من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم اتكف في المسجد القديم في رمضان، فخرج ليلة واحدة لقضاء حاجة الإنسان من الباب الوراءي نصف الليل. فلما رجع أدرك في المقابر كلها رجالاً جالسين وعليهم قمص وعمامات بيض فشقهم إلى المسجد. ولما توسطهم قال له واحد منهم: سبحان الله كيف توطأنا بنعالك؟ فقلع حتى دخل المسجد رحمهم الله تعالى ورضي عنهم ونفعنا ببركاتهم في الدنيا والآخرة أمين.

    ولما توفي تلميذه سيد منصور فسلم الناس له حتى دفن فيه وهم ثلاثة في تلك الروضة قال والدي رحمه الله تعالى: كان لأستاذنا الشيخ إبراهيم الزلفي جاه عظيم عند أهل تنبكت يومئذ لاعتقادهم فيه، ولو لا ذلك لا يسلمون له في ذلك الموضع.

    وبعد موت الإمام سيدي أبي القاسم اتفق أهل الجامع الكبير على الفقيه أحمد والد نانا شرك، فرفعوا أمره إلى أبي البركات القاضي الفقيه محمود، فكمل عليه وصار إماماً في الجامع. وبعد شهرين من ولايته جاء ابن سيد أبي القاسم من توات، فمشى أولئك الجماعة إلى الفقيه فقالوا: تريد أن تجعل لنا ابن الشيخ إماماً؟ فقال لهم: بعد تولية الإمام أحمد؟ إن لم تخرجوا عني أسجنكن جميعاً. ثم رجع إلى توات وبعد سبعة أشهر توفي الإمام أحمد المذكور رحمه الله.

    واتفقوا على الفقيه سيد علي الجزولي وهو طارء، فولاه الإمامة القاضي الفقيه محمود واستناب الفقيه الفاضل عثمان بن الحسن ابن الحاج التشتي متى عرض له العذر. وهو من عباد الله الصالحين. ولما حضرته الوفاة أعطاه ثياب جمعته. وله عادة في المؤاساة على المصلين في الجامع من رمضان إلى رمضان خمسمائة مثقال. وفي واحد من رمضان لم يحصل إلا مائتان مثقالاً، فبينه للفقيق محمود، فلما جاء إلى صلاة الجمعة وفرغ من تحية المسجد نادى المؤذن فقال له: قل لهؤلاء المسلمين مثل إمامكم هذا إذا ما زدتم في عادته في الخير، فلا تنقصوه منه،ا في الساعة أعطوا اخمسمائة المعروفة زيادة فلى المائتين، فكان سبعمائة مثقال في ذلك العالم.

    فتوفي رحمه الله تعالى بعد ما مكث في الإمامة ثمانية عشر سنة فقال الفقيه محمود جدير أن ينفرد بالروضة فدفن خارج السور من جهة الشمال. ثم أمر النائب الفقيه محمود عثمان أن يكون إماماً راتباً، فامتنع وقال له: لا تخرج من يدي حتى تدلني على من يستحقها.

    فدله على الفقيه صديق بن محمد تغلي فقبله فصار إماماً في الجامع، وهو كابري الأصل جنجوي المولد. فكان فقيهاً عالماً فاضلاً خيراً صالحاً، ارتحل من جنج إلى تنبكت وتوطن فيه إلى أن توفي. وسبب ارتحاله أنه صور مسئلة من مسائل الفقه في مدرسته يوماً واحداً، وهنالك من طلبته الذي ارتحل إلى تنبكت بعد ما قرأ عليه ما قرأ ثم رجع إلى جنج، فقال: صورة هذه المسألة ليست كذلك، على ما سمعت من الفقهاء في تنبكت. فقال الشيخ وما هي؟ قال كذا وكذا. قال: ضيعنا عمرنا باطلاً. فمن هذا ارتحاله رضي الله عنه.

    فانعقدت المحبة بينه وبين النائب وتحابا في الله تعالى، فصارا ملاطفين بحيث إذا تغدا كل واحد منهما بعث فضلته لصاحبه إلى داره، وإذا تعشى كذلك. ولا يتجهز للجمعة إلا في داره لشدة المحبة.

    ثم شرق الإمام صديق للحج فحج وزار واجتمع مع كثير من الفقهاء والصالحين، منهم العارف بالله تعالى سيدي محمد البكري الصديقي وهو يحب فقهاء تنبكت كثيراً، أخذ يسأله عنهم وعن أحوالهم، حتى قال له: الذي استنبته يصلي بالناس وراءك رجل صالح.

    ولما رجع من الغيبة ودخل داره جاءه أخوه وحبيبه النائب عثمان فسلم عليه وحمد الله له على السلام، وقال له: ادع الله لنا، أنت الذي وقفت في المواقف الكرام. فقال له الإمام صديق: بل أنت الذي تدعو الله لنا، أنت الذي قال فيك العارف بالله تعالى سيد محمد البكري رجل صالح. وحدثه بعض الشيوخ المعمرين من أهل تنبكت أنه حدثه الفقيه الزاهد المؤدب خال والدي سيد عبد الرحمن الأنصاري قال حدثني الإمام صديق قال أخبرني العارف بالله تعالى القطب سيدي محمد البكري الصديقي: أن عمارة تنبكت في عمارة صومعة الجامع الكبير، لا يفرط أهلها فيها. ومكث في الإمامة نحو أربعة وعشرين سنة والله أعلم. وفي صدر من ولايته القاضي العاقب توفي رحمه الله تعالى.

    فرتب النائب الفقيه عثمان بعد ما امتنع. فحلف له إن لم يكنه ليسجننه. وفي العام الخامس والسبعين بعد تسعمائة توفي جاره جدنا عمران، فصلى عليه، ودفن في المقبرة الجديدة في جوار سيدي أبي القاسم التواتي.

    وفي أواخر العام السابع والسبعين بعد تسعمائة توفي هو ودفن في المقبرة القديمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. فتنازع أهل الجامع الكبير في الفقيه كداد الفلاني والفقيه أحمد بن الإمام صديق. فاختار القاضي العاقب كداد فرتبه إماماً فيه. وهو فاضل من عباد الله الصالحين فمكث في الإمامة اثني عشر سنة.

    فتولاها بعد موته الإمام أحمد بن الإمام صديق بأمر القاضي العاقب ومكث فيها خمسة عشر سنة وتسعة أشهر وثمانية أيام، عشر سنين في دولة أهلا سغي، وهو آخر أئمة الجامع الكبير في دولتهم، وخمس سنين في دولة السلطان الهاشمي أبي العباس مولانا أحمد. وسيأتي تاريخ ولايتهما وتاريخ وفاتهما عند ذكر الوفيات والتواريخ في العام الحادي والعشرين بعد ألف.

    وأما مسجد سنكري فقد بناها امرأة واحدة أغلالية ذات مال كثيرة في أفعال البر ما رويناه في الخبر، ولكن لم نجد لبنائها تاريخاً. فتولى إمامتها كثير من الأشياخ رحمهم الله تعالى وغفر لهم. أما الذين عرفنا تربيبهم فالولي الصالح أبو البركات الفقيه محمود بن عمر بن محمد أقيت تولاها على إذن الفقيه القاضي حبيب ثم ابن خاله الإمام أند غمحمد بن افقيه المختار النحوي. سلم له فيها لما ضعفت أعضاؤه المباركة من الكبر.

    وبعد ما توفي الإمام أند غمحمد. أمر الفقيه القاضي محمد بن الفقيه محمود أن يتولاها ابنه الفقيه محمد، فاعتذر بسلس البول، فكلفه بالبينة عليه، فشهد له به الفقيه العاقب بن الفقيه العاقب بن الفقيه محمود. فأقاله القاضي محمد، وكلف شاهده بها، فتولاها. وبعد موت أخيه القاضي محمد كلفه الأمير أسكيا داوود بحمل القضاء فجمع بين المرتبتين إلى أن توفي. ولم ينتنب على الصلاة قط، إلا في مرض موته أمر ابن أخيه الفقيه الزاهد محمد الأمين بن القاضي محمد أن يصلى بالناس. فأبت أمه نانا حفصة بنت الحاج أحمد بن عمر، وبقي المسجد خالياً من صلاة الجماعة أياماً. ثم أمره العلامة الفقيه محمد بغيع أن يستناب من يصلي بالناس. فقال: ألا أن تكون أنت إياه؟ فقال له: لا يمكن ذلك لتعلق حق المسجد الأخرى.

    ثم اتفقت الجماعة على ابن أخيه الفقيه أبي بكر بن أحمد بير، فقدموه كرهاً فصلى بالناس الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فخرج من البلد هارباً ليلتئذ إلى قرية تنبهور. فتوفي بعده.

    وقدمت الجماعة أخاه ولي الله تعالى الفقيه عبد الرحمن بن الفقيه محمود فكان راتباً فيها. ويتكلف وهو في غاية من المرض، ولم يستنب ولو مرة واحدة إلى أن قبضهم محمود بن زرقون.

    فتولى بعده الفقيه محمد بن محد كري إلى أن توفي. فصلى بالناس القاضي سيد أحمد مدة قليلة. ثم ولاها ابنه الفقيه محمد. ثم تولاها بعد موته الفقيه سنتاعو بن الهادي الوداني عن إذن القاضي عبد الرحمن بن أحمد معيا وهو الذي فيها الآن.

    الباب الثاني عشر

    ذكر الظالم الأبر سن علي

    أما الظالم الأكبر والفاجر الأشهر سن علي برفع السين المهملة وكسر النون المشددة، كذا وجته مضبوطاً في ذيل الديباج للعلامة الفقيه أحمد بابا رحمه الله تعالى. فإنه كان ذا قوة عظيمة ومتنة جسيمة ظالماً فاسقاً متعدياً متسلطاً سفاكاً للدماء، قتل من الخلق ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وتسلط على العلماء والصالحين بالقتل والإهانة ولإذلال.

    قال العلامة الحافظ العلقمي رحمه الله تعالى في شرح الجامع الصغير للجلال السيوطي عند ذكر حوادث القرن التاسع: سمعنا أن رجلاً ظهر بالتكرور يقال له سُنِّ علي أهلهك العباد والبلاد، ودخل في السلطنة سنة تسع وستين وثمانمائة.

    وروي عن أبي البركات ولي الله تعالى الفقيه القاضي محمود بن عمر بن محمد أقيت أنه سبق مولده ولايته بسنة. نعم وقد رأيت في كتاب الذيل أنه ولد رحمه الله تعالى سنة ثمان وستين وثمانمائة وتوفي في سنة خمس وخمسين وتسعمائة ليلة الجمعة سادس عشر رمضان انتهى.

    ومكث في السلطنة إما سبعاً وعشرين أو ثمانياً وعشرين سنة. فاشتغل بالغروات وفتح البلادات، وأخذ جني وأقام فيها سنة وشهراً، وفتح جنج وأباح لدرمكي الدخول راكباً وغرفاً فوق غرف، وكلاهما ليس لأحد إلا لأمير سغي وحده. وفتح بر وأرض صنهاجة نونو، وأميرهم يومئذ الملكة بيكن كاب. وفتح تنبكت والجبال كلها إلا دُم فامتنعت له. وفتح أرض كنت، وعزم إلى أرض برك فلم يقدر ذلك له. وكان آخر غزواته أرض كُرم.

    ولما تولى السلطنة كتب له تنبكت كي الشيخ محد نض كتابه بالسلام والدعاء، وطلب منه أن لا يخرج باله معه لأنه من جملة عياله. ولما توفي وتولى أبنه عمر كتب له بعكس ما كتب أبوه، وقال له في كتابه أن الوالد ما ذهب معه إلى دار الآخرة إلا بشقتين كتاناً فقط، وجميع القوة متوافرة عنده، ومن تعرض له يرا ما معه من تلك القوة.

    فقال سن علي لأصحابه شتان ما بين عقل هذا الفتى وبين عقل أبيه، والذي بين كلامهما من التفاوة هو الذي بيّن عقولهما. وفي سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة دخل في تنبكت في رابع رجب الفرد أو خامسه، وهي رابع سنة أو خامس سنة من دخوله في السلطنة. عمل فيها فساداً عظيماً جسيماً كبيراً فحرقها وكسرها وقتل فيها خلقاً كثيراً. ولما سمع أكِل بمجيئه أحضر ألف جمال، رحل فقهاء سنكري ومشى بهم إلى بير. فقال إن شأنهم هو الأهم عليه. ومشى فيهم الفقيه عمر بن محمد أقيت وأولاده الثلاثة المباركون: الفقيه عبد الله والفقيه أحمد وهو أكبرهم والفقيه محمود وهو أضغرهم سنا،ً وهو ابن خمس سنين يومئذ لا يقدر على الركوب ولا يقدر على المشي على رجله إلا يحمل على الرقبة حدُّ مكنكي، هو حامله حتى وصلوا، وهو عبد لهم. ومشى فيهم خالهم الفقيه المختار النحوي بن الفقيه أند غمحمد، وأدرك الإمام الزموري رحمه الله تعالى في بير، فأجازه كتاب الشفاء للقاضي عياض رحمه الله تعالى. ويوم الرحيل ترى رجلاً كبيراً بلحيته إذا أراد أن يركب الإبل يبقى يرتعد خوفاً منه، وإذا ركب طاح على الأرض عند قيامه، لأن الأسلاف الصالحين أمسكوا أولادهم في حجورهم حتى كبروا، ولا يعرفون شيئاً من أمور الدنيا لعدم لعبهم في حال صغرهم، لأن اللعب حينئذ يكيس الإنسان، ويبصر في كثير من الأشياء. فندموا عند ذلك، وبعد ما رجعوا لتنبكت خلوا بينهم وبين اللعب، وأطلقوهم من ذلك الإمساك.

    فاشتغل الظالم الفاسق يقتل من بقي منهم في تنبكت وإهانتهم، وزعم أنهم أحباء التوارق وخاصتهم، فأبغضهم لذلك. فسجن والدة الفقيه محمود سِت بنت أند غمحمد، وقتل أخويها الفقيه محمود والفقيه أحمد أبي الفقيه أند غخمحمد. وجعل يتبعهم إذاية بعد إذاية وإهانة بعد إهانة والعياذ بالله. وأمر يوماً بإتيان ثلاثين من بناتهم الأبكار لتخذهن جواريات، وهو في مرسى كبر وأمر أن لا يأتين إلا على أرجلهن. فخرجن وما برزن من الخدور قط، وخدامه معهن يسوقهن حتى وصلن موضعاً عجزن عن المشي بالكلية. فبعث له بخبرهن فأمر بقتلهن، فقتنو جميعاً، والعياذ بالله. والموضع في قرب أمظع من جهة المغرب يقال لها فناء قدر الأبكار.

    وبعد رحيل الفقهاء إلى بير قلد القضاء الفقيه القاضي حبيب حفيد السيد عبد الرحمن التميمي، وبالغ في تعظيم ابن عمه المأمون والد عماراد المأمون، حتى لا يقول له إلا أبي. وبعد موته، حين شرع الناس في ذكر مساوئه، يقول المأمون لا أقول في سن علي سوء إلا أنه أحسن إلي ولم يعمل في سوءاً كما عمله في الناس، لا يذكره بحسن ولا قبيح. فعظم قدره عند أبي البركات الفقيه محمود بذلك، لأجل عدالته.

    ولم يزل يقتل فيهم ويذلهم إلى العام الخامس والسبعين والثمانمائة خرج من بقي من أهل سنكري هاربين إلى بير أيضاً. فجعل تنبكت كي المختار محمد بن نض في أثرهم فوصلهم في تعدِت، فتقاتلوا ومات في ذلك خيارهم. وهي الوقعة المعروفة بها. ثم التفت إلى أولاد القاضي الحي الذين في الفع كُنك فعاملهم بالإهانة والإذلال، فهرب كثير منهم وتوجهوا إلى تِكدة. وذكر أنهم ما توجهوا إلى تلك الناحية إلا ليستغاثوا بالتوارق ويأتوا بهم لأجل الانتقام منه، فعمل السيف فيمن بقي هنالك وقتل منهم كثير، وسجن فيها رجالاً ونساء، والعياذ بالله. وقيل من أجل ذلك لا يصب المطر في ذلك المكان صباً نافعاً إلى الآن.

    وهرب من خيارهم ثلاثون رجلاً فتوجهوا إلى جهة المغرب، وهم في ذلك الهروب إلى يوم واحد وصلوا بلد شير، فنزلوا هنالك تحت شجرة قائلين صواماً. فناموا، ثم انتبه واحد منهم فقال: رأيت في نومي هذا كأنا جميعاً مفطرون الليلة في الجنة. ولم يتم كلامه فإذا رسل الظالم الفاجر راكبين على خيلهم، فقتلوهم جميعاً، والعياذ بالله، رحمهم الله تعالى ورضي عنهم أحمعين.

    وأوقف الفقيه إبراهيم صاحب الفع كنك بن أبي بكر ابن القاضي الحي يوماً واحداً في الشمس في ذلك الموضع إهانة له وتعذيباً، فرأى والده أبا بكر المذكور في المنام، ويضربه بعكازه ضرباً وجيعاً يقول: شتت الله أولادك كما شتت أولادي فاستجاب الله تلك الدعاء فيه.

    أما الذين هربوا منه في الفع كنك إلى تكدة فبقوا هنالك ساكنين متوطنين.

    ومع هذه الإساءة كلها التي يفعل بالعلماء يقر بفضلهم ويقول: لو لا العلماء لا تحلو الدنيا ولا تطيب. ويفعل الإحسان في أخرين ويحترمهم. ولما غار على الفلانيين من قبيلة سنفتير بعث كثيراً من نسائهم لكبراء تنبكت وبعض العلماء والصالحين هدياً لهم، وأمرهم أن يتخذوهم جواري. فمن لا يرعى أمر دينه اتخذها كذلك، ومن يرعى أمر دينه تزوج منهم. جد جدتي أم والدي السيد الفاضل الخير الزاهد الإمام عبد الله البلبالي تزوج التي بعثها له، واسمها عائشة الفلانية. وولد منها نانا بير تورام أم والدي وأدرك الوالد هذه العجوز قد كبرت جداً وعميت.

    ومن أخلاق هذا الظالم الفاسق التلاعب بدينه يترك خمس صلوات إلى الليل أو إلى الغد ثم يؤمي قاعداً مراراً متكررة ذاكراً أسماءهم، ثم يسلم تسليمة واحدة ويقول انتنّ تعرف بعضكن بعضاً فاقتسمن. ومن أخلاقه أن يأمر يقتل إنسان ولو كان أعز الناس عنده بلا سبب ولا موجب، ثم يندم على بعضهم. وخدامه الذين يعرفون أخلاقه إذا كان الأمور بالقتل ممن سيندم عليه أدخروه وأحفظوه، ومتى أظهر الندامة قالوا له قد حفظناه لك ولم يمت، فيفرح ساعتئذ، كما فعل ذلك بخديمه أسكي محمد، غير ما مرة كم أمر عليه بقتله، وكم أمر عليه بحبس. وهو يعكس عليه في بعض الأحيان لقوة قلبه وشدة جرأته التي جعل الله ذلك فيه جبلة وطبيعة. ومتى نزلت به شدة منه جاءت أمه كاسي إلى نانا تنت ابنة الفقيه أبي بكر بن القاضي الحي في تنبكت تطلب له الدعاء عندها أن ينصره الله تعالى على سن علي، إذا تقبل الله هذه الدعاء يفرحكم في أولادكم وأقاربكم إن شاء الله. فوفي بالوعد عند ولايته.

    وأما أخوه عمر كمزاغ فهو يطيعه غاية لأنه كان عاقلاً لبيباً، وما تعرض له الظالم بالسوء قط. وكما فعل ذلك أيضاً بكاتبه إبراهيم الخضر، وهو فاسي جاء لتنبك وسكن فيه في حومة الجامع الكبير على جهة اليمين مائلاً إلى جهة المغرب قليلاً، فرتبه كاتباً. أمر يوماً بقتله وأكل جميع أمواله، فنفذ أمره. ولكن أدخره الخدام إلى يوم واحد جاءه كتاب الرسالة ولم يكن عنده قارئ، فقال: إن كان إبراهيم كبير البطن حياً لم نتوحل في هذا الكتاب. فقالوا له: هو حي أدخرناه، فأمر بإحضاره فقرأ الكتاب. ورده في خطته وأعطاه ضعف ما ضاع له من المال، ولم يجد السكون والهناء إلا في مدة أسكيا محمد، فأبقاه في مقامه عزيزاً مكرماً إلى أن توفي. فخلفه في ذلك المقام ابنه حوي، ولكن رجع كاتباً لناظر أسكيا في تنبكت في رترة عظيمة وقدر مكين.

    ودخل في كبر سنة اثنين وثمانين وثمانمائة، وهي السنة التي دخل موش في مام. وكان سن علي في تسك سنة أربع وثمانين وثمانمائة. وفي هذه السنة ولد أيد حامد ابن أخت الفع محمود، وفيها صام هو رحمه الله. قال عن نفسه: سِنه الله أعلم سبعة عشر عاماً. وخرج من كُبُر سنة خمس وثمانين وثمانمائة.

    وفيها دخل موش في بير في جمادي الأولى وخرج منه في جمادي الثانية، حاصرهم شهراً فطلب منهم الزوجة، فزوجه ابنة السيد الفاضل أند نض، فبقيت عنده إلى دولة أسكيا [أند نض بن علي بن أبي بكر] الحاج محمد فاستخلصها من أيديهم بعد ما حارب موش وخربهم، فزوجها وبعد الحصران. قاتل موش مع أهل بير فغلبهم وسبا عيالهم، وذهبوا فتبعهم أهل بير وقاتلوهم وأنقذوا العيال منهم. وعمر بن محمد نض هنالك يومئذ، وهو أشدهم نجدة وشجاعة في المقاتلة، وهو أول من بلغ موش كي وضايق عليه حتى سلم في العيال.

    وفي هذه السنة خرج الفع محمود من بير في شهر شعبان ورجع إلى نتبكت. وذكر رحمه الله تعالى أنه فرأ رسالة ابن أبي زيد على يد حامد حتى بلغ ركعتي الفجر، فجاء موش وقرأ منه شيئاً على أحمد بن عثمان، ونسي من ختمها عليه. ثم بدأ قرأة التهذيب على أخيه. ورجع أيضاً إلى تنبكت خاله الفقيه المختار النحوي. وأما والده الفقيه عمر بن محمد أقيت فقد توفي هنالك.

    ولما سكن في تنبكت بعد ذهاب دولة الظالم كتب لأخيه الفقيه عبد الله وهو في تازخت قرية في قرب بير، فأمره أن يأتي لتنبكت. فكتب إليه أنه لا يأتيها لأن أهل سنكري قاطعون الأرحام وظئر الأولاد، تفرقون بين أربابهم بالنميمة، وأيضاً لا يسكن حيث كان ذرية سن علي، وإذا كان راحلاً إليها ولا بد لا يسكن إلا في حومة الجامع الكبير في جوار السلطان الوجلي والد عمر بير، لأن أخلاقه حسنة ورضي عنه حين تجاورا في تازخت. وبقي هنالك إلى أن توفي رحمه الله وأعاد علينا من بركاته.

    فلازم أبو البركات الفقيه محمود حين سكن تنبكت القاضي حبيب في أخذ العلم إلى أن توفي. فهو شيخه ووصاه أن يكون قاضياً بعده، وأن لا يغشى أبناء الدنيا في مساكنهم، وما ذلك إلا لأجل رفع الضرر عن الضعفاء والمساكين، وأنه رأى هذا الذي يترتب فيها. فامتثل وصيته رحمهما الله تعالى ونفعنا بهما في الدارين.

    ثم شرع في حفر بحر رأس الماء للوصول إلى بير في البحر، وهو يشتغل بذ1لك بالجد والاجتهاد في قوة عظيمة. فإذا الخبر جاءه أن موش كي عازم إليه في جيشه بغزو، وأدركه الخبر في الموضع الذي يقال له شي فنس، فانتهى فيه. وكفى الله تعالى أهل بير شره. فرجع لملاقات موش كي، فالتقى معه في جنكي تُعي قرية في قرب بلد كب من وراء البحر، فاقتتلوا هنالك، فهزمه سن علي، وهرب وتبعه حتى دخل في حد أرضه، وذلك في سنة ثمان ونمانين ونمانمائة.

    ثم رجع ونزل في دير. ثم نهض منه لفتح الجبال كما مر. ثم غزا كُرم، فغلبهم وخربهم، وهي آخر غزوته. وأصلح السور الذي في كبر المسمى تل حين. خرج من بِتر سنة تسعين وثمانمائة.

    وفيها شرق الحاج أحمد بن عمر ابن محمد أقيت للحج، ورجع في فتنة الخارجي سن، علي على ما قاله العلامة أحمد بابا في الذيل، وفي سنة إحدى وتسعين وثمانمائة. وفيها أُخذ تنبكت كي المختار ابن محمد نض وسجنه. وفي سنة إحدى وتسعين. ذكر اسم سن علي في عرفة والفقيه عبد الجبار كك حاضر سنة اثنين وتسعين وثمانمائة، فدعوا الله تعالى عليه. فدخل في نقصان حتى ذهب دولته.

    وكان تُسُكُ في سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة. وفي هذه السنة دخل أهل تنبكت في هًوكي ومكثوا فيها خمس سنين، منهم ولي الله تعالى سيدي أبو القاسم التواتي وأبو البركات الفقيه محمود وأخوه الحاج أحمد وغيرهم رحمهم الله تعالى. ومات مودب زنكاس سنة أربع وتسعين وثمانمائة.

    وفي سنة ثمان وتسعين وثمانمائة توفي سن علي بن سن محمد داعوا، راجعاً من غزوة كُرم بعد ما حارب الزغمانيين والفلانيين. وقاتلهم ولما وصل بلاد كرم في رجوعه انطلق عليه سيل هنالك في الطريق يسمى كُن، وأهلكه بقدرة القادر المقتدر في خامس عشر من المحرم الحرام فاتح عام الثامن والتسعين والثمانمائة من الهدرة. فشق أولاده بطنه وأخرجوا أحشاءه وملئوه عسلاً لئلا ينتن على زعمهم. جعل الله تعالى ذلك مجازاة لما كان يفعل بالناس في حياته أيام تجبره. فنزل عسكره في بعنيي.

    الباب الثالث عشر

    ذكر أمي المؤمنين أسكيا الحاج محمد بن أبي بكر

    فتولى ابنه أبو بكر دوعو السلطنة في بلد دَنغ. وكان الأسعد الأرشد محمد بن أبي بكر الطوري، وقيل السلنكي، من كبار قياد سن علي. فلما بلغه ذلك الخبر أضمر في نفسه الخلافة وتحيل في ذلك بأمور كثيرة. فلما فرغ من إبرام حبل تلك الحيل توجه إليه فيمن كان معه من خواصه فغار عليه في البلد المذكور في ثاني ليلة من جمادي الأولى في العام المذكور. فانهزم جيشه وولّى هارباً حتى وصل قرية يقال لها أنكُع، وهو بقرب كاغ. فوقف هنالك حتى جمع عليه جيشه. ثم التقى معه فيها يوم الاثنين رابع عشر من جمادي الأخرى، فجرى بينهما حرب شديد وقتال عظيم ومعركة هائلة حتى كادوا يتفانون. ثم نصر الله تعالى الأسعد الأشد محمد ابن أبي بكر، وهرب سن أبو بكر داعو إلى أين، فبقي هنالك إلى أن توفي.

    فتملك الأسعد الأرشد يومئذ، فكان أمير المؤمنين وخليفة المسلمين. ولما بلغ الخبر بنات سن علي قالت أسكيا، معناه في كلامهم لا يكون إياه. فلما سمعه أمر أن لا يلقب إلا به، فقالوا أسكيا محمد.

    ففرج الله تعالى به عن المسلمين الكروب وأزال به عنهم البلاء والخطوب. واجتهد بإقامة ملة الإسلام وإصلاح أمور الأنام، وصاحب العلماء واستفتاهم فيما يلزمه من أمر الحل والعقد، وميز الخلق، بعد ما كان الكل في أيام الخارجي جندياً، بين الرعية والجند. وبعث في الفور للخطيب عمر أن يطلق المسجون المختار بن محمد مض يأتيه ليرده في مقامه، فأخبر أنه مات، وقيل أنه بادر بقتله ساعتئذ. ثم بعث إلى بير لأخيه الأكبر عمر، فجاء فرده في مقامه تنبكت كي. وفي آخر تسع وتسعين وثمانمائة أخذ زاغ على يد أخيه كرمن فاري عمر كمزاغ، وقاتل بكرمغ.

    وفي السنة الثانية من القرن العاشر مشى إلى الحج في شهر الصفر والله أعلم، فحج بيت الله الحرام مع جماعة من أعيان كل قبيلة، وفيهم ولي الله تعالى مور صالح جور رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته في الدارين، وعكري الأصل بلده توتا الله الذي في أرض تندرم. رأى الأمير بركته في ذلك الطريق لما هبت عليهم السموم بين مكة ومصر، نشف جميع ما معهم من الماء حتى كادوا أن يموتوا من الحر والعطش، بعث إليه فطلب منه أن يتوسل إلى الله تعالى في السقي لهم بحرمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فزجر المرسول أشد الزجر وقال: حرمته أعظم من أن يتوسل بها في حاجة دنيوية. ثم دعى الله تعالى فسقاهم في الساعة بغيث جاء على وفق المراد.

    والكجندي الذين ذهب بهم معه ألف وخمسمائة رجال، خمسمائة فرساناً، وألف رجلي، منهم ابنه أسكيا موسى وهُك كُرى كرى علي فلن وغيرهم. وأما المال فثلاثمائة ألف ذهباً الذي أخذه عند الخطيب عمر من مال سن علي الذي تحت يده. وأما الذي في داره هو فقد غبر ولم ير منه شيئاً.

    فحج وزار، وحج معه من كتب الله ذلك له من أولئك الجماعة في آخر تلك السنة، وبالغ السيد المبارك مور صالح جور في الدعاء لأخيه عمر كمزاغ الذي خلفه على ملكه غاية ونهاية، لأنه يحبه وينفعه ويكرمه غاية الإكرام.

    فتصدق الأمير في الحرمين من ذلك المال بمائة ألف ذهباً، واشترى جناناً في المدينة المشرفة وحبسها على أهل التكرور، وهي معروفة هنالك. واتفق بمائة ألف واشترى السلع وجميع ما يحتاج إليه بمائة ألف.

    ولقي في ذلك الأرض المبارك الشريف العباسي، فطلب منه أن يجعله خليفته في أرض سغي، فرضي له بذلك وأمره أن يسلم في أمرته التي هو فيها ثلاثة أيام ويأتيه في اليوم الرابع. ففعل، وجعله خليفته، وجعل على رأسه قلنسوة وعمامة من عنده، فكان خليفة صحيحاً في الإسلام. ثم لقي كثيراً من العلماء والصالحين، منهم الجلال السيوطي رحمه الله تعالى، وسألهم عن أشياء من أموره، فأفتوه فيها، وطلب منهم الدعاء، فنال بركاتهم كثيراً.

    ورجع في السنة الثالثة ودخل في كاغ في ذي الحجة مكمل السنة، فأصلح الله تعالى ملكه ونصره نصراً عزيزاً وفتح له فتحاً مبيناً، فملك من أرض كنت إلى البحر المالح في المغرب وأحوازهما، ومن حد أرض بِندك إلى تغز وأحوازهما. فطوّع الجميع بالسيف والقهر، كما يأتي عند ذكر عزواته. وكمل الله له مراده في الجميع. فكيفما ينفذ حكمه في دار سلطنته، كذلك ينفذ في جميع مملكته طولاً وعرضاً مع العافية الباسطة والرزق الواسعة. فسبحن من يخص من شاء بما شاء، وهو ذو الفضل العظيم.

    وفي السنة الرابعة غزا غزوة نعسر، وهو سلطان موش. ومشى معه السيد المبارك مور صالح جور، فأمره أن يجعلها جهاداً في سبيل الله. فلم يخالفه في ذلك. وبيّن جميع أحكام الجهاد، فطلب أمير المؤمنين أسكيا الحاج محمد من السيد المذكور أن يكون مرسولاً بينه وبين سلطان موش. فقبل ووصل إليه في بلده وبلغه رسالة أسكيا في الدخول في الإسلام. فقال له حتى يشاور آبائه الذين في الآخرة، فمشى إلى بين صنمهم مع وزرائه، ومشى هو معهم لينظر كيف يشاور الأموات. فعملوا ما يعملون من عوائدهم في صدقاتهم، فظهر لهم شيخ كبير فلما رأوه سجدوا له، وأخبره الخبر. فتكلم لهم بلسانهم وقال: لا أقبل لكم ذلك أبداً، بل تقاتلونه حتى تفنوا عن آخركم أو يفنوا عن آخرهم. فقال نعسر للسيد المبارك: ارجع إليه وقل له ما بيننا وبينه إلا الحرب والقتال. ثم قال لذلك الشخص الذي ظهر في صورة الشيخ بعد ما خرج الناس من ذلك البيت: سألتك بالله العظيم من أنت؟ فقال: أنا إبليس أغويهم لكي يموتوا على الكفر.

    فرجع إلى الأمير أسكيا الحاج محمد وأخبره بجميع ما جرى. فقال عليك الآن بالقتال فيهم فقاتلهم وقتل رجالهم وخرب أرضهم وديارهم وسبا ذراريهم. فكل من أتى في هذه السبي من رجال ونساء صاروا مباركين. ولم يكن في هذا الإقليم جهاد في سيبيل الله إلا هذه الغزوة وحدها.

    وفي هذه السنة توفي القاضي حبيب رحمه الله. وتولى القضاء شيخ الإسلام أبا البركات فضاء تنبكت وأحوازها. وحدثني من أثق به من الإخوان أنه حدثه شيخ المسلمين الفقيه محمد بن أحمد بغيع الونكري حفظه الله تعالى أن الفقيه أبا بكر بن القاضي الحي هو الذي دل الأمير أسكيا الحاج محمد على الفقيه محمود أن يوليه القضاء، فقال له أن هذا الفتى رجل مبارك صالح فولاه إياها انتهى كلام الشيخ الونكري.

    وخاله الفقيه المختار النحوي غائب حينئذ. فلما رجع من الغيبة لام الفقيه أبا بكر أشد الملامة فقال له: لم تدله على أبي [ابن أخي]؟ أليس لك ابن هو أهل للقضاء؟ فهلَا دلّلته عليه؟ وعمر أبي البركات يومئذ خمس وثلاثون سنة، ومكث في القضاء خمس وخمسون سنة، وتوفي عن تسعين سنة رحمه الله تعالى.

    وأدركته القضاء في إمامة جامع سنكري، ثم إنه سلم منها في آخر عمره، وولاها ابن خاله الفقيه الإمام أند غمحمد ابن المحتار النحوي. ولم يقم بين يدي الناس بعد للصلاة إلا في وفاة ولي الله تعالى سيدي أبي القاسم التواتي فصلى عليه، وإلا في وفاة فياض الغدامسي فصلى عليه رحمه الله تعالى.

    ونزل الأمير في توي في رجوعه من غزوة نعسر في رمضان. وفي الخامسة مشى إلى تندرم، وأخذ باغن فاري عثمان، وقتل دنب دنب الفلاني. وفي السادسة غزا إلى أير وأخرج تلظ في سلكنته. وفي السابعة بعث أخاه عمر كمزاغ إلى زلن ليقاتل قام فتي قلي قائد سلطان ملي الذي على البلد، فامتنع منه وما نال منه نيلاً، فأرسل الخبر للأمير أسكيا ونزل محلته في تنفرن بلد في قرب زلن في جهة المشرق، وفيه ولد أبنه عثمان فلقب بتنفرن. فجاء الأمير بنفسه فقاتله وغلبه وخرب البلد ورفع دار سلطان ملي وسبا أهله. وفي هذا السبي جاءت مريم داب والدة ابنه إسماعيل. فتأخر هنالك حتى أصلح البلد ووصعه على غير وضعه الأول، ثم رجع. وأما أهل جني فبولايته دخلوا في ملكه طائعين.

    ولم يغز في الثامنة والتاسهة والعاشرة. وفي أول الحادي عشر غزا غزوة برك، ويقال له بربو أيضاً. وفيها نهبت جاريته زاركن بنكي وانلدة ابنه موسى أسكيا. ومات كثير من خيار أيبر بند وعغاريتهم [عقاريهم؟] في المعركة بينهما حتى بكا أخوه عمر كمزاغ. وقال له: أفنيت سغي. فقال: بل عمرت سغي، هولاء القوم الذين رأيتهم أيطيب لنا العيش في سغي وهم معنا فيه؟ ولا يمكن أن نفعل بهم هذا الفعل لأيدينا ولذلك أتينا بهم في هذا الموضع ليتقكانوا فيه وترتاح منهم لهم عرفت فيهم من عدم الفرار للموت فحينئذ ذهب عن أخيه ما به من الغم والأسف وبهذا التاريخ ولد الفقيه محمد بن أبي البركات القاضي الفقيه محمود رحمهم الله تعالى.

    ولم يغز في الثاني عشر. وفي الثالثة عكشر غزا غزوة كلنبوت وهي مل. وفي الخامس عشر مشى إلى الحج شيخ الإسلام القاضي محمود بن عمر، واستخلف في الإمامة خاله الفقيه المختار النحوي، وفي القضاء القاضي عبد الرحمن ابن أبي بكر، بامر الأمير أسكيا الجاج محمد. ثم رجع من الحج في السادسة عشر في السابع والعشرين من شعبان. ولما وصل كاغ سمع به الأمير، وهو في كَبَر يومئذ المرسى المعروف، ركب في القارب وتوجه إلى كاغ للقائه، ولقيه هنالك.

    ثم جاز أبو البركات إلى تنبكت، فدخل داره بسلامة وعافية. فظن كثير من أهل تنبكت أنه يسلّم في تلك الإمامة لخاله المذكور، وفي ظهر يوم وصوله جاء إلى المسجد فصلى بالناس. وأما القاضي عبد الرحمن فبقي في تلك القضاء، ولم يتكلم له الفقيه محمود بشيء إلى عشر سنين. فأخبر الشيخ أحمد بِيُكُن الأمير أسكيا الحاج محمد بذلك، فأرسل مرسوله إلى تنبكت وأمر أن يخرج منها القاضي عبد الرحمن ويتولاها متوليها الفقيه القاضي محمود. فخرج هذا ويتولى هذا تزييل.

    وقع كلام وخصومة بين القاضي محمد بن أحمد بن القاضي عبد الرحمن وبين نفع تنبكت كي المصطفى كرى حفيد الشيخ أحمد بيكن، فشدد فيها القاضي محمد، فقال نفع: هذه عداوة من عهد أجدادنا حيث فطن جدي الشيخ أحمد الأمير أسكيا الجاج محمد عن عمل جدك القاضي عبد الرحمن، فعزله وهي التي عندك لنا.

    وفي السابعة عشر أرسل الأمير هك كري كي علي فلن وبلمع محمد كري إلى باغن فرن مع قُت كَيتا.

    وفي الثامن عشر غزا غزوة اللعين المتنبّي تينض، فقتله في زار. وقد أدرك الحال أن ابنه الكبير كَل غائباً في غزوة، فلما سمع ما جرى على والده اللعين هرب ما معه من الجند إلى فوت، وهو اسم أرض في قرب البحر المالح، لسلطان جلف، فسكن فيها فبقي يحتال في غدرة ذلك السلطان حتى تمكن منه فقتله. وانقسم إقليم جلف نصفين، نصفاً تملكه كَل ولد سلتي تينض، والنصف الآخر ملكه دمل، وهو أكبر قياد سلطان جلف.

    فصار فيها سلطاناً عظيماً ذا قوة متينة وسلطنتهم باقية كذلك فيها إلى الآن، وهم سودانيون. ولما توفي كل خلفه ولده يريم. ولما توفي خلفه أخوه كلايي تبار، وهو فاضل خيّر عدل قد بلغ الغاية القصوى في العدالة بحيث لم يعلم له نظير في ذلك في المغرب بأسرها إلا سلطان ملي كنكن موسى رحمهم الله تعالى. ولما توفي كلايي خلفه ابن أخيه كت ابن يريم. ولما توفي خلفه أخوه سنب لام، وقد حاول في العدالة نصيبه، فنهي عن الظلم ولا يقبله البتة، وأقام في السلطنة سبعاً وثلاثين سنة. ولما توفي خلفه ابنه أبو بكر وهو الذي فيها الآن.

    تنبيه تينض سلتي يا للب ونيم سلتي وررب ودك سلتي فرهي وكر سلتي ولرب خرجوا من قبيلة جلف في أرض ملي ونزلوا في أرض قياك. فلما قتل الأمير أسكيا الحاج محمد اللعين رحل الكل إلى فوت وسكنوا هنالك وهم فيها إلى الآن.

    وأما جلف فهم خيار من في الناس فعلاً وطبيعة، وطبائعهم تباين طبائع سائر الفلانيين في كل وجه، وخصهم الله تعالى بمحاسن الأخلاق ومكارم الأفعال ومحامد السير، وهم في تلك الناحية الآن بقوة عظيمة ومتنة جسيمة. أما النجدة والشجاعة فليس لهم نظير فيها، وأما العهد والوفاء فمنهم ابتدأت وإليهم انتهت في تلك الناحية على سمعنا.

    وفي آخر التاسعة عشر غزا غزوة كشن ورجع في الربيع الأول في العشرين سنة. وفي آخر الحادية والعشرين غزا غزوة العدالة سلطان أكدز، ورجع في الثانية ولاعشرين. وفي رجوعه خالف عليه كُت صاحب ليك الملقب بكَنت، وسببه أنه لما وصل بلده حين رجع معه من تلك الغزوة انتظر سهمه من تلك الغنيمة. فلما انقطعت رجاؤه منه سأل دند فاري عن سهمه. فقال له: إن طلبته لتغوّطت. فسكت. ثم جاءه أصحابه فقالوا له: أين سهامنا عن هذه الغنيمة، ما رأيناها إلى الآن إلا تسألها. فقال: سألتها، قال في دند فاري إن عدت سألتها لتغوّطت. ولا أتغوط وحدي وإن كتنم تتغوطون معي سألت. فقالوا: نتغوط جميعاً معك. فقال: بارك الله فيكم، هذا الذي أريد. فعاد إلى دند فاري فسأله فأبى. فخالفوا، وصار بينهم إلى قتال عظيم فامتنعوا وخرجوا من طاعة الأمير أسكيا الحاج محمد إلى انقراض دولة أهل سغي، فقام كنت بنفسه. وفي الثالثة والعشرين غزا إليهم فما نالوا منهم نيلاً.

    وفي الرابعة والعشرين أرسل أخاه كرمن فاري عمر إلى قام قتي فقتله. وفي الخامسة والعشرين نزل في كبر في الخامس عشر من رمضان. وفي السادسة والعشرين مات أخوه عمر كمزاغ في اليوم الثالث من الربيع الأول. فاحتجب ولي الله تعالى خور صالح جور عن الناس ثلاثة أيام. ثم خرج، فلما جلس في المدرسة قال للطلبة: ففي هذا اليوم ترك الولي بري عمر وعفي عنه. وهو يحب هذا السيد وينفعه ويكرمه غاية الإكرام.

    والأمير في سنكرِيَ يومئذ قرية وراء كوكي إلى جهة دند، وجعل أخاه يحيى كرمن فاري، وأقام فيها تسعة أعوام. فتوفي في فتنة فارمنذ موسى لما خرج باغياً عن والده الأمير أسكيا الحاج محمد.

    وفي الثانية والعشرين مات عمر بن أبي بكر سلطان تنبكت. وفي إحدى وثلاثين أرسل أخاه فرن يحيى إلى كرر، ومات هنالك بنك فرم علي يمر. فلما رجع بعث علي فلن إلى بنك لرفع تركة الهالك علي يمر، وطلب من الأمير أن يتولي ابنه بل فرم بنك فرم، وهو أدك فرم يومئذ، فأذن له. وهو معروف بين إخوته بالنجدة والشجاعة، ومن صغار أولاده. فلما سمع إخوانه الكبار ذلك غضبوا وحلفوا متى جاء كاغ يشقون طبله، وتلك الرئاسة مقام كبير في سلطنتهم، وصاحبه من أرباب الطبل. وبقي إخوانه يتكلمون في أمره بكلام الغار حساداً، إلا فارمنذ موسى وحده وهو أكبر منهم جميعاً.

    فسمع بل جمبع مقالاتهم فحلف هو على من أراد أن يشق طبله يشق هو دبر أمه. فجاء كاغ وطبله بين يديه يضرب حتى وصل موضعاً معروفاً بقرب المدينة، وهو حد الانقطاع ضرب جميع الطبل إلا طبل أسكيا وحده. فأمر طباله أن لا يمسك عن عمله إلى باب دار الأمير. فركب كبار الجيش الذين من عاداتهم أن يركبوا للقاء مثله، وفيهم إخوانه الذين وعدوا بشق طبله. فلما وصلهم نزل عن حصانه للسلام عليه كل من عادته أن ينزل لمثله، إلا فارمنذ موسى سلم عليه وهو على حصانه، وأحنى رأسه له قليلاً وقال له: ما تكلمت بشيء وقد عرفت إن تكلمت لا بد من وفاء كلامي. وما قدر أحد منهم أن يتعرض بسوء، فنعقدت العداوة بينه وبين إخوانه بهذا الطلوع، وبما فاق عليهم في كثير من المشاهد والمعارك بالجرأة.

    وقد أدرك الحال موسى يحيد عن الطريق لوالده الأمير غيظاً عليه، وعلى خديمه النصيح علي فلن مما كان بينهما من المساعدة والموافقة، وزعم أن الأمير لا يفعل شيئاً إلا بأمره.

    وقد عمي في أواخر دولته ولم يفطن أحد به لأجل قرب علي فلن منه وملازمته إياه. فجعل موسى يهدد عليه ويتوعده بالقتل، فخاف منه وهرب إلى تندرم عند كرمن فاري يحيى في السنة الرابعة والثلاثين.

    وفي الخامسة والثلاثين خالف عليه فارمنذ موسى فذهب إلى كوكيا مع بعض إخوانه. فأرسل الأمير لأخيه فرن يحيى في تندرم أن يجيء لتقويم أعوجاج هؤلاء الأطفال. فجاء وأمره أن يذهب إليهم في كوكيا ووكّد عليه أن لا يبلغ معهم التمريث. فوصلهم هنالك ولقوه بالقتال حتى جُرح وتمكن منه. فسقط على الأرض وخر على وجهه عرياناً، وجعل يتكلم بما سيكون فيهم من المحدثات، وداوود ابن الأمير واقف عند رأسه في تلك الحال مع أخيه إسماعيل ومحمد بنكن كري بن عمر كمزاغ. فأشار إلى صاحبيه بالبهتان والكذب. فقال في تلك الحال: مار بنكن كري، تصغير هذا اللفظ في لغتهم، أنت الذي تنسب إلى الكذب، وما ثم بعد لا تسمعه أبداً يا قطاعاً للرحم. وغطه إسماعيل بالثوب فقال وهو في تلك الحال: عرفت يا إسماعيل لا تفعله إلا أنت لأنك وصال للرحم. ثم توفي. فجعل الأمير ابنه عثمان يَوباب كرمن فاري وأرسله إلى تندرم.

    ثم رجع موسى وإخوته إلى كاغ. وفي آخر هذه السنة عزل الأمير والده يوم الأحد يوم عيد الأضحى قبل الصلاة، والأمير في المصلى. فحلف أن لا يصلي أحد حتى يتولي الأمرة. فسلّم له والده، فكان أميراً ساعئذ. فصلى الناس صلاة العيد. وبقي هو في داره وأسكيا الوالد في دار السلطنة، ولم يخرجه منها في حياته. ومكث الأمير أسكيا الحاج محمد في السلطنة ستة وثلاثين سنة وستة أشهر.

    الباب الرابع عشر

    ذكر أسكيا موسى وأسكيا محمد بنكن

    ثم دخل أسكيا موسى في قتل إخوته، فهرب كثير إلى تندرم عند كرمن فاري عثمان يوباب، منهم عثمان سيدي وبكر كِنِ كِرِنِ وإسماعيل وغيرهم. فاغتم لذلك وقال لمحدثيه: إن أخي عثمان عرفته ليس له أمر من نفسه، إنما يعمل بأمر جلسائه ولا يجالس إلا مع الأراذل والسفهاء، أخاف من الفتنة بيني وبينه.

    فبعث له مرسوله بكتابه وأعلمه بدخوله السلطنة، وأعطى المرسول كتاباً آخر لوالدته كمس، وذكر له متى لم يقبل الكتاب يبلغ الآخر حينئذ للوالدة المذكورة. وكتب لها فيه أنه دخل في حرمتها وفي حرمة أبيه أن يتكلم لعثمان لئلا يكون سبب الشر بينهما. فوصل المرسول إليه فلم يبال به ولم يلتفت إليه ولم يأخذ الكتاب.

    فبلغ الوالدة كتابها، فلما قرأته وعلمت ما فيه ذهبت إليه وكلمته وقالت له: رفعت لك ثدي إلا أن تجتنب مخالفة أخيك، وهو ليس لك بأخ بل أب، وهل عرفتَ سبب هذا اللقب الذي يسماك به اليوم الذي ولدتك؟ ما في بيتنا ما يسخن به الشراب لي، وقد خرج هو فتأخر عن الرجوع إلينا، فلما جاء قال له أبوك أين وقلتَ اليوم؟ والضيف هنما ينتظرك منذ أول اليوم. فأخذ حريشه ومشى إلى الغابة فاصطاد لنا ما سخن به الشراب لي، ولهذا قلت لك هو أبوك، وها هو حسبني، ودخل في حرمتي أن لا تكون سبب الشر بينك وبينه.

    فسمع لها وأطاع وأمر بإحضار المرسول فقام هو على رجله وسأل عن عافية أسكيا، وتلك عادتهم إذا كانوا مطيعين. فقرأ له الكتاب وعزم المضي إليه، وعمّر قواربه وأكمل أهبّته، فخرج للمسير مع جيشه. فمن قليل تغني مغنيه، فأغضبه كثيراً كاد أن يتميز من الغيظ، فقال لجماعته: انهبوا ما في القوارب، ورأسي ها لا يرفع التراب لأحد أبداً.

    فرجع لداره وخالف بالحقيقة التي لا شك فيها، فرجع المرسول إلى كاغ وأخبره بما جرى. فجهز للمسير إلى تندرم، وقامت الفتنة وتحققت الشر. فسار بالجيش بلما قرب إلى تنبكت تلقاه شيخ الإسلام أبو البركات القاضي الفقيه محمود بن عمر رحمه الله تعالى في بلد تِري لكي يصلح بينه وبين إخوته. فلما جلس عنده استدبر السيد ولم يقابله بوجهه. فقال له: لم تستدبر عني؟ قال:لا استقبل وجهاً خلع أمير المؤمنين من أمرته. فقال له: ما فعلت ذلك إلا خوفاً على نفسي وكم من سنين لا يعمل إلا بما أمر به علي فرن، خفت من أن يأمر علي يوماً بسوء.،ولهذا خلعته. فطلب منه العفو لإخوته ويجتنب الفتنة بينه وبينهم لما فيه من قطع الرحم والفساد في الأرض. فقال له: امهل واصبر حتى يحترقوا بالشمس فإذاً يسرعوا إلى الظل. فرفع له الغطاء عن الحرشان الكبار المسومات. فقال له هي الشمس وأنت هو الظل، ومتى تألموا يهرعون إليك، فاعفوا عنهم حينئذ. ولما رأى أنه صمم على الشر رجع إلى تنبكت.

    فنهض إليهم من ذلك المنزل ونزل توي. وسمع أن كرمن فاري عثما عزم على المجيء إليه للقتال، فظهر في وجهه الرعب والندامة، فقال له بلمع محمد كري: ومعه أخيك عثمان رجلان بكر كرن كرن والآخر نسيته، ولو كان في ألف رجل مع هذين أو أحدهما وأنت في عشرة آلاف رجل لغلبك، وإن كان الأمر بالعكس لغلبته.

    وما زالوا في ذلك المجلس حتى رأوا شخصاً في السراب مرة يظهر ومرة يغيب حتى دنا إليهم، فإذا بكر كرن كرن المذكور، فنزل ورجع له التراب. فقال: ما جاء بك؟ قال: ليس بمحبتك ولا بكره عثمان، إنما جئت هرباً من الخسارة ولا أكون مع القوم الخاسرين. فقال له: ولِم: قال: لأن القوم جميعاً أصحاب الرأي. ثم جاء الآخر فقال مثل ما قال الأول. ففرح أسكيا موسى ساعتئذ فرحاً عظيماً.

    ثم جاء عثمان فتقاتلا بين أككن وكبر في السادية والثلاثين. فمات بينهما خلق كثير، منهم عثمان سيدي وغيره، وهرب بإسماعيل إلى بير مغشرن كي زوج أخته كِبِن نكس ابن أخت أكِل، وبقي هنالك إلى زمن ولاية أسكيا محمد بنكن.

    وأما كرمن فاري عثمان فهرب وهرب معه علي فلن وبنك فرم كل وآخرون، وانتهى عثمان إلى تمن فأقام بها إلى أن توفي سنة أربع وستين وتسعمائة. وعلي فلن قد جاز إلى كنو وعزم على الحج ومجاورة المدينة المشرفة، فحال القدر بينه وبين ذلك، فتوفي في كنو.

    وأما بنك فرم بل فرجع إلى تنبكت واستحرم بأبي البركات القاضي الفقيه محمود، فبعث إليه وطلب الشفاعة له وهو في تِل. فقال جميع من دخل في داره فهو آمن إلا بل وحده، فرفع الكتب التي في حضرته على رأسه، وقال: دخلت في حرمة هؤلاء الكتب بعث بذلك إليه أيضاً. فأبى. فقال: بل لأبي البركات أشهد علي بأن جميع ما رأيت ما فعلتها إلا فراراً من أن لا أكون قاتل النفس، والآن يفعل ما بدا له. فذهب إليه بنفسه، فشوور، ودخل وصادف بابنه محمد بن أسكيا موسى واقف على رأسه، ويقول له: يا أبت لا تقتل أبي بنك فرم. فلما دنا منه تلقاه ابنه محمد المذكور يحييه. فقال له بَل يا بني ولا بد لي من الموت لأن ثم ثلاث خصال لا أفعلها أبداً: لا أقول له أسكيا، ولا أرفع التراب له على رأسي، ولا أركب وراءه. فأمر بقبضه، ثم قتله. قيل قتله في ألفع كنك مع ألفق دنك بن عمر كمزاغ، وهما ابنا عم وابنا خالة أمّاهما فلانيتان. أمر بحفر الحفرة حتى تعمقت جداً في ذلك المكان وجعلا فيها حيين وردما فماتا، والعياذ يبالله.

    ثم قتل درمكي دنكر وبركي سليمن وجعل محمد بنكن كري كرمن فاري. ثم رجع إلى سغي على طريق أرض جني. فلما بلغ تِرفي تلقاه ولي الله تعالى الفقيه مورمع كنكي مع الطلبة خرجوا من جنج، فسلم عليه ودعا له على عادتهم. ثم قال له الشيخ نطلب منك في حق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن تعفو عن درمكي وبركي، وهما بارّان لأهل أرضهما راضين عنهما جداً، وما دخلا في الفتنة بغرضهما بل بالخوف على أنفسهما قهراً وجبراً ولا يقدران أن يتخلفا عن فرن عثمان. فقال له: قد جاوزا يدي وتفوتا. فقال له الشيخ: لا تفعل ذلك ولا ترد شفاعتي. قال: ولا بد. فلما أيأس الشيخ قال له: قد كنت ساكناً في بلد جنج من زمن سن علي، وما صبنا راحة وعافية ولا سكوناً إلا في ولاية أبيك الأسعد المبارك أمير المؤمنين أسكنا الحاج محمد، فكنا ندعو له بالنصر وطول العمر، ونسأل هل له ولد مبارك الذي فيه رجاء المسلمين؟ قيل لنا نعم فسميت لنا ومتى دعونا له ندعو لك بالخلافة بعده، فتقبل الله أدعيتنا، والآن إذا خيّبت سعينا ومنعت لنا بالحرمة ما زالت الأكفّ التي رفعنا إلى الله تعالى في الدعاء لك ترفعها إليه عليك. وقاموا ورجعوا.

    وفي العشية ارتحل أسكيا موسى. فخرج بن فرم إسحق ابن أسكيا الحاج محمد من مقامه حتى وصل كرمن فاري محمد بنكن، فجذبه عن ورائه في مقامه. فالتفت إليه وقال له: أيس الذي جراك على هذا العمل؟ فخرجت من مقامك إلى هنا وتجذبني من ورائه؟ فقال له: الغم من عمل هذا الشيخ الذي فعل بأسكيا وتطاوله عليه، وما صبر له إلا لخوف. فوالله إن كنت إياه ساعتئذ لقتلته، ولو كنت أخلد في النار.

    فلما نزلوا للمبيت جاء المتحدثون للمسر عند أسكيا على عادتهم، فحكى كرمن فاري له القصة بحالها التي صوّرت من بن فرم إسحق. فقال أسكيا: والله العظيم ما في جسمي شعرة واحدة خافت قط، ولكن إذا رأى ما رأيت حين أتكلم معه لمات من حينه خوفاً ورعباً. فقال لكرمن فاري: أما رأيت كفّيه الذين يرفعهما إلى كتفيه؟ قال: نعم. قال: يرد بهما أسدين على الكتفين رافعين يديهما إلي فارغين، شد فيهما، ما رأيت مثل عظمهما ولا مثل أنيابهما ومخالبهما، ولذلك أمرته أن يذهب إلى منزله، فرجعوا إلى جنج غاضبين عليه.

    فلما وصل كاغ شرع في قتل الباقين من إخوته فاغتموا من أمره ودخلوا في الاحتيال في ذلك إلى يوم واحد قبض فرن عبد الله ابن أسكيا الحاج محمد، فهو شقيق إسحق، فاتفق الباقون جميعاً على أنه إذا قتله يقومون عليه ويقتلونه، إلى يوم واحد نادا إسحق فوضع بين يديه عمامة وفميصة باليتين. فقال له: أخوك فرن عبد الله جبان ادخرناه في موضع فمات من الرعب.

    فخرج إسحق إلى عبد شاع فرم علوصاي بن الأمير أسكيا الحاج محمد وهو يبكي فأخبره. فقال: اسكت، هل أنت نساء؟ هذا آخر قتله فينا، ولا يقتل بعده أبدا.ً فاتفقوا وخالفوا عليه سراً حتى قتلوه في قرية منصور-وقتل هو فيها بلمع محمد كري، وخلفه بلمع محمد دند مي ابن أسكيا الحاد محمد على يد محمد بنكن-يوم الأربعاء الرابع ولاعشرين من شعبان عام السابع والثلاثين، ومدته في السلطنة يومئذ سنتان وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً. وشاع فرم علو المذكور هو الذي باشر القتل. فتولى السلطان الأسعد الجواد أسكيا محمد بنكن ابن عمر كمزاغ يوم موته بالتاريخ المذكور.

    وذلك أن إخوته لما اتفقوا على قتله ضمن ذلك لهم الأكبر منهم شاغ فرم علو فقال: أرميه بالحريش في الركوب، إن أخطأته فارموني بالحديد أنتم جميعاً لأموت وتسلّموا من شره. فرما وصادفه في كتفه الأيسر وهو يتحدث مع بركي ساعتئذ أمر بمجيئه إلى جنبه في الركوب. فالتفت بركي وراءً الحريش واقفاً في كتفه والدم يسيل. وهو ما التفت ولا جعل نفسه كأنه نزل عليه أدنى شيء لشدته وقوة قلبه. فهرب بركي.

    وأراد أن يقاتل معهم وما تمكن يده اليسرى من قبض العنان، فذهب إلى منزله وأخرج الحديد وكوّى الجرح وعصب العظم وبات تلك الليلة في الاستعداد للحرب والقتال مع إخوته غداً. ولم يكتحل بالنوم للغضب والغيظ، ويحلف ويكرره أن الدم يسيل غداً ويجري. فلما أصبح تحزم وخرج، وقامت المعركة بينه وبينهم، فتقاتلوا وغلبوه وهزموه. فهرب وتبعوه وقبضوه وقتلوه. فرجعوا ووجد شاع فرم كرمن فاري في مقام أسكي بين الأعواد، قد أمره أخوه عثمان تنفرن بذلك ليكون أسكيا. فأبى وامتنع وقال له: لا طاقة لنا بمقابلة هؤلاء القوم، يعني أولاد عمه.

    فحلف له إن لم يدخل فيه يدخل هو، ولو كان الصغير لا يكون على رأس الكبير. فدخل وقام مقام أسكيا. فلما رجع شاع فرم ورآه فيه من بعيد فقال: من هذا الذي بين الأعواد لا أكسر شجرة برأسي فيأكل أحد ثمارها.

    فاقترب عثمان تنفرن فقال لأخيه: اخرج بين أعواد أسكيا. وضرب رأسه بأعواد حرشانه، فخرج. ولما أراد أن يدخل في ذلك المكان رماه عثمان بالحريش من وراءه حتى تمكن منه، فخرج هارباً. ورجع محمد بنكن فيه، فبايعه الناس وثبت سلطاناً.

    فوصل شاع فرم في هروبه عند أصحابه المرسى وطلب منهم أن يكتووا له الجرح. فقبضه كومكي وقطع رأسه بالمنجل، وأتى به لأسكيا. فشكر عمله له ساعتئذ، وأمهل له مدة، ثم قتله. وقتل جماعة كثيرة معه من قومه.

    ورحّل عمه أسكيا الحاج محمد من دار السلطنة فدخل فيها، وبعث به إلى جزيرة كنكاك موضع بقرب المدينة في جهة المغرب، فسجنه فيها. وجعل أخاه عثمان كرمن فاري ومكث فيه ما مكث وهو في السلطنة. وبعث إلى بير في رد إسماعيل فجيئ به إلى سغي، لأنه صاحبه وحبيبه من حين الطفولية، فأحلفه المصحف أن لا يسعي في غدرته أبداً، وزوجه ابنته فت.

    وأمر بحضور بنات أسكيا الحاج محمد في ناديته متى جلس فيها كاشفات رؤوسهن. وتصيح عليه يان مار: فرخ نعامة واحد خير من مائة فروخ دجاجة دائماً. فقام تلك السلطنة أحسن قيام، فوسعها وزينها وأجملها بالرجال زيادة على ما كانوا قبل، وبالملابس الفاخرة وأنواع آلات الطرب، وبالقينين والقينات، وكثرة العطايا والمنائح. فنزلت البركات في أيامه، وانفتح فيها أبواب الأرزاق وانصبت، لأن أمير المؤمنين أسكيا الحاج محمد ما فتح صدره للدنيا خشية العين، وطالما ينهى أخاه فرن عمر عن ذلك، ويقول له: لا تعرض نفسك للهلاك بالعين.

    وأما أسكيا موسى من حين تولى ما صاب راحة ولو ساعة واحدة لأجل عداوة الأقرباء، وهي أكبر مصائب الدنيا، وهي عداوة أبدية لا تحول ولا تزول. وهو كل ساعة في مكابدة النفس وشغل الخاطر بالهمّ والغم والاحتراس. وأخذ الحذر حتى مضى لسبيله.

    والسلطان الأسعد مولع بالغزو والجهاد، وأكثر منها جداّ حتى بمل منه سغى وكرهوه. وغزا بنفسه إلى كنت، فاقتتل هو وكنت في ونترماس، اسم موضع. فهزمه كنت هزيمة فاحشة. فهرب مع عسكره وتبعوه حتى حصّلوهم في خضخاض، ما نجاهم إلا الله تعالى، ولم يقدر أن يجتازه بالحصان. فنزل واحتمله على عنقه هيكي بكر علي دود حتى قطع به المكان ورجع عنهم جيش كنت. وأما جيشه هو فتفرقوا شذر مذر.

    فأينما بات ليل يوم الهروب مد له بكر علي المذكور رجله وجعل رأسه عليه، وبقي يتحدث معه إلى أن قال: هذه الهزيمة الذي طرأت علي مع جميع هذه المشقات ما أشد علي غيظاً مما يقول أهل تنبكت ساعة وصلهم خبرنا، فيقول بعض المرجفين لبعض متى اجتمعوا وراء مسجد سنكري. فسمى منهم بوزداي وفلاناً وفلاناً، لأنه عارف بجميع أحوال البلد، وقد سكن في سنكري في نشأته للقراءة. هل سمعتم يا فتيان ما طرأ على مرنكن كري مع كنت؟ فيقول المستمعون: وما الذي طرأ عليه؟ فيقول المخبر: هزمه هزيمة كاد أن يموت ويموت جيشه كلهم. فيقولون: ما تغوط بعد الذي امتنع لأسكيا محمد، هو الذي غزا إليه. قال لهيكي بكر علي دود: هذه بقالاتهم كأني أنظر إليهم. ثم وصل كاغ، وما غزا أحد بعد إلى كنت من الأساكي.

    ثم غزا إلى كرم. فلما وصل مساكنهم بعث الطليعة ليطالعوا على الكفار ويأتوا بخبرهم. وهم قد سمعوا خبره فجهزوا لقتاله. جاء بير فرجع الطليعة وأخبروه بمجيئ الكفار. ثم بعث الطليعة ثانية فرجعونا بقرب وأخبروا بدنوهم. فبعث لدنكلك، وهو ربّ الطريق يومئذ، أن يوقفوا عصيهم. فوجده المرسول يلعب بالشطرنج السوداني، ولا رد باله معه لالتهائه بذلك اللعب، حتى اقترب الكفار جداّ.

    فركب أسكيا بنفسه إليه وهو يصيح أيش هذا الحال، والكفار قد دنوا إلينا، فما تكلم حتى أتم لعبه؟ فقام والتفت إليه وقال: أو لك يا هذا الجنان، لا تستحق أن تكون أميراً. فعمل ما عمل ساعتئذ من استعمالات الحرب، فانهزم الكفار وولوا مدبرين. قال له: ها هم وصلوك، افعل بهم ما أردت. فتبعهم الخيل وهم يقتلونهم إلى الغد. فخاف منه خوفاً عظيماً، فلما رجع إلى كاغ عن قليل جاء الخبر بموت كل شاغ. فقال لدنكلك: ما أراني الله إلا إياك لهذا المكان، فأنت كَل شاغ. فقال: ويحك ألم يبق لك مراد في الغزو؟ فقال: بلى ولكن ذكل الموضع من أوكد الموضع علينا، ولا نختار لها إلا أنت. قال: ولا بد. قال: لا بد. قال: على بركة الله، ولكن لا تجعل خليفتي إلا فلاناً. فأنعم له. فلما ولّى وبعد قال: اذهب أنت لا نبقيك فيها، ولا نجعل من ذكرت.

    ثم إن إسماعيل ذهب إلى عند أبيه في تلك الجزيرة ليلة واحدة ليسلم عليه. فلما جسل بين يديه قبض على ذراعه فقال له: سبحن الله، كان ذراعك هكذا تتركني الناموس يأكل والضفادع تنقزّ علي، وهي أكره شيء عنده! فقال له: لا جهد لي. قال: اذهب عند فلان، واحد من خصيانه، واقبض من جسده موضع كذا، وقل له إذا عرف هذه الأمارة بيني وبينه يعطيك الذي عنده من وديعتي، اقبضها منه واشتر به الرجال سراً وهي ذهب، واذهب عند سوم كتباك واطلب منه اأمانة، وهو من أحباء أسكيا محمد بنكن.

    فجاءه وطلب منه الأمانة. فقال له: قبح الله الحرية، ولو لاها ما تخرج عندي سالماً، ولكن متى نلت مرادك اقتلني تلك الساعة، ولا بد ولا بد. وقد عرف أسكيا الحاج محمد أن القصد عزيز عنده وعند أهل قبيلته أجمع، يبذلون فيها ولو أرواحهم، ما تكلم بعد بخير ولا بشر.

    وقد كان قبل ما خالف عليه هذه القبيلة حتى تمكنوا من البلد، وخرج هارباً هيكي بكر علي دود، هو الذي احتال له حتى تمكن منهم مع أناس قلال الذين معه، فقتلوهم قتلاً شديداً، ورجع للبلد في سلطنته.

    ثم جعل أهل سغي يتكلمون فيه، فيما بينهم لأجل مللهم منه. فلما سمع ذلك يارسنك دبي أخبره به، وهو بمن أحبائه وخاصته. فما صبر عنه حتى أخرجه لجماعته في ناديته كأنه لم يصح عنده. فقالوا له بأجمعهم: ما نقوم من هنا حتى تذكر لنا من يسعى بيننا وبينك بالنمبمة، أما أن تختار جماعتنا أو يختاره هو. فلم يجد بد إلا أن قال أنه يارسنك دبي. فقبضوه ونقشوه بالحمرة والسواد والبياض وركبوه حميراً وطوقوا به البلد بالنداء والبرحة: هذا جزاء من يسعى بالنميمة.

    ثم تجهز للغزو وخرج. فلما وصل قرية منصور الموضع الذي تولى فيه السلطنة نزل فيه وبعث دند فاري مار تمز غازياً مع الجيش، وذلك في شهر شوال أحد شهور العام الثالثة والأربعين. فقال له إن نجح سعيك فأنت دند فاري، وإلا فأنت مارتمز، يعني معزولاً. فقال: الله تعالى يصلحه بحرمة شهر الفطر هذا وشهر الراحة الذي بعده ونرتاح جميعاً إن شاء الله تعالى. فسار إلى ذلك الغزو واتبعه كثيراً من خواصه ليكونوا رقباء عليه لئلا يعذره. فشرع في تنفير الرجال بلطف الاحتيال حتى تمكن من تدبيره، فقبض جبيع خواصه، وكبلهم في الحديد.

    وعزله وهو في قرية منصور الذي تولى فيه السلطنة، ووافق باليوم الذي تولى في أيضاً، يوم الأربعاء ثاني شهر ذي القعدة الذي هو شهر الراحة عند أهل سغي في العام المذكور. ولما بلغه الخبر فقال: تكلم لي بهذا يومئذ، ولم أفهم إلا في هذا اليوم.

    الباب الخامس عشر

    ذكر أسكيا إسماعيل ابن أسكيا الحاج محمد

    فتولى أسكيا إسماعيل بتولية دند فاري مارتمز في يوم العزلان بالتريخ المذكور في موضع يقال له تال. ومكث محمد بنكن فيها ست سنين وشهرين.

    وفي هذا العام، أعني الثالث والأربعين بعد تسعمائة، توفي القاضي عبد الرحمن بن الفقيه أبي بكر بن الفقيه القاضي الحاج ضحوة السبت الحادي والعشرين من الربيع الآخر، وعمره اثنان وثمانون سنة. وسبقه ولي الله تعالى الفقيه الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت إلى دار الآخرة بعام واحد غير شهر واحد، وهو رحمه الله تعالى توفي في العام الثاني والأربعين ليلة الجمعة العاشر من ربيع الآخر في أول الطاعون المسمى كف.

    وكيفما تولى إسماعيل بعث رسله ليطردوا محمد بنكن المعزول ويخرجوه من أرض سغي. وساروا قسمين، قسم إلى جهة هوص، وقسم إلى جهة كرم. وفي هذه القسم ياري سُنك دبي، طلب ذلك من أسكيا، ورجل آخر كذلك طلب منه تولية رئاسة التي له، فمنعها إياه وولاها لآخر. فلما تولى إسماعيل ولاه رئاسة أكبر منها.

    وقد قدم مرسولاً قبل هؤلاء إلى كاغ ليلاً يتركوه أن يدخل فيها. فتوجه في هروبه إلى تنبكت وجاز عليه يومان في مسيره ما ذاق الكور، وهو مولع به كثيراً. فإذا مرسوله الذي أرسله إلى جني في أيام سلطنته راجع في القارب، وفيه كل خير. فلما تحققه أتباعه صاحوا عليه: أسكيا هاهنا. فقصدهم حتى رسى قدامه وفهم ساعتئذ ما جرى. فطلب أسكيا منه الكور، وقال له: الكل متاعك، ارفع منها ما أردت. فقال: ليس بمتاعي اليوم ولا أرجع سارقاً ولا قاطعاً، أريد من الذي لك. فأعطاه ما يكفيه. فلما أكله وابتلعه تقياً جميع ما في بطنه لطول عهده به. ثم طلب منه المرسول أن يمضي معه، فلم يقبل وقال: امض في طريقك بسلامة وعافية، وإذا وصلت أخبر أسكيا بجميع ما جرى بيني وبينك، ولا تكتمه شيئاً منها، لئلا يسمعه من فم آخر فقتلك باطلاً، وأهل سغيث ليسوا بخير. فلما بلغ أسكيا أخبره بجبيع ما جرى.

    ثم وصل تنبكت في آخر الليل، فقصد دار أبي البركات القاضي الفقيه محمود ليسلم عليه. فوجد ابنه عمر المنتبه وحده ساعتئذ فوق سطح يطالع كتاب المعيار للينشريشي في ليلة مقمرة، وسنه يومئذ ولله أعلم سبعة وعشرون سنة. فشاور له والده الفقيه محمود، فدخل وسلم عليه وأخبره بما جرى عليه من أهل سغي. فخرج ساعتئذ وتوجه إلى تندرم عند أخيه كرمن فاري عثمان.

    وفي غد ضحوة وصل خيل أسكيا إسماعيل تنبكت الذين في إثره، فجاوزوا على حالهم. وعند وقت العصر وصلوهم عند بحر كركند قريباً من تندرم. فاقتتلوا هنالك. ورجع خيل أسكيا إسماعيل لما تحققوا أنه وصل عند أخيه عثمان، ومعه ولده بكر. وطلب منه الرجوع إلى كاغ للمقاتلة، فقال له: ما زال ذلك الأصبع الذي جعلك أسكيا يردك أسكيا. فقال له لا نقدر على ذلك الذي مددت جيش سغى به من الرجال في مدتي هذه، لا يقابلهم جميع جيشك، مع أن أهل سغى إذا كرهوا لا شفاء لهم.

    ثم وصل الخيل الذين أخذوا جهة كرم بلد كرم وهو مقابل لتندرم. فنادا ياري سنك دب: أسكيا مرنكن سلام عليكم. فقال له السائل: من أنت؟ قال: أما ياري سنك دب، ما أحب أن يكون عليك مثل هذا اليوم، ولكن أحب أن يكون قولي صدقاً. ثم نادا الآخر كذلك، فقيل له: من أنت؟ قال: أنا فلان، منعتني جيفة، فأبدلها الله لي ذبيحة.

    ثم رجعوا إلى سغي، بعد ما توجه هو وأخوه عثمان إلى ملي، ومعه ولده المذكور. فوصلوا بلد سنقرزومع، ونزلوا فيه للتوطن. فتزوج ابنه بكر هنالك، وولد ماربا.

    ثم شرع أهل ملي في الإذلال والتصغير لهم ولا يصبر عثمان على ذلك، يتكلم له ويوصيه على الصبر، حتى أن يوماً واحداً غضب عليهم غضباً شديداً في ذل الإذلال. فشدد عليه أسكيا محمد بنكن في الكلام يومئذ وأغلظ وقال له: أراك لا تريد لنا الخير في هذا الحال. فغضب عثمان وارتحل إلى بير وسكن فيها.

    ثم ارتحل أسكيا وأولاده إلى سام، آخر بلاد سلاطين أهل كَل، فسكن فيها مع عياله. وذكر عن أسكيا إسماعيل أنه قال لما صاح عليه المغني ساعة الطلوع انقطع قلبه وسال منه الدم من ورائه، قال لإخوته: وما ذاك إلا لأجل المصحف الذي حلفت لأسكيا محمد بنكن هو الذي أخذني ونفذ في، وأنا لا أستأخر في هذه السلطنة، فانظروا لأنفسكم وكونوا رجالاً، ما أردت خروجه من السلطنة إلا لثلاثة أشياء: إخراج والدنا من ضرورة تلك الجزيرة، ورجوع أخواتنا في الحجاب، وقول يان مار كلما رآه: فرخ نعامة واحد خير من مائة قروخ دجاجة.

    فبدخوله التسكية جاءه فارمنذ سوم كتابك، فنزل عن فرسه وقال له: بادر لي بذلك القتل. قال له: لا إلا أن تبقى في مقامك عزيزاً مكرماً عندي. فقال: لا والله. ولاطفه بالأقوال الحسنة كلها فلم يجد منه ممسكاً، فأمر بسجنه.

    وكيف ما نزل عن فرسه ساعة مجيئه ركب عليه أخوه داوود. لأجل تلك الجرأة جعله فارمنذ، لما أيس من قبول سوم كتابك. وجعل هماد ولد أري بنت أسكيا الحاج محمد كرمن فاري، ابن بلمع محمد كري.

    وفي الرابع ولأربعين أخرج أباه من مسجنه كنكاك في أول العام ورده إلى كاغ. وفيها ذهب إلى دور. وفيها توفي الأمير أسكيا الحاج محمد ليلة الأحد ليلة عيد الفطر، رحمه الله تعالى وغفر له وعفى عنه بمنه. ثم غزا إلى بكبول في أرض كرم، فلما قاربه رحل بعياله وقومه، فخرج من بين يديه. فأعطى الخيل لكرمن فاري هماد ولد أري، فتبعه حتى وصله. فتقاتلا وامتنع له الكافر. فبلغ الخبر أسكيا وأرسل لكرمن فاري أن امتنع لكم، أجيئ أنا بنفسي. فقال للعسكر سوسو، وهو كلمة التحضيض عندهم، يا أصحابنا، وقد عرفتم بلا شك ولا ريب إذا جاء يجد الذكر الجميل علينا، فتقدموا إليهم. وقتل الكفار منهم ساعتئذ تسعمائة فارس، فقتلوه مع المسركين وغنموا النجعة، حتى بيع عبد واحد في كاغ بثلاثمائة ودعاً.

    وتوفي أسكيا إسماعيل في شهر رجب يوم الأربعاء في العام السادس والأربعين بعد أن خرج أهل سغي إلى الغزو.

    الباب السادس عشر

    ذكر أسكيا إسحاق ابن أسكيا الحاج محمد

    فلما بلغهم خبر وفاته بادروا بالرجوع إلى كاغ قبل مجيئ بلمع، واتفقوا على أخيه أسكيا إسحق. فولوه السلطنة في شهر شعبان سادس عشر منه بالتاريخ المذكور. وأقام إسماعيل فيها سنتين وتسعة أشهر وسنّه يوم، ولايته سبعة وعشرون سنة.

    أما إسحق فكان أجلّ من دخل في تلك السلطنة وأظلمهم خوفاً وهيبة، وقتل من الناس أهل الجند خلقاً كثيراً وكان من سيرته إذا خال من أحد أدنى شيء من التعرض للسلطنة لا بد أن يقتله أو يخرجه من أرضه. هذا دابه وعادته. فبدخوله السلطنة أرسل زغرانياً واحداً إلى بير ليقتل كرمن فاري عثمان، وجعل له جعلاً ثلاثين بقرة التي ما ولدت واحدة منهن قط. فقتله ورجع، فأعطاه الجعل كاملاً. ولما خرج إلى وطنه أمر بقتله، فقتل. ثم قتل كرمن فاري هماد ولد أري وجعل علي كسر خلفه. ثم سأل عن سوم كتاباك، أحي أم لا. فأخبر أنه حي. أمر بإطلاقه ومجيئه إليه. فلما امتثل بين يديه قال له مثلك الذي يعرف الخير ويشكره هو الذي يستحق أن يقرب ويتخذ عضداً ورفيقاً، أريد أن أردك في مقامك عزيزاً مكرماً. فقال له طلبه مني السلطان الرشيد المبارك، ما صابه، فأحرى أنت الذي ليس بشيء. فقتله.

    ثم إنه حصل في قلبه خوف عظيم من هيكي بكر علي دود. فذكر لهنبركي أنه يأمره بالذهاب معه فيقبضه ويجعله في الحديد. وحين عزم على المسير قال أسكيا إسحق في ناديته: يا هيكي أنت مع هنبركي. فسكت ولم يجبه. ثم قال: يا هيكي أنت مع هنبركي. فسكت. ثم قال: يا بكر علي أنت مع هنبركي. فأسرع بالوقوف سمعاً وطوعاً، الآن علمت أن بكر علي هو الذي يذهب مع هنبركي، وأما هيكي لا يذهب مع هنبركي. فتعجب الناس من جودة فهمه ومعرفته بالجواب. فجعل هيكي موسى خلفه.

    ثم إنه صلى عيد الأضحى في كبر في آخر الثامنة والأربعين. وفي التاسعة والأربعين غزا إلى تعب آخر بلاد سلاطين بندك. فلما رجع طرق جني، وصلى فيها الجمعة. فلما أراد أن يدخل الجامع رأى مزبلة عظيمة جداً في قرب الجامع من جهة القبلة. قال: القوة بر. وما صلى الناس الجمعة حتى ردمها خدامه كأنهم لم تكن هنالك قط، لأن حكمه شديد.

    فلما فرغوا من صلاة الجمعة تكلم للقاضي العباس كب في بعض المسائل، ومحمود بغيغ جالس حذاء القاضي، وهو من أكبر شهوده. فبادر هو بالجواب. فلما وصل كاغ عن قريب جاءه مرسول أهل جني بنعي القاضي العباس رحمه الله تعالى، يستأذنونه في تولية القاضي. فقال: أليس هنالك قاض؟ قالوا: ما نعرفه. قال: يعرف هو نفسه المؤدب الأكحل الغليظ القصير الذي جاوبني ساعة أتكلم مع الهالك، علم هو أنه قاض، ولذلك اجترأ على مجاوبتي، وهل يقدر أحد على ذلك من الفقهاء غير القاضي؟ اذهبوا فهو قاضيكم من قبل.

    وبالغ فرن علي كشر في التعواخ له عند رجوعه من غزوة تعب، حتى بقي يريد منه الغرة ليقتله. ففطن له أسكيا إسحق وجعل يأخذ الحذر منه حتى بلغ مرسى كبر، فطلع تنبكت للسلام على القاضي الفقيه محمود، فسلم عليه ورجع. فلما بلغ المرسى بادر بالدخول في القارب، فلما رآه تعجل في الدنو إليه. فأمر القدافين أن يدفعوا إلى وسط البحر. فجاء بالغم حتى دخل البحر إلى ركبتيه، ولم يعرف. فلما أيس منه قال: هكذا كان الأمر. فولى بالغيظ الشديد.

    ولما بلغ أسكيا مدينة كاغ أرسل لأهل تندرم أن يطردوه. فخرج وحده هارباً إلى أرض الوادي. فقبضه رجل وباعه. فقيد في الحديد يسقي الجنان، إلى يوم واحد رآه واحد من العرب الذي يأتيه في بيع الخيل أيام تمرده وطغيانه، فحدد النظر فيه فقال: كأنك فرن علي كشر. فرمى نفسه في البئر، وكان فيه حتفه.

    وهو في أيام تجبره يتعدي على الأحرار يبيعهم. فبلغ شكواه القاضي محمود، فزاره يوماً واحداً فقال: لم تبيع الأحرار؟ ألا تخاف أن يبيعوك؟ كاد يتميز من الغيظ من قول أبي البركات، فتعجب به وأنكره وقال: كيف أباع؟ ولذلك صدق الله قول هذا السيد فيه.

    فجعل أخاه داوود كرمن فاري، ومكث فيها ثمانية سنين. وفي إحدى والخمسين ذهب إلى كُكُر كاب اسم مكان في أرض دند. وفي الثاني والخمسين أرسل أخاه كرمن فاري داوود إلى ملي، فهرب منه سلطان ملي. ونزل معسكره في بلده، وتأخر فيه سبعة آيام. وبرح في العسكر أن كل من يريد أن يطيّر الماء فليفعله في دار السلطنة. وفي سابع اليوم امتلأت الدار كلها بالغائط مع سعتها وعظمها. ثم ارتحل راجعاً إلى سغي. فلما رجع أهل ملي إلى البلد تعجبوا مما وجدوه في دار السلطان وتعجبوا من كثرة أهل سغي ومن رذيلتهم وسفاهتهم.

    وفي الخامس والخمسين توفي شيخ الإسلام أبو البركات الفقيه القاضي محمود ابن عمر ليلة الجمعة السادسة عشر من رمضان، كما مر رحمه الله تعالى ونفعنا به في الدارين. وفي يوم الجمعة الخامس عشر من الشوال تولى القضاء ابنه الفقيه القاضي محمد، وعمره يومئذ خمس وأربعون سنة، ومكث في القضاء سبعة عشر سنة وثلاثة أشهر، ومات في الثالثة والسبعين في صفر طلوع الشمس يوم الأحد الثالث عشر منه عن ثلاث وستين سنة، رحمه الله تعالى.

    وفي أول السادس والخمسين ذهب إلى كوكيا فمرض فيها مرض الموت. ولما اشتد عليه بعث لكرمن فاري داوود أحباؤه سراً في المجيئ، فأهمّه شأن أبرند فرم بكر ولد كبر بنت أسكيا الحاج محمد، لأنه شهر ونهر في الذكر الجميل حتى لا يختار أهل سغي أحداً عنه في ولاية السلطنة.

    فاشتكى به عند رجل عالم بالاستعمال، فاستعمل له عليه. وأمره أن يحضر خابياً الذي فيه ماء، فأحضره. وعزم فيه بالعزائم وناداه باسمه. فأجاب وقال له: اخرج إلي. فخرج شخص من الماء بقدرة الله تعالى على شكله وصفته. فجعل الحديد في رجليه وطعنه بالحربة، وقال له: اذهب. فغمص في الماء.

    ثم توجه إلى كاغ. ما وصل إلا وتوفي أربند فرم المذكور. فجاز إلى كوكيا فوصل قبل وفاة أسكيا إسحق. فخاصمه هيكي موسى أشد الخصومة وقال له: من أمرك بهذا؟ ومن شاورت عليه؟ ارجع الساعة. فرجع وعن قريب توفي. فبعث له في الرجوع فرجع.

    ولما أيس من الحياة اختار أربعين فارساً شجاعاً وأمرهم أن يوصلوا ابنه عبد الملك إلى كاغ عند الخطيب لدخول الحرمة، لما عرف من الإساءة التي فعل لأهل سغي، ولما عاملهم به عبد الملك المذكور من التوقح والإذلال من تجبره وطغيانه. فوصلوه كما أراد، وفيهم عثمان درفن ابن بكركرن كرن بن الأمير أسكيا الحاج محمد.

    وقد بعث إليه في أيام قوته مولاي أحمد الكبير سلطان مراكش أن يسلم له في معدن تغاز. فبعث له في الجواب أن أحمد الذي سمع ليس هو إياه، وأن أسحق الذي سمع ليس أبا إياه، ما زال ما حملت به أمه. ثم أرسل ألفين ركاباً من التوارق وأمرهم أن يغيروا على آخر بلد درعة إلى جهة مراكش بلا إخراج روح أحد فيرجعون على إثرهم. فغاروا على سوق بني أصبح كيفما قام وثبت، فأكلوا جميع ما وجدوا في ذلك السوق من الأموال. فرجعوا كما أمرهم، وما قتلوا أحداً. وما ذلك إلا ليري السلطان أحدم المذكور قوته.

    وحسب ما أخذه ظلماً وغصباً من تجار تنبكت من الأموال بعد موته، فكان سبعين ألفاً ذهباً، على يد خديمه محمود يزا أخ الأمين يزا، وهما قينان أصلاً، يتعاقب بين تنبكت وكاغ ذهاباً ورجوعاً، يقبض من كل أحد بقدر مقدرته. ما تكلم به أحد في حياته خوفاً من سطوته.

    وتوفي يوم السبت والله أعلم الرابع والعشرين من الصفر سنة ست وخمسين وتسعمائة وبين موته وموت أبي البركات الفقيه محمود خمسة أشهر وعشرة أيام ومكث في السلطنة تسع سنين وستة أشهر.

    الباب السابع عشر

    ذكر أسكيا داوود وغزواته

    فتولى بعده أخوه أسكيا داوود بن الأمير أسكيا الحاج محمد يوم الجمعة الثالث والعشرين من صفر المذكور في بلد كوكيا. ورجع إلى كاغ في أول يوم من ربيع الأول، فجعل كشي كرمن فاري، وهو زغراني أصلاً، وابنه محمد بنكن فاري منذ، وأخاه الحاج كري فرم. ثم جاءه دند فاري محمد بنكن سنبل عن دند.

    فلما دخل كاغ قال: جميع الخدام يستحق العقوبة إلا هيكي موسى وحده، لأنه خديم نصيح وقام بها حق القيام. يعني بذلك طرده لداوود حين جاء بغير الأمر، وهيكي موسى المذكور صاحب جرأة ونجدة وشدة قد بلغ فيها الغاية القصوى. فدخل أسكيا داوود في حيلة اغتياله وأمر ابن أخته محمد ولد دل أن يرعاه متى وجد فيه الفلتة يقتله. فرماه ذات يوم بحريش فقتله. وجعل هيكي علي داد خلفه.

    ثم أمر بتسريح بكر علي دود بن علي فلن، فهو معه في كاغ، إلى أن مات دند فاري محمد بنكن سنبل، أعطى مقامه لهُك كري كي كمكل، وفصّل ثيابه ولم يبق إلا أن يلبسه القلنسوة في ناديته. فجاء بكر علي دود في نصف ليل إلى باب دار فاري منذ محمد بنكن ابن أسكيا داوود فدق عليه الباب بشدة فخرج فزعاً مرعوباً، وحرشانه في يده، فقال: أيش؟ ثم قال: أسكيا يقتلني غداً في ناديته ولا بد، ولذلك جئتك لأخبرك به. فقال له: ولم؟ قال: لأنه عزم أن يجعل كمكل دند فاري غداً، وعرفت بلا شك ولا ريب أني أموت ساعتئذ. فقال له: وانتظرني هنا حتى أجيئ. فمشى إلى عند أسكيا ساعتئذ، وأتى بالباب الأكبر، ودقها فشاور عليه البوابون، فأمر له بالدخول. فأخبره بالقصة بحالها. وقال له: ارجع وأخربه بأنها له، ويدخل فيها غداً إن شاء الله تعالى.

    فلما أصبح واجتمع عليه قومه في ناديته قال لوَند، وهو الذي يعود كلامه للناس: إذا تكلم قل لهذه الجماعة استخرت الله تعالى فيمن أولّيه على أهل دند، فما أرانا الله إلا هيكي بكر علي دود وهو دند فاري. فقام هُك كري كي كمكل، وحتى كفه بالتراب فنثره في قبالة أسكيا داوود فقال: وهو الأمير يكذب؟ فوالله ما أراكه الله، إنما أرأته نفسك. فرجع لمجلسه الأصلي. فلما مات ولى كمكل الذكور ذلك المقام. ثم ولاه بان بعد وفاة كمكل، ولم يمت بان إلا في زمن أسكيا الحاج. فما ولاه أحداً، وبقي الموضع مرمياً على الأرض إلى قدوم كرمن فاري الهادي لكاغ للقتنة تحير أسكيا الحاج منه. وقام هيكي بكر شيلي أجي وقال لأسكيا: إذا أردت أن أقبض لك الهادي ولّني دند فاري فولاه حينئذ إياه، وقبض الهادي.

    ذكر عزواته. وفي شهر شوال في العام الذي تولى فيه غزا إلى موش. وفي آخر السابع والخمسيه غزا إلى تع، اسم موضع في أرض باغن ويقال له ترمسي وكُم، فحارب في فندنك جاجي تماني، وفيه أتى بالقينين والقينات كثيرات المسمات مابي، وجعل لهم حارة في كاغ، كما جعلها الأمير أسكيا الحاج محمد لموش فيه. وفي شهر جمادي الأولى في الثامن والخمسين رجع إلى تندرم. وفي هذا العام وقع الطاعون في هذه الناحية كُرز، مات منه خلق كثير.

    وفي التاسع والخمسين وقعت الخصومة بين أسكيا داوود وبين كنت سلطان ليك، وفي الموفي ستين اصطلحا. وفي إحدى والستين خرج إلى كوكيا، وبعث هيكي علي داد إلى كشن سرياً، فالتقى أربعمائة فارس أهل لبت أهل كشن مع أربعة وعشرين فارساً من أهل سغي في موضع يقال له كرفت، فتقاتووا هنالك أشد القتال وطال الحال بينهم جداً في معركة هائلة. فقتل أهل كشن منهم خمس عشر رجلاً، منهم هيكي المذكور وأخوه محمد بنكن كوم بن فرن عمر كمزاغ وغيرهم. وقبضوا منهم تسعة مجروحين، منهم علوز ليل بن فرن عمر كمزاغ والد قاسم، وبكر شيلي أخي، ومحمد دل أخي، وغيرهم. فعالجوهم وقاموا بهم أحسن القيام، فأعتقوهم وبعثوهم لأسكيا داوود وقالوا: مثل هؤلاء لا يستحقون الموت لنجدتهم وشجاعتهم. وبقوا يتعجبون منهم لبأسهم وشدتهم حتى صاروا أمثلة عندهم. وولي مقام الهالك هيكي علي داد بكر شيلي أخي، فكا ن هيكي.

    وفي الثاني والستين صعد من برن إلى ورش بكر، وأخرج شاغ فرم محمد كناتي وهو ونكري أصلاً، وهك كري كي كمكل مع الجيش إلى الجبال. وفي الثالث والستين غزا إلى بُص، وخربها ومات فيه خلق كثير هنا في الماء. وفي هذا العام مات الشيخ الأمين ابن الضو ولد سلطان وجلة.

    وفي السنة السادسة والستين غزا إلى بلد سوم في أرض ملي، وتوفي سوم أنز عند وصوله هناالك، فولي ابنه مقامه. فجاز إلى دبكرلا، وقاتل فيها قائد سلطان ملي مع كنت فرن وغلبه. وفي هذا الطريق تزوج نار ابنة سلطان ملي، ورحّلها إلى سغي في مملكة عظيمة من حلي وعبيد وأماء وآثاث وأمتعة ومعوناتها كلها من ذهب صحائف وقلات ومهراس ومدق وغيرها، وبقيت في سغي إلى أن توفيت فيه.

    ثم رجع وفي رجوعه مات أسكيا محمد بنكن في بلد سام، وقد ذهب بصره حينئذ، فلما حاذاه أسكيا داوود نزل في مقابلته من وراء البحر، فاستأذنه سبطاه محمود وكلك فرم سعيد في السلام عليه، فأذن لهما. فقطعا البحر إليه وفرح بهما غاية الفرح، وبات معهما في السمر. فلما انقطع الحديث بينهم في أواخر الليل حركه أحدهما وقال له: قد رقدت؟ ضحك متعجباً من قوله فقال: ما اكتحل عيناي بنوم منذ اجتمع أبوكما وأمكما على مكيدتي. ثم سأل عن كركا منذ سرك ولد كل شاغ: أحي هو؟ قالا: نعم. قال: وما زال في مرتبته الدنيوية؟ قالا: نعم. فلما سمعه سرك المذكور، وهو ملسن، قال: ما هو أفضل، عزله من مرتبته العلية أم بقاءي في مرتبتي الدونية؟ كركا قرية في أرض تندرم. كرمن فاري عثمان يوباب هو الذي ولاه عليها، فطال عمره فيها جداً حتى انقرضت دولة سغي وهو فيها. وما مات إلا بعد ما سرح الباشا محمود بن زرقون بكر كنبو ابن يعقوب من السجن وجعله كرمن فاري. وفي اثني عشر يوماً من ولايته توفي كركا منذ المذكور.

    ولما أصبح أسكيا داوود في مقابلة بلد سام أمر جميع أرباب آلات الطرب أن يسلموا على أسكيا محمد بنكن بضرب الآلات. فلما سمع الأصوات انقطع نياط قلبه فمات من ساعته. وبقي عياله ثمه.

    ولما وصل في رجوعه مدينة جني نزل معسكره في زبر. ثم دخل المدينة لصلاة الجمعة، والأمير [الأمين] هو جني منذ يومئذ، وهو الذي ولاه تلك المرتبة، وقد كان في زمن أبيه الأمير أسكيا الحاج محمد، من الذين يسيرون قدامه عند الركوب ويشدون السرج بالمناوبة. ثم جعله ابنه أسكيا إسماعيل رئيس أصحاب الرجل الذي يقال له رب الطريق، وهو كذلك إلى أوائل ولاية أسكيا داوود، وجعله جني منذ، وهو الحاكم على البلد.

    فلما خرج من المسجد بعد صلاة الجمعة وقلّ تحت سرجه يشده على حاله القديمة فوضع يده على رأسه ويكلم له برفع الصوت والتغليظ في الكلام ويقول له: جعلناك حاكماً على الأرض ولا ترعاها حتى كثر كفار بنبر فيها وثبتوا ما تغير عليهم. وهو يتكلم حتى قارب باب زبر. قال. الله يجعل البركة في عمرك وفي أيامك، أنا تحت سرج أبيك وأشده ويده على رأسي هكذا، حاشاك من التصغير. فقال لي: السلطان الذي لا يجتنب غزوة الحجر وغزوة عابة كوب لا يريد لجيشه إلا التلف والخسارة، وقد حضرت أنت بنفسك في أرضك وبلادك، افعل فيها ما بدا لك. ثم توجه إلى بلده ودخل فيه يوم الجمعة في شوال.

    وفي السابع والستين مات شاغ فرم محمد كناتي في ربيع الأول، وفيها توفيت ويزا حفصة ليلة الاثنين السابعة من شوال. وفي الثامنة والستين توفي الشيخ الفقيه المختار ابن عمر صبيحة الأحد الرابه يوماً من ربيع الثاني، وفيها تولت ويزا كيبن يوم الجمعة أول يوم من جمادي الأولى، وفيها توفي سلطان ليك محمد كنت في التاسع من رمضان، وخلفه في السلطنة ابنه أحمد في ذلك الشهر.

    وفي التاسعة والستين صعد أسكيا داوود برن فغزا إلى موش ثانية، فهرب هو وجيوشه كلهم منه، ومات كيم كش وأبو بكر سو ابن فار محمد بنكن سنبل وكثير من الناس. ورجع في شهر رجب من هذا العام، وفي رجب هذا توفي كرمن فاري كشي ابن عثمان، ومكث في رئاسته اثني عشر عاماً.

    وفي الموفي سبعين توفي الفقيه محمد بن عثمان رحمه الله يوم الأربعاء بعد العصر التاسع عشر من ربيع الثاني. وفي هذه السنة توفي كرمن فاري يعقوب بن الأمير أسكيا الحاج محمد في ربيع الأول يوم الجمعة. وفي يوم الاثنين السابع عشر من رمضان في هذا السنة توفي فاري محمد بنكن. وفي أواسط ذي الحجة مكملة هذه السنة تولى فار بكر علي دود بن القيم سلطنة دند كما تقدم.

    أما محمد أكما تغاز منذ خديم أسكيا فقد توفي في تغاز في عام أربعة وستين وتسعمائة، قتله الفلالي الزبيري والد يعيش بن الفلالي بإذن مولاي محمد الشيخ الكبير سلطان مراكش. وقتل معه من التوارق الذين يرفدون ملح: أظلى علي انيي وعلي أندار وأندوس أكمتلك وغيرهم. فرجع الباقون إلى عند أسكيا داوود فذكروا له أنهم لا يتركون عادتهم من الرفود للملح إن تفوت، وأنهم عارفون المعدن غير تغاز الكبير. فأذن لهم في رفود منها، فحفروا تغاز الغزلان في لك العام، فرفدوا منها. والفلالي المذكور ما فعل ذلك إلا غضباً على أسكيا حيث اختار بن عمه الهنيت والد الشيخ محمد التويرق فولاه أمر تغاز.

    وفي سنة إحدى وسبعين بعد تسعمائة بعث أسكيا داوود فاري بكر علي دود إلى أرض برك لقتال بنَ، وهو عفريت غندور كيس حذر جداً. فخرج في شوال في وقت الصيف الشديد الحر جداً، فسار بالجيش في الفيافي والقفار. وكتم وجهته عن الجميع، وأسكيا هو الذي أمره به. وأخذ يسير بهم سراً عنيفاً. فاشتكى الناس عند فار منذ محمد بنكن بن أسكيا داوود وطلبوا منه سراً أن يسأله عن وجهتهم، فسأله. وانهاره مغضباً عليه أشد الانتهار، وقال له: أنت الذي تريد كشف سر أسكيا، لا أدخل لكم في توقحكم الذي تعاملون به الناس جميعاً. فخاف وسكت. فوصل بن وأدركه فجأة على الأرض نازلاً من فوق الجبل، ولا يحسب غزوة سغى يأبته في ذلك الوقت أبداً. فاقتتلوا وقتلهم جميعاً أهل سغي. وأما هو فلم يقتله إلا حصل فرم علو بص بن فاري منذ محمد بنكن سنبل. فرجعوا. وفي شهر ذي الحجة المكملة لهذه السنة دخلوا كاغ.

    وفي سنة اثنين وسبعين توفيت ويزا كيبن ليلة الخميس في شهر شعبان. وفي سنة الثالثة والسبعين توفي الفقيه الجليل القاضي محمد بن الفقيه محمود رحمهم الله في شهر الصفر كما تقدم، وتولى القضاء بعده أخوه العدل الفقيه الإمام القاضي القب، ومكث فيها ثمانية عشر عاماً رحمه الله تعالى. وفي هذي السنة توفي فاري بكر علي دود في شهر جمادي الأخرى.

    وفي سنة الرابعة والسبعين توفي الشيخ المبارك عمدة المسلمين الخطيب محمد سيسي يم السبت الثامن عشر من ربيع الثاني بعد الزوال رحمه الله تعالى. فولي مقامه الفقيه الخطيب محمد كب بن جابر كب، وهو من أهل جني، فرحله منه إلى كاغ بعد ما طالب به العلامة الفقيه محمد بغيع الونكري، فأبى وامتنع واستشفع بأخيه وشيخه ولي الله تعال الفقيه أحمد بن محمد سعيد، فمشى معه إلى كاغ في تلك الشفاعة، فشفعه فيه، ورجعا لتنبكت. فعن قليل بعد وصولهما توفي الشفيع شيخ الإسلام الفقيه أحمد المذكور رحمهما الله تعالى ونفعنا ببركاتهما أمين.

    وفي السنة الخامسة والسبعين توفي جدي عمران بن عامر السعيدي في عشرين من رمضان عن ثلاثة وستين سنة، ودفن في جوار سيدي أبي القاسم التواتي رحمهم الله تعالى.

    وفي السنة السادسة والسبعين في فاتحة المحمرم توفي ولي الله تعالى العلامة الفقيه أحمد بن خمحمد سعيد سبط الفقيه محمود يوم الأربعاء أول وقت العصر الثامن والعشرين منه، وصلي عليه بعد صلاة المغرب، ودفن بين العشائين في جوار جده الفقيه محمود، وعمره اثنان وأربعون سنة.

    وفي أواخرها جدد القاضي العاقب بناء مسجد محمد نض، وعدله تعديلاً بليحاً، وختمه في شهر الصفر في السنة السابعة والسبعين. وفيها شرع في حمل اللبن لبناء الجامع الكبير بتنبكت، وابتدأ فيه في خامس عشر من رجب منها. وخربها يوم الأحد الخامس عشر من ذي الحجة وابتدأ في بنائها يوم الثلثاء السابع عشر منه. وفي شهر شوال من هذه السنة توفي الرجل الصالح إمام هذا جامع الإمام عثمان بن الحسن التشتي ودفن في المقابر القديمة، فسواها جميعاً القاضي العدل العاقب المذكور، وزادها في الجامع القديم. وموضع قبر هذا الإمام معروف فيه عند أهلا معرفته. فتولى إمامة الجامع الكبير الإمام محمد كداد بن أبي بكر الفلاني، وهو من عباد الله الصاحين بأمر القاضي العاقب.

    وفي أول السنة الثامنة والسبعين غزا أسكيا داوود إلى سور بنتنبا في أرض ملي، وهي آخر عزواته في أترم، وهو جهة المغرب. وفي هذا الطريق بعث ابنه كري فرم الحاج إلى الحمدية، ومعه سلطان نان الحاج محمود بير بن محمد الليم بن أكنقي مغشرن كي زوج ابنته بت، والمسك أنداسن كي، في أربعة وعشرين ألفاً جيش التوارق، اثنا عشر ألفاً مع كل أحد، وهي عادة جارية منهم إذا ناداهم أسكيا للغزو. لا بد يأتي كل واحد منهما بهذا العدد من الرجال. فغار على العرب الذين في تلك الجهات ورجع. وفي هذا الطريق حملت بابنه هرون الرشيد أمه. وأخوه الكبير فاري منذ محمد بنكن بن أسكيا داوود هو صاحب هذا الغزو بالطريق، ولكنه عليل يومئذ بعلة قرح مسر.

    ثم رجع أسكيا فطرق تنبكت ونزل في مؤخر الجامع في صحنه حتى جاءه القاضي العاقب وفقهاء البلد وأعيانه للسلام عليه والدعاء له. وأدرك الجامع ما زال ما تمت بناؤه، فقال للقاضي: هذا البافي هو سهمي في التعاون على البر، فأعطاه في ذلك ما قدر الله تعالى على يده. ولما بلغ داره بعث له اربعة آلاف خشب من شجرة كنكو، فختم بناءه في هذه السنة.

    ثم غزا إلى كرم ووصل بلد زُبنك وقاتل فيه رئيسه تنن توتم وهزمه. ثم بعث كرمن فاري يعقوب إلى سن فغار على دع لبعض تعوّج صدر من دع كي، فسبا جميع عياله. ثم صالح بينهما أمكي فردهم له. ورجع وتحرك ثلاث تحريكات ما غار على أحد ولا قاتل مع أحد. واحدة منها وصل إلى حد موش فرجع بلا مغارة، والأخرى في جهة دند وصل إلى لولامي ومعه، والدتها ساني ابنة فاركي فماتت ثمه فقبرت فيها، ورجع. والذي رويت عنه الخبر قال إنه نسي الثالثة.

    وفي سنة خمس وثمانين وتسعمائة جدد القاضي العاقب بناء المسجد الذي في سوق تنبكت. وفيها توفي الخطيب محمد كب بن جابر كب في كاغ رحمه الله تعالى. وفيها توفي مؤدب كسنب بن علي كسنب وأحمد سر المداح بن الإمام. وفيها هرب باونك من تمن إلى سوا. وفيها طلع نجم ذو ذنب ليلة الجمعة خمساً وعشرين ليلة من شعبان. وفيها توفي السلطان مولاي عبد المالك في مراكش، وتولى أخوه مولاي أحمد الذهبي. فبعث لأسكيا داوود أن يسلم له في خراج معدن تغاز عاماً واحداً، وبعث له هو عشرة آلاف ذهباً هدية وعطية خير، فتعجب من سخائه وجوده، فكان سبب المحبة والوصلة بينه وبينه. فلما بلغه خبر وفاة أسكيا داوود تحزن وجلس للتعزية، فعزاه كبار أجناده كلهم.

    وفي أواخر هذه السنة توفي كرمن فاري يعقوب، ومكث فيها ستة عشر سنة وخمسة أشهر. وفي يوم الخميس ثاني عشر من المحرم سنة ست وثمانين بعد تسعمائة شرع القاضي العاقب في تجديد بناء مسجد سنكري، واستهل الشهر فيها بالاثنين. وفيها وقعت الخصومة بين أولاد الشيخ محمد بن عبد الكريم وبين يحيى تنبكت منذ. وفي شهر شوال من هذه السنة ولى أسكيا داوود محمود درمي خطيباً. وفي شهر رمضان تاسع شهور سنة ست وثمانين وتسعمائة ولى ابنه محمد بنكن سلطنة كرمن. وفي أواخر ذي القعدة خرج من كاغ ووصل تنبكت يوم الثلاثاء التاسع والعشرين منه، ووصل تندرم في أوائل ذي الحجة وولى ابنه الحاج فار منذ، وفوّض الأمر لكرمن فاري محمد بنكن في جميع شؤون ناحية المغرب. وفي هذه السنة والله أعلم توفي بلمع خالد بن الأمير أسكيا الحاج محمد في ذلك رمضان، وتولى بعده بلمع محمد ولد دل.

    ثم إن كرمن فاري طلب من أبيه الغزو لقتال أهل جبل دم، وقد امتنعوا لشن علي وأسكيا الحاج محمد، وما نالا منهم نيلاً. فأعطاه جيشاً وجعل عليهم هك كري كري يأسي، وأمره أن لا يدخل بجيشه في خطر وغرر ووكد عليه في ذلك جداً. فلما وصلوا الجبل المذكور أراد فرن محمد بنكن أن يطلع بالجيش عليه. أبى ياسي. وعاوده فأبى. فقال له: يا هذا العبد الداسر، لا تبال بأحد. وقال له: أخطأت في الخطاب، قل في يا هذا العبد السوء، نعم وهو كذلك. ولم يرض له بالإسعاف بمراده ذلك.

    ثم إن مع الغندور المعروف المشهور الذي انتشر ذكره بالغندرة وفشي هو من أهل هذا الجبل طلع على الجيش من فوقها، فكمن له محمد ولد مور، وهو على حصانه، يصعد إليه قليلاً قليلاً في طرف الجبل حتى قاربه فرماه بالحريش، فطاح على الأرض ومات. فمن حينئذ ازدادوا خوفاً من خيل أهل سغي. ثم رجع فرن محمد بنكن من غير قتال.

    وفي سنة تسع وثمانين بعد تسعمائة توفي الأمان [الإمام] محمد بن أبي بكر كداد الفلاني ليلة الأحد التاسعة والعشرين من المحرم، وتولى أحمد بن الإمام صديق إمامة الجامع يوم الأربعاء السابع عشر من صفر. وفي هذه السنة توفي بلمع محمد دل كر بنكي، ومكث فيها والله أعلم خمس سنين، فتولى بعده محمد وعون دعنككي ولد عائشة بنكن بنت الأمير أسكيا الحاج محمد، ولاه أسكيا داوود.

    وفي سنة تسعين بعد تسعمائة وقعت في تنبكت وباء عظيمة ومات فيها خلق كثير. وفيها وقع القطاعون المحاربون من فلان ماسنة على قارب أسكيا الحاج من جني، ونهبوا بعض أمتعته. ومثل ذلك لم يكن في دولة سغي قط، وذلك في زمن سلطان ماسنة فندنك بوب مريم. فلما بلغ الخبر فرن محمد بنكن نهض ساعتئذ وتوجه لماسنة للانتقام منهم من غير مشاورة واحد من كبرائه. فلحقهم الكبراء بعد ما ذهب فزين له الحال أخوه تنكي سالك وبن فرم دك وصوّباها له من غير أن يكون صواباً عندهما غضباً وغيظاً لتحقيره إياهما حيث أبى لهما ولو بإعلام فأحرى مشاورة الحاصل. غار على ماسنة وأفسدها فساداً عظيماً وقتل فيها من فضلاء الطلبة وصلحائها كثيراً، فظكهر لهم بعد موتهم كرامات عجيبة. وأما السلطان فهرب إلى أرض في سنوي حتى سكنت الفتنة رجع.

    ولما بلغ الخبر أباه أسكيا داوود أنكرها عليه جداً. فكانت مطياراً عليه لأن أسكيا ما تأخر بعد الوقعة في الدنيا كفى ذلك مطياراً له. وفي شهر رجب من هذه السنة توفي أسكيا داوود، ومكث فيها أربعاً وثلاثين سنة وستة أشهر. وكان موته في تندبي قريباً لكاغ، وهي مزرعه وفيها داره وعياله يأخذ أياماً فيها في آخر عمره. وأولاده الكبار كلهم معه هنالك عند موته. فجهز وحمل في القارب إلى كاغ ودفن فيه.

    الباب الثمن عشر

    ذكر أسكيا الحاج ابن أسكيا داوود

    والحاج ابنه هو أكبر أولاده يومئذ هنالك. فتحزم وركب حصابه. وركب إخوانه كلهم خلفه، ولكن غير دانين منه، وليس له مثل يومئذ في أهل سغي كافة في النجدة والشجاعة والصبر والتحلم. وقال من حضرهم هنالك من أهل العقل والمعرفة ساعتئذ يستحق: أن يكون أميراً ولو في بغداد.

    وقيل اثنان من سلاطين سغي أكبر من سلطنتهم الأمير أسكيا الحاج محمد وحفيده سميه أسكيا الحاج محمد بن أسكيا داوود. واثنان استويا بها أسكيا محمد بنكن بن فرن عمر كمزاغ وأسكيا إسحق بن أسكيا داود، واثنان استويا بها أسكيا محمد بنكن بن فرن عمر كمزاغ وأسكيا إسحق بن أسكيا داوود. والباقون سلطنة سغي أكبر منهم.

    فلما ركبوا عند مسيرهم لكاغ خرج حامد من بين إخوانه وتقدم إليه، فأخذ يساره ويقول له: اقبض فلاناً وفلاناً وفلاناً. ففطن إخوانه لا يتكلم إلا بالنميمة. ثم رجع لمركبه، فتقدم إليه الهادي فقال له لا: تتبع كلام هذا النمام، ولا تعمل الغار لأحد، فلا لك منازع هنا، ولا تتبع إلا الأكبر. فالأكبر إن كان محمد بنكن حاضراً هنا اليوم لا يصل إليك هذا اللأمر. وإن كنت غائباً اليوم وحضر هذا النمام القليل البركة لا نحاوزه به. فقال أنا وفعل الغار فيكم بعيد، لأن أباكم أودعكم علي، مع أن هذا الأمر قد فات اليوم الذي أريد أن أكون فيه، وهو حياة أعمامي وأقراني الذين أسنّ مني، ولو لا أن الدهر هو الذي أوجب علي قعود تلك العتبة اليوم لا أقعد عليه.

    فلما دخلوا البلد وفرغوا من دفن والدهم بايعه القياد والأجناد وسائر الخلق والعباد في سابع عشرين رجب المذكور. ولكن ما دخل فيه إلا وهو عليل بعلة القروح في أسفله، فمنعته التصرف في نفسه حتى لم بغزو ولو مرة واحدة إلى أن توفي.

    ولما بلغ فرن محمد بنكن خبر مرضه توجه إلى كاغ، وحين وصل تنبكت سمع خبر وفاته وولاية أخيه أسكيا الحاج محمد، رجع وتأخر في أككن ثلاثة أيام، ثم مشى في طريق حمالن ونزل في دبوس. ثم مشى ووصل داره. ثم جهز جيشه وعزم على الوصول إلى كاغ للقتال. فلما دخل تنبكت ذهب إلى القاضي برسم السلام ولا علم عند أحد من الجيش إذا سمعوا أنه حين قعد عند القاضي طلب حرمته أن يكتب لأسكيا أنه سلم في رئاسته وأنه يريد المكث في تنبكت لطلب العلم. فلما سمعوا ذلك هرب الجميع ساعتئذ وتوجهوا لكاغ عند أسكيا. فكتب القاضي وقبل أسكيا وولى أخاه الهادي بن أسكيا داوود سلطنة كرمن، وفعل أخاه المصطفى فاري منذ. وبقي هو في تنبكت في تلك الحال. ثم إن كبراء الجيش رأوا فيها بينهم أن بقاءه في تنبكت لا تصير عاقبته إلى خير لهم ولأسكيا، فاتفقوا وجاءوا إليه وقالوا له: تختار أنفسنا عنك وعن أخيك محمد بنكن، وكونه في تنبكت لا نقبله، لأن مراسيلنا لا ينقطعون عنه لقضاء حوائجنا فيه، لا يرجع النمامون يقولون إذا رأوا مرسول أحدنا توجه إليه: ها مرسول فلان مشى إلى عند محمكد بنكن.

    فسمع كلامهم ذلك ووعاه وأرسل أمر بن إسحق بير أسكيا مع أناس في قبضه في تنبكت وأمره أن يسجنه في كنت. فوصلوه في قائلة من النهار نائماً في داخل البيت، وحصانه مربوط في حصنه، وعنده عبيده الذي يخدم الحصان. فطلعوا من فوق حائط البيت على خيله متلثمين بعمامات سود متحزمين على قفاطين سود، فرمى الحصان أمر المذكور بحريش لكي يموت لئلا يركبه محمد بنكن ويقاتلهم. فتحرك الحصان في مربطه تحريكاً شديداً حتى أيقظه من النوم. فسأل العبيد عن تحريكه، فأخبر بما جرى، علم أنه أمر من أسكيا. فمات الحصان، وقبضوه وأنفذوا أمره فيه.

    وبقي في كنت إلى ولاية أسكيا محمد بان، وبقي أولاده الثلاثة عمر بير وعمر كت وينب كيز أجي مختفون خائفين من أسكيا الحاج إلى انقراض دولته واقراض دولة أسكيا محمد بان. وقبل دخول أسكيا إسحق أظهروا أنفسهم وبقوا يطلبون أمر المذكور ليقتلوه في تلك الفترة. ففطن واختفى في الزمرة التي يقال لهم سوما، وهم الذين يحضرون دخول أسكيا حتى يدخل. وعادتهم لبس البرانيس، فلبس هو البرنس معهم حتى دخل أسكيا أسحق. فخرج حينئذ لأن الفتنة سكنت ولا يقدر أحد أن يتعدي على أحد.

    ثم إن بكر بن أسكيا محمد بنكن لما سمع بولاية أسكيا الحاج محمد خرج من أرض كل مع ابنه مربا فقدم كاغ، فأكرمه أسكيا الحاج وجعله باغن فاري. فرجع إلى تندرم وهو محسوب في جيش كرمن مع ابنه المذكور عزيزاً مكرماً.

    ثم ذكر لأسكيا الحاج أن فندنك بوب مريم حلف أن رأسه لا يدخل في باب الدار أبداً فأرسل اباغن فاري بكر أن يسير إليه بالتدبير والكياسة حتى يقبضه ويأتيه به بحيث لا يفطن فيهرب. ففعل ذلك وقبضه وأتاه به. فلما امتثل بين يديه وهو مقيد بالحديد، فقال له: يا ابن مريم أنت الذي حلفت رأسك لا يدخل في الباب أبداً. فقال له: لا تعجل علي بارك الله في عمرك حتى أتكلم. فقال له: تكلم. فحلف بالله تعالى أنه ما تكلم، والأعداء الذين لا يريدون لي إلا الموت هم الذين يقولونه علي، وأين أذهب فأفوتك؟

    فأمر بإمضائه وتأخر زماناً ولا يدري أحد من الناس أين هو، حتى ظنوا أنه فارق الدنيا، إلى يوم واحد أمر بإحضاره وقال له: أريد أن أردك لسلطنتك، فجازاه بخير ودعا له وأكثر في الدعاء. وقال: إن خيّرتني لا أبغيها. فقال وما تبغي؟ قال: أن أكون عندك هنا وأخدمك. فعظم ذلك عليه وأعطاه من أجله عشراً من الخيل وخداماً كثيراً وداراً وأعطاه من كل خير ما هو المني والبغية. فبقي في كاغ عزيزاً مكرماً. وولي حمد أمنة مقامه لأهل ماسنة.

    وفي يوم الأحد آخر وقت الضحى الحادي عشر يوماً من رجب عام أحد وتسعين بعد تسعمائة توفي القاضي العاقب بعد أن ملأ أرضه بالعدل بحيث لا يعرف له نظير في ذلك من جميع الآفاق، ومكث فيها ثمانية عشر سنة.

    وبين وفاته ووفاة أسكيا داوود ثلاثة عشر شهراً. وفي ليلة الاثنين السابعة عشر من شعبان في هذا العام توفي الفقيه المحدث أبو العباس أحمد بن الحاج أحمد بن محمد أقيت رحمهم الله تعالى أجمعين. وبقيت القضاء في تنبكت سنة ونصفاً بعد وفاة القاضي العدل العاقب، ما تولاها أحد لأن أسكيا الحاج أرسل في ذلك للعلامة الفقيه أبي حفص عمر بن الفقيه محمد، ما قبلها مرتين وثلاثاً، والفقيه محمد بغيغ الونكري هو الذي يفصل بين المولدين والمسافرين، والمفتي الفقيه أحمد معيا هو الذي يفصل بين أهل سنكري.

    ولما طال الحال بعث الشيخ المبارك الفقيه صالح تكن لأسكيا سراً أن يكتب له إذا لم يقبلها يوليها الجاهل، فكل ما حكم لا يسأل به الله تعالى عنه إلا إياه غداً بين يديه. فلما قرأ الكتاب بكي وقبل فتولاه في آخر يوم من المحرم فاتح سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة. ومكث فيها تسع سنين كاملاً.

    وفي سنة اثنين وتسعين وتسعمائة خرج كرمن فاري الهادي من تندرم في صفر عازماً إلى كاغ لأجل الفتنة وأخذ السلكنة، وقيل أن إخوانه الذين كانوا في كاغ عند أسكيا هم الذين أرسلوا له سراً أن أسكيا الحاج ما فيه جهد أن يعزم، ويقدم لدخول السلطنة. ثم غدروه وسلموا فيه.

    فلما وصل كبر أرسل رسوله إلى الفقيه عمر برسم السلام ولم يجيئ هو بنفسه كما هو عادته. ثم مشى في طريقه فتلقاه رسل أسكيا الحاج قبل أن يصل فطلبوا منه أن يرجع، فأبى. ورجعوا وأخبروه بخربه. فوصل كاغ ليلة الاثنين رابع ربيع الأول، وعليه الدرع وبين يديه بوقاته وطبله وغير ذلك. فخاف منه أسكيا خوفاً عظيماً لأنه مريض عاجز لا يقدر على شيء. فقال له هيكي بكر شيلي أجي: ولّني سلطنة دند الآن أقبضه لك. فولاه إياها لأنه منذ توفي دند فاري بان في زمنه ما ولاها أحداً.

    فقام في الحال ونصح. فجاء إليه إخوانه الذين كانوا هنالك يومئذ، منهم صالح ومحمد كاغ ونوح وغيرهم على أرجلهم، فقالوا له: ما أتى بك هنا وما تريد ومن شاورت ومن اتفق معك عليه؟ وما ذلك إلا أنك حسبت جميع من هنا نسواناً، انتظرنا هاهنا حتى ترى ما عندنا.

    فرجعوا وتحزموا وركبوا خيلهم وأيوا [أتوا] عازمين على المقاتلة معه. فقال له الناس: اذهب إلى دار الخطيب حتى يصالح بينك وبين أسكيا. ودخل في داره. فلما سمع أسكيا بدخوله خرج ساعتئذ وأمر بإمساكه من هناك وبإتيانه بين يديه. فأمر بنزع ما عليه، فوجد عليه درعاً من حديد. فقال له: هادي ما أنت إلا كفور. فبكي فاري مند المصطفى بكاء شديداً، فقال: ما هكذا أتمنى لرئيسنا هذا، والذي أتمناه أن تجعلنا وراءه إلى صاحب موش أو إلى صاحب بص-أخذ يعدد السلاطين-فتنظر كيف نعمل لهم معه. وفاري مند المكور شقيق أسكيا الحاج. ولو لا ذلك ما يقدر على ذلك العمل. ثم أمر بإتيان حصانه الذي هو عليه. فلما رآه وقلّله قال: ما جرّأ أخي هادي على الفتنة إلا هذا الحصان. أمر بإدخاله في إصطبله، و خصه الله تعالى بمعرفة الخيل.

    وضرب كثير من أتباعه، وأما خاله الذي هو رأس الفتنة فمات تحت ذلك الضرب، ونهبوا جميع ما معهم. وأمر بإذهابه إلى كنت برسم السجن، وولى كلشع محمد قاي بن دنكلك مقام هيكي بكر شيلي أجي، فكان هيكي. فأمره أن يولي في مقامه الذي نزل منه من أحب، فولى ابنه بكر، فكان كلشع. وولى أخاه حامد مقام بلعم محمد وعو بعد موته، فكان بلمع.

    ثم أرسل السلطان مولاي أحمد الشريف الهاشمي رسوله إلى أسكيا الحاج بهدايا عجيبات له وقصده في ذلك الإطلاع على حال بلاد التكرور، لأنه عزم على بعث رسوله إلى كاغ. فتلقا أسكيا بالإكرام وأرسل له عند رجوع مرسوله أضعاف ما أرسل هو من الهادايا من خدام وسنانير الغالية وغير ذلك. ومن جملة ما أرسل ثمانون خصياً.

    وبعد ذلك ورد الأخبار أنه بعث جيشاُ فيها عشرون ألفاً رجالاً إلى جهة ودان وأمرهم بأخذ ما هنالك من البلدان على شاطي البحر وغيرها حتى يصلوا إلى بلاد تنبكت. فتخوف الناس من ذلك غاية الحوف. ثم شتت الله ذلك الجيش بالجوع والعطش فتفرقوا شذر مذر، ورجع من بقي منهم إليه، وما قضوا شيئاً من مراده بقدرة البارئ تعالى.

    ثم أرسل قائداً ومعه مائتان رامياً إلى تغاز وأمرهم بأخذ أهله. فسمعوا به قبل وصولهم فخرجوا منه هاربين، منهم من مشى إلى الحمدية، ومنهم من مشى إلى توات وغيرها. وما وصل القائد والرماة إليثه إلا خالياً ليس فيه إلا نفر يسير. فذهب أعيانهم إلى أسكيا وذكروا له ذلك، فاتفق معهم على أن ينمعوا رفود الملح منه.

    وفي سنة أربعة وتسعين وتسعمائة في شوال جاء الخبر بأن لا يذهب أحد إلى تغاز، فمن مشى إليه فماله هدر. ثم أن أظلي ما صاب الصبر عن الملح فتفرقوا فمشى بعض إلى تنورد وحفروا الملح فيها بهذا التاريخ، وآخرون إلى غيرها. وتركوا التغاز هذه المدة. فرجع القائد والرماة إلى مراكش.

    وفي هذا التاريخ أيضاً أخذ عمه سليمن كنكاك بنك فرم فولاها محمود بن أسكيا إسماعيل. وفي شهر ذي الحجة مكملة هذه السنة خالف عليه إخوانه وذهبوا إلى كرى عند محمد بان ابن أسكيا داوود. فجاءوا به معهم وأقلعوا أسكيا الحاج وولوه أسكيا في الرابع من المحرم فاتح سنة خمس وتسعين وتسعمائة. ومكث أسكيا الحاج فيها أربع سنين وخمسة أشهر وبعد ذلك بأيام يسيرة توفي.

    الباب التاسع عشر

    ذكر أسكيا محمد بان ابن أسكيا داوود

    فلما تولى أسكيا محمد بان جعل أخاه صالح كرمن فاري ومحمد الصادق بلمع وعزل حامد منها. وبادر بقتل أخويه فرن محمد بنكن وفرن الهادي في كنت، وقبرا فيه متجاورين.

    فلما سمع الهادي بولايته تعجب وقال: قبح الله العجلة، أحمق من خرج من صلب والدنا يتولى السلطنة، وأما الحاج فما قتل أحداً من إخوانه حتى انقرضت أيامه.

    ثم إن إخوانه حقروا شأنه ولم يكن أخلاقه مرضية عندهم ولا عند غيرهم، وأيامه بؤس ومجاعة. فاتفقوا على عزله وتولية بنتل فرم نوح السلطنة، فوافقهم عليه وتواعدوا في ليلة معلومة في موضع مخصوصة أن يأمر بنفخ بوقه هنالك، ويجتمعوا عليه فيه ويولوه السلطنة. ثم انكشف السر له ولا علم عند نوح به. فقبض هيكي محمد قاي والد كلشع بكر وشاع فرم المختار وغيرهما من الكبراء الذين اتفقوا على ذلك الرأي وعزلهم. فأتى نوح الميعاد وأمر بنفخ البوق فلم ير أحداً، فهرب. وألحقهم الرجال فقبضوه مع أخيه فار منذ المصطفى وسجنوه في أرض دند بأمره.

    وعزل كلشع بكر فرجع لتندرم، وجعل خلفه واحداً من حراطين تندرم فكان كلشع. ثم مات كرسل ماسن منذ، فولى كلشع بكر مقامه فكان ماسن منذ، وجعل له سركيا هيكي، وعلي جاوند شاع فرم، وأخاه إسحق بن داوود فار منذ.

    ثم قتل بلمع محمد الصادق بن أسكيا داوود كبر فرم علوا الظالم الفاجر عشية الأحد السابع من الربيع سنة ست وتسعين وتسعمائة، وكان ذلك في كبر. فأراح الله تعالى المسلمين من شره. فأكل جميع ما احتوت عليه داره من الأموال. وخالف على أسكيا محمد بان، فأرسل لأخيه كرمن فاري صالح أن يأتي ليكون أسكيا، لأنه أولى به من جهة الكبر. فأتى في جيشه. فلما قارب كبر قال له أصحاب الرأي: انزل هاهنا لأن بلمع صادق غدار أهل مكر وخديعة، وابعث له أن يرسل لك جميع ما رفع في دار كبر فرم، لأنك أولى به حيث تلفظ لك بالسلطنة، فإن كان على الحق يرسله وإلا لا يرسله.

    فارسل إليه وأبى، فظهر له أنه غير صادق. فصار إلى الفتنة بينهما، فاقتتلا وقتله بلمع محمد الصادق عشية الأربعاء الرابع والعشرين من ربيع الثاني في العام المذكور. وبين قتله وقتل كبر فرم سبعة عشر يوماً. فاجتمع الجيشان على بلمع، فعزم على التوجه إلى كاغ لعزل أسكيا محمد بان. وبعث لبنك فرم محمود بن إسماعيل أن يأتي إليه ويكون معه. فخاف وهرب من بنك إلى كاغ.

    ومحمد كي أجي بن يعقوب هو الذي رمى فرن صالح بالحريش عند الملاقات أولاً فتمكن فيه. ثم طعنه بلمع بالحربة ثانياً فمات من ساعته، وبعد الغروب أمر بتجهيزه ودفنه.

    وأدرك الحال أن مارنف الحاج بن ياسي بن الأمير أسكيا الحاج محمد جاء إلى تنبكت يطلب الحرمة عند خدام أسكيا الذين كانوا فيه لما عزم على الدخول بابنة أسكيا محمد بان. فجاء عند بلمع محمد الصادق في كبر ليسلم عليه قبل الواقعة التي جرت على يديه من قتل كبر فرم وقتل كرمن فري. فقال له بلمع: قد رأيت الحال كنا فيه، وأريد أن تكون معنا. فقال: يا بلمع والله لا أتبع أحداً ما دام أصبع واحد تحرك في أسكيا محمد بان. وجعل بلمع يلاطفه بالكلام الطيب إلى أن قال له: إن أردت أن أزوجك ابنتي تزيدها على ابنة محمد بان؟ فقال له: يا سالك والله لا أتبع أحداً ما دام أصبع واحد يتحرك في أسكيا محمد بان. فناداه باسمه دون اللقب ليقطع رجاءه فيه فقبضه وسجنه إلى أن تحققت الفتنة ووجبت. فقال له كي أجي وهوم من أقرب الناس إليه وأنصحهم له: اطلق مارنف وخذ بخاطره بأفعال الخير، لأن من كان في الفتنة يحتاج إلى مثله. فأطلقه وعامله بالخير، وأعطاه واحداً من حصان سرجه، وأمر بإخراج القيد من رجله. فركب الحصان وما زال خلخال واحد في رجله من زوج خلخال القيد، فهرب ساعتئذ، وتوجه إلى كاغ وقص القصة على أسكيا.

    ثم توجه بلمع إلى كاغ في جيش عظيم من أهل المغرب، فيهم باغن فاري بكر وهنبركي منس وبركي أمر وكلشع بكر وغيرهم. فارتحل من كبر يوم الثلثاء أول يوم من جمادي الأولى ومشى على عزمه. فلما سمع ذلك محمد بان تشوش من أمره فخرج بجيشه من كاغ للقائه يوم السبت الثاني عشر من الشهر المذكور، فمات في منزله يومئذ عند القائلة. قيل من الغيظ لأنه وجدت شفته السفلى بجروحات بعض الأسنان. وقد سمعه الناس يقول لما بلغه الخبر أن بلمع يأتيه ليعزله: قبح الله سلطنته لأنه موضع الذلة والهوان، ولو لا ذلك كيف يجترأ سالك علي ويقول في حقي هذه المقالة. وقيل مات من سمن لأنه سمين جداً، وخرج في يوم شديد الحر لابساً درعاً من حديد. وعلى كل حال مات بالغيظ.

    فولت الجيش إلى كاغ وميّز هك كري كي عنهم إلى حدة في أربعاء آلاف فارساً من خصي.

    الباب العشرون

    ذكر أسكيا إسحاق ابن أسكيا داوود

    وفي غده يوم الأحد الثالث عشر من جمادي الأولى سنة ست وتسعين وتسعمائة تولى السلطنة أسكيا إسحق ابن أسكيا داوود، وهو أول أولاده بعد دخوله السلطنة. وأما محمد بان فلم يمكث في السلطنة إلا سنة واحدة وأربعة أشهر وثمانية أيام.

    وفي يوم السبت التاسع عشر من الشهر جاء مرسول أسكيا إسحق إلى تنبكت بخبر ولايته، وأشكل أمره على أهل تنبكت لأن بلمع في الطريق. ولما صح عنده أن إسحق تولى السلطنة جمع الجيش الذين معه في موضع فبايعوه وولوه أسكيا، وأرسل مرسوله لأهل تنبكت وأمرهم بأخذ مرسول إسحق، وبلغ يوم الاثنين إحدى وعشرين من الشهر. فأخذوا مرسول إسحق كما أمر به وسجنوه. وفرح بذلك كثير من الناس، منهم تنبكت كي أبكر ومغشرن كي تبرت أكسيد والكيد ابن حمزة السناوي. وأعملوا اللعب أطلعوا الطبل فوق سطح الديار وضربوه فرحاً بولاية محمد الصادق، لأن أهل تنبكت يحبونه كثيراً، فقد غر نفسه وغرهم.

    ثم انقطع الخبر بين تنبكت وكاغ. وروي عن الفقيه أبي بكر لنبار الكاتب وزير القلم أنه قال أن كاغ بعد تمام الأسبوع من ولاية أسكيا إسحق صار كأن صاحب روح لم يكن فيه من أجل خوف بلمع محمد الصادق ورهبته، وأنه لما رأى ذلك وعلم أنه وقاح وأن أول من يبدأ بتوقحه الطلبة والفقهاء لما يزعم أنه عالم. فمشى إلى أسكيا وقت القائلة فدخل عليه وقال له: ما أتا بك في هذه الساعة؟ قلت له: بارك الله فيك وزين أيامك، منذ دخلت في هذه الدار العالية ما سمعنا المالك الثاني لأهل سغي. قال لي أسكي ألفع: هذا الذي ما عرفت ولا سمعت به قبل، وهل لأهل سغي مالك ثان؟ قلت له: بارك الله في عمرك كائن، وهو الذي بوطّئ لك رقاب الناس خارجاً، وأنت في داخل قاعد. فأخذت أعدده له من عهد جده إلى زمن أسكيا محمد بان. فقال لي: هذا تعني. قلت له: نعم، بارك الله في عمرك. قال: الذي يكون أهلاً لهذا ما عرفته في هؤلاء القوم. قلت له: لا تقل ذلك، ما زالت البركة في وجه الأرض: ابناك عمركت بن محمد بنكن ومحمد ابن أسكيا الحاج، فيهما جميع البركة، ابعث لهما في المجيء في هذه الساعة وعاملهما بالخير حتى يغرقا فيه.

    فبعث لعمركت أولاً، ويسكّن معه في داره مربيه وصيف والده زبي وهو أشد منه بأساً وشجاعة، فخاف من تلك النداء في تلك الساعة خوفاً شديداً. فمشى فزعاً مرعوباً، وبقي زبي في الدار مرعوباً. فلما امتثل بين يدي أسكيا قال له: ولدي عمر من يوم رفعتم التراب هنا ما رأيتك بعد إلا في هذه الساعة، أما علمتم أن هذه الدار داركم وما دخلتُ فيها إلا لأجلكم، لا ينقطع رجلك عني. فأعطاه من كل جنس خيراً كثيراً من اللباس الفاخرات والزرع والودعة وغيرها، أعطاه حصاناً من خيل سرجه.

    فرفع التراب وخرج مسرعاً لداره، وأدرك زبي في الغم والكرب الذي لا يعلمه إلا الله. فلما دخل عليه قال له: ما هنالك؟ قال: مت. قال له: فدا لك نفسي، أموت دونك، عجل لي بالخير. قال له: اصبر حتى تنظر. فدخل مراسيل أسكيا بجميع العطايا. فقال زبي: أمن هذا؟ إذا كنت لا تموت منها ففي أي شيء تموت؟ والحر لا يموت إلا في الخير، لا تزال تموت بمثلها، وأنا سابق قبلك فيها.

    ثم دعا محمد ولد أسكيا الحاج وفعل له مثل ذلك الفعل.

    وفي الغد تحزم عزركت وركب حصانه وجاء إلى دار أسكيا، وهو في ناديته وجماعته متوافرة فيها. تحرك حصانه فأقبل وأدبر حتى أتم العادة. ثم تكلم بعد ما دعي وقال لوند قال: قل لأسكيا هؤلاء الجماعة أهل سغي يقولون ما لا يفعلون، وهم الذين يمسكون الماء والنار في أفواههم، وكل من تكلم لك هنا أول مرة ما تكلم بصدق، وهاهو سالك أت غداً، وإذا تلقينا معه هذه الحربة التي أجعلها في كذا أمه، فكل من كان على صدق فليقل مثل هذه المقالة. فتفرقت الجماعة وتحزموا، وتكلم الجميع بمثلها.

    وفي يوم الجمعة الثامن عشر من جمادي الأولى نزل بلمع محمد الصاق بجيشه في كنب كري وبُنيت قباءه فدخل فيها. وأول من أتاهم هنالك مازنف الحاج المذكور، فلما رأى قباءه حرك حصانه وأجراه حتى دنا إليهم، فصاح وقال: أين سالك؟ فرمى القباء بالحريش حتى كادت أن تطيح وهو في داخله. فكر راجعاً. ثم جاءت كتيبة التوارق. ثم انثال خيل أسكيا إليهم كجراد منتشر.

    فقام بلمع وأصحابه وأقاموا عصيهم وتهيئوا للقتال، فحرك وأجراه قاصداً جهة أسكيا إسحق. فتلقاه عمركت ومحمد ولد أسكيا الحاج، فرماه عمركت على رأسه بالحريش، فطار الحريش إلى السماء لأجل المغفر الذي في رأسه. فقال: ولدي عمركت أنت الذي رميتني بالحديد؟ فقال له: تنكر، وهو كلمة يعظم بها بلمع وكرمن فاري، ما كان منا أحد إذا جعله أسكيا في مرتبتك هذه الآن أن يصلحها. فانكسر قلبه فرجع إلى مقامه. ثم لم يزل يقاتل وأصحابه مع جيش أسكيا طول ذلك اليوم حتى انهزم. فولى هارباً إلى تنبكت. فرجع أسكيا إلى داره. ثم اتبعه الرجال، وأمرهم بقضبه أينما سلك.

    وأما أهل تنبكت فلم يكن عندهم خبر بما جرى بينهم، إذا جاءهم بلمع سالك بنفسه يوم الأربعاء الثامن والعشرين من جمادي الأولى المذكور وأخبرهم بانهزام جيشه. وأخبر أنه بينما هو يوم الجمعة في كنب كري إذ سطع عليهم غبار عظيم من جيش عظيم لأسكيا إسحق، فالتقوا واقتتلوا من الضحى إلى وقت الغروب، فمات بينهم خلق كثير فحينئذ ولّيت مدبراً مع هنبركي وبركي وباغن فاري بكر، وكلهم مجروحون سوى باغن فاري وحده.

    ثم جاء سالك إلى تندرم فقطع البحر إلى جهة كرم، ومعه هنبركي منس وابن فرم دك. فلحقهم الرجال الذين في إثره، فقبضوهم فجاءوا بهم إلى كنت، وقتلوا سالك وابن فرم دك فيها بأمره، ودفنوهما في مجاروة بنكن وهادي والقبور الأربعة هنالك معروفة. وأما هنبركي فجاءوا به إلى عند أسكيا، فجعله في سنكور، وخيّط عليه جلد بقر وجعله في حفرة في إصطلبه طولها قامتان فردمت بالتراب حياً فمات منها، والعياذ بالله من غلبة الرجال.

    وأرسل مراسيله إلى تنبكت في قبض مغشرن كي تبرت وتنبكت كي أبكر وأمرهم أن يقوموا هنالك. أما الكيد بن حمزة فقد عفى عنه لأنه تاجر مسكين فضولي لا عبرة به ولا مبالاة. فقال ولي الله تعالى السيد عبد الرحمن بن الفقيه محمود: لو كمل عفوه فيهما لا عبرة ولو بهما عند قدره.

    فلما رجع المراسيل بهما إلى قتلهما، فأخذ يبحث عن أتباع سالك في الفتنة. فقتل كيراً منهم وسجن كثيراً وضرب كثيراً بالسير المفتول والثقيل.

    وأما محمد كي أجي ولد يعقوب فمات تحت الضرب. وأما يعقوب ولد أربند فجيء به بين يديه، فجعل يتكلم بصوت خفي، فقال له وند: ارفع صوتك يا بن مولاي، أهكذا تتكلم بين يدي سالك؟ فرفع صوته حتى جاوز الحد، يريد له البلاء بذلك. ثم ضرب حتى كاد أن يموت، ولم يكن أجله فيها. وسجن ازو فرم بكر بن يعقوب في كبر، فسرحه الباشا محمود بن زرقون. وسجن بركي وكل شاع بكر في موضع واحد، فتسرحا في فتنة الباشا جودار ورجعا لبلادهما وفي سلطنتهما بلا أمر أحد. ثم أتي ببكر بن الفق ذنك، فلما امتثل بين يديه قال له: يا هذا الكيشا الذي ما صاب مقاماً طول عمره الذي يستر شيبه فيه بعمامة! ثم قال: هاتوا كرزي. فجيء به، فقال له: خذه واستر به هذا الشيب السيء. جعل ذلك له إهانة وتصغيراً، وهو ملسن عارف بالشتم والتعييب جداً، فبقي كيشا فقباله.

    ثم جيء بكركا منذ سرك ولد كلشع إليه، فقال له: يا شيخاً جوالاً في الفتن ما تخرج في يدي حتى تعدّ لي جميع الفتنة التي دخلت فيها واحداً بعد واحد. فقال ما افتضحت في إحداهن مثل افتضاحي في هذه. فضحك وقال: اذهب معافاً لوجه الله تعالى.

    ثم جيء بسعيد مار، وهو ضعيف نحيف جداً متكلم ملسن يأكل أعراض الناس. فلما امتثل بين يديه قال: انظره، إذا أجلس على طرف القضيب يجلس، وإذا غرز لسانه في الحجر يثقبه. أين كنك فرم؟ فجاء وقال: اذهب به وبرّح عليه من أول البلد إلى مؤخره: إن وجده جالساً في وراء دار بت أو لقيه سائراً في البلد نصف الليل أو آخرها فليرمه بالحديد، ودمه هدر، ومن تركه ولم يقتله فقد ترك عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وترك عدوي. فطاف به البلد كما أمر حتى حاذا به الجامع الكبير، جبذ نفسه من الربوط الذي في قربيس البراح، فدخل الجامع لطلب الشفاعة. فبلغ الخبر الإمام فمشى إلى عند أسكيا للاستشفاع. فأمر بمجيئه وقال الإمام: أذهب فقد عفوت عنه. وقال للإمام: لا تذهب، وبقيت شفاعة واحدة أريد في حرمتك وفي حرمة الجامع: كما برح علي بهدر الدم، أن يبرح بالعفو فيسمعه الناس جميعاً لئلا يقتلوني باطلاً، وأعدائي كثير في كاغ. فضحك أسكيا وبالغ في الضحك وأمر له بذلك.

    فأخذ مرة في هذا البحث حتى أتم مراده في أولئك الجماعة. ثم ولى محمود بن إسماعيل كرمن وجعله كرمن فاري، وجعل أخاه محمد كاغ بلمع، ومحمد هيك بن فرن عبد الله بن الأمير أسكيا الحاج محمد بنك فرم. قد أعطاه الله تعالى وأخاه تنطي برم تلت من الجمال الفائق التي لم ير الراؤون مثلها في أهل سغي أجمع، حتى إذا جاءوا لتنبكت يتبعهم الناس لرؤية تلك الجمال.

    وجعل ينب ولد سابي ول فاري منذ، والحسن تنبكت كي، وأكمظل أخ تدكمرت مغشرن كي، فهو والحسن آخر السلاطين في قومهما في دولة أهل سغي. أما الحسن فدخل في طاعة العرب، وأما أكمظل فلم يدخل فيها حتى توفي.

    ثم قتل أخاه ياسي بر بير بن أسكيا داوود ظلماً وعوناً، فسعى به عنده خاصته ياي فرم بان أجي وذكر أنه يطلب السلطنة، وهو من خيار أولاد داوود وأحسنهم خلقاً وأعظمهم عفة ولم بعمل فاحشة قط، وهذا معدوم فيهم بالكلية.

    وأما باغن فاري بكر فرجع إلى تندرم ودخل في حرمة الفقيه القاضي محمود كعت أن يشفعه عند أسكيا إسحق، فأنكر عليه ذلك ولده ماربا فتحولت عزمته وخرجوا عامدين كَل، فسكنوا في بلد يقال لها مدينة إلى مجيء محلة الباشا جودار.

    ثم توفي دند فاري بكر شبلي أجي في زمنه، وجعل خلفه دند فاري المختار. وتوفي كلشع الذي ولاه أسكيا محمد بان. فجاء كنتي منذ الحسن إلى سغي يطلب الولاية، فبقي فيها إلى أن جاء الباشا جودار وانقلبت الدولة.

    وفي سنة السابعة والتسعين بعد تسعمائة غزا إلى نمتنك كفار كرم، فمات منها بنك فرم محمد هيك. فلما رجع إلى كاغ جعل خلفه عثمان در فرن ابن بكر كرن كرن بن الأمير أسكيا الحاج محمد، وهو كبير السن يومئذ جداً. فقال لأسكيا: لو لا أن كرامتك لا ترد لا أقبلها لأجل كبر سني، لأني في أربعين فارساً الذين اختارهم أسكيا إسحق بير في كوكيا لإيصال ابنه عبد الملك لدار الخطيب في كاغ لما أيس من الحياة في مرض موته. نعم فقد صدق لأن أسكيا إسحق هذا ما زال ما خلف بعد.

    ثم غزا في السنة الثامنة والتسعين والتسعمائة إلى تنفن كفار كرم أيضاً. وفي أوائل ذي الحجة المكملة السنة المذكورة توفيت جدتي أم والدي فاطمة بنت سيد علي ابن عبد الرحمن الأنصرية، ودفنت في مجاورة بعلها جدي عزران رحمهم الله تعالى آمين. وفي سنة التاسعة والتسعين والتسعمائة عزم على الغزو إلى كل، وهو في شغل من أمرها إذ ورد خبر بمحلة الباشا جودار. فشغل عنها ونسيها ونبذها وراء ظهره.

    ومن حين تولى أسكيا إسحق إلى يوم انهزم جيشه في ملاقات الباشا جودار ثلاث سنين وأربعة وثلاثون يوماً. ومن الانهزام إلى مقاتلته مع الباشا محمود بن زرقون في زرزن ستة أشهر وسبعة أيام. وسيأتي تواريخ ذلك إن شاء الله.

    وفي أوائل العام المكمل لألف عزله محمد كاغ وتولى السلطنة على أهل سغي، ولم يمكث فيها إلا أربعية يوماً فقط. فقبضه الباشا محمود وأعزل. ولكن ما عرف كم تأخر إسحق بعد وقعة زرزن إلى يوم عزله محمد كاغ.

    تتمة: أما الأمير أسكيا الحاج محمد بن أبي بكر فأولاده كثير ذكوراً وأناثاً وفيهم من يتسمون على اسم واحد:

    منهم أسكيا موسى، وموسى ينبل، وكرى فرم موسى.

    وله عثمان ثلاثة: كرمن فاري عثمان يوباب، ومور عثمان سيد، وعثمان كنكر.

    وله محمد ثلاثة: مور محمد كنب، ومحمد كدر، ومحمد كري.

    وسليمن ثلاثة: سليمن كتنك، وبنك فرم سليمن كنكاك-وهو آخر أولاده في مسجنه الجزيرة المسماة كنكاك، وسليمن كند كري.

    وله عمر ثلاثة: عمر كوكيا، وعمر توت، وعمر بوبع.

    وله بكر ثلاثة: بكر كور، وبكر سين فل، وبكر كرن كرن.

    وعلي ثلاثة: علي واي وعلي كسر، وبنك فرم علي بند كيني، وآخرون.

    ومن أولاده أيضاً هار فرم عبد الله، وفرن عبد الله شقيق إسحق بير، وأسكيا إسماعيل، وأسكيا إسحق، وأسكيا داوود، وكرمن فاري يعقوب، والطاهر، ومحمود دنكر، ومحمود دند، وبنك فرم حبيب الله، وبلمع خالد، وياسي، وإبراهيم، وفامع، ويوسف كي، وآخرون.

    ومن بناته ويز بان، وويز أم هاني، وويز عائشة كر، وويز حفصة، وعائشة بنكن أم بلمع محمد كرب، وعائشة كر أم بلمع محمد، وعو، وبنش، وحاوداكي أم هنبركي منس، وحاو أدم بنت تنبار، ومك مور، ومك ماسن، وفراس أم درمكي ماننكي، وكبر شقيقة أسكيا إسماعيل، وسف كر، وددل ويانا هسر، وفت هند أم عبد الرحمن، فت أجي، وفت وين، وكرتوجل والدة سيد كر.

    أما أبوه فاسمه أبو بكر ويقال له بار. قيل أنه طورنك، وقيل أنه سلنكي، وأمه كسي. إخوانه كرمن فاري عمر كمزاغ، وكرمن فاري يحيى. وأما أخوه عمر فله من الأولاد أسكيا محمد بنكن، وكرمن فاري عثمان تنفرن، وبنك فرم علي زليل، ومحمد بنكن كوم، والفق دنك، وأسكيا موسى.

    أمه زار كبر نكي، وهي جارية كبركي أولاً فولدت له ابناً فكان سلطاناً. ثم أصابها الأمير أسكيا محمد الحاج في السبي قبل أن يكون سلطاناً، فولدت له أسكيا موسى. ثم أخذها منه بس كي في المعركة بينهما، فولدت له ابناً فكان سلطاناً في بص.

    وأسكيا إسماعيل أمه مريم داب ونكرية. وأسكيا إسحق بير، كلثوم درموية. وأسكيا داوود أمه سان فاري ابنة فاركي. وأسكيا محمد بنكن أمه آمنة كرى. وأسكيا الحاج ابن داوود أمه آمنة واي بردا. وأسكيا محمد بان أمه أمس كار. وأسكيا إسحق زغراني أمه فاطمة بس الزغرانية. والهادي أمه زابير بندا، وكرمن فاري عثمان يوباب أمه كمس ميمنكي. وعثمان تنفرن أمه تات زعنكي. وكرمن فاري حماد أمه أريو أخت أسكيا الحاج محمد الأمير، وأبوه بلمع محمد كري، وأخوه ماسوس والد محمد بنش أجي.

    وأما كرمن فاري الأول فعمر كمزاغ، ثم يحيى، ثم عثمان يوباب، ثم محمد بنكن كريا، ثم أخوه عثمان تنفرن، ثم حماد أريو بن بلمع محمد كري، ثم علي كسر، ثم داوود، ثم كشيا، ثم يعقوب، ثم مركن، ثم الهادي، ثم صالح، ثم محمد بن إسماعيل.

    وبلمع الأول محمد كري قتله أسكيا موسى حين ذهب إلى منصور، ثم محمد ندمي ابن الأمير أسكيا الحاج محمد، ثم حماد ولد أريو، ثم علي كسر، ثم كشيا، ثم خالد، ثم محمد ولد دل، ثم محمد وعو ولد دعنكاكي، ثم حامد ابن أسكيا داوود عزله أسكيا محمد بان ونفاه إلى جني حتى مات هنالك، ثم محمد الصادق، ثم عمر كمزاغ.

    وبنك فرم الأول علي يمر، ثم بل، ثم باركر والد آمنة فاي أم أسكيا الحاج وليس أهلاً لهذه المرتبة، ثم علي كند نكني ابن الأمير أسكيا الحاج محمد أمه مولدة أجر أهل كيس-وليس بناجم عزله أسكيا إسحق وسكن في موالي أمه، ثم بكر بير بن مور ابن محمد بن أسكيا الحاج فأخذه فيها كثيراً، ثم علي مليل العدل، ثم سليمن كنكاك عزله أسكيا الحاج ونفاه إلى جني حتى مات فيه، ثم محمود بن أسماعيل، ثم محمد هيك، ثم عثمان درفن.

    أما أسكيا داوود فله من الأولاد كثير ذكور وأناث، ومن الذكور ستة كلهم اسمه محمد: محمد بنكن، والحاج محمد، ومحمد بان، ومحمد الصادق، ومحمد كاغ، ومحمد سرك أجي. وهارون اثنان: هارون دنكتيا، وهارون فات تراجي. ثم حامد، ثم الهادي، ثم صالح، ثم نوح، ثم المصطفى، ثم علي تند، ثم محمود فراراجي، ثم إبراهيم فصار إلى مراكش، ثم دك ثم إلياس كوم، ثم سحنون، ثم إسحق، ثم إدريس، ثم مارنف أنسا، ثم الأمين، ثم ياسي بربير، ثم سن، ثم سليمن زو، ثم ذو الكفل، وآخرون.

    ومن الأناث بت زوجة مغشرن كي محمود بير الحاج بن محمد الليم، وكاسا زوجة جنكي وينبعلي فصارت إلى مراكش وفت زوجة ساتنك، وويز حفصة، وويز أكيبنو، وحفصة كيمر. وقد زوج منهم العلماء والفقهاء والتجار وكبراء الأجناد كثيرات.

    وأما ابنه كرمن فاري محمد بنكن فله من الأولاد فيما نعلم أربعة ذكور: عمر بير، وعمر كت، وبنب كير أجي، وسعيد فصار إلى مراكش وجُعل أسكيا هنالك وهو فيها إلى الآن.

    وأما ابنه أسكيا الحاج محمد فله من الأولاد، فما نعلم ثلاثة أثنان ذكور محمد وهارون الرشيد، فكان أسكيا في دولة العرب. الثالثة أنثى اسمها فت تور فصارت إلى مراكش فمات فيها كما مات الباقون.

    الباب الحادي والعشرون

    ذكر مجيء الباشا جودر إلى بلاد السودان

    وهو فتى قصير أزرق. وذلك أن ولد كرنفل، وهو رجل من خدام أمراء سغي، غضب عليه الأمير أسكيا إسحق بن داوود بن الأمير أسكيا الحاج محمد، فبعثه إلى تغز برسم السجن هنالك، وهو من بلادهم الذي في ملكهم وحكمهم.

    فكان من قدر الله وقضائه انطلاقه من ذلك السجن، وهرب إلى مدينة حمراء مراكش عند أميرها الشريف مولاي أحمد الذهبي. ولم يدركه فيها، قد غاب إلى مدينة فاس لتعذيب الشرفاء الذين كانوا فيها، فأعمى أبصارهم، ومات من ذلك كثير منهم: إنا لله وإنا إليه راجعون. جعل ذلك نفاسة على الدنيا، والعياذ بالله.

    فكتب ولد كرنفل كتاباً وبعثه له فأخبره بمجيئه وبأخبار أهل سغي وبما كانوا عليه من الأحوال الذمية والطبائع الرذيلة مع ضعف القوة، وحضه على أخذ الأرض من أيديهم.

    فكتب الكتاب إلى الأمير أسكيا إسحق بعد ما بلغه كتاب ولد كرنفل وأخبره فيه بمجيئه إليهم وأنه غائب يومئذ إلى مدينة فاس وأنه يرى إن شاء الله كتابه في طي كتابه، ومن جملة ما خاطبه فيه مولاي أحمد أن يسلم له في خراج معدن تغاز وأنه أولى به منه لأنه الحاجز والمانع لهم من الكفرة النصرانيين إلى غير ذلك. فبعث الكتاب مع مرسوله له إلى مدينة كاغ، وهو ما زال في فاس بتاريخ شهر الصفر سنة ثمانية وتسعين وتسعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ووقفت على ذلك الكتاب بعينه. ثم إنه رجع منه إلى مراكش، فنزل عليه الثلج في الطريق كاد أن يموت منه، وقطع أيدي كثير من قومه وأرجلهم، وما وصلوا بلدهم إلا في بئس الحال، نسأل الله تعالى العافية من بلائه.

    فلم يساعفه الأمير أسكيا إسحق بما طلب من التسليم في ذلك المعدن، بل قبح له الكلام في الجواب وبعث له صحبة جوابه حرشاناً ونعلين من حديد. فلما وصله ذلك عزم على صرف الحملة إليه بالغزو. وفي القابل في شهر المحمر الحرام فاتح عال التاسع والتسعين بعد تسعمائة بعث المحلة الكبير إلى سغي لقتالهم، فيها ثلاثة آلاف رامياً من بين أصحاب الخيل ورجل، ومعهم من الأتباع ضعفها، كل صنف وأجناس من الصناع والأطباء وغيرهما.

    جعل عليها الباشا جودار ومعه نحو عشرة من القياد: القائد المصطفى التركي، والقائد المصطفى ابن عسكر، والقائد أحمد الحروسي الأندلسي، والقائد أحمد ابن الحداد العمري قائد المخازينة، والقائد أحمد بن عطية، والقائد عمار الفتى العلجي، والقائد أحمد ابن يوسف العلجي، والقائد علي بن المصطفى العلجي وهو أول قائد جُعل على بلد كاغ ومات مع الباشا محمود بن زرقون حين قتل في الحجر، ثم القائد بوشيبة العمري، والقائد بوغيت العمري. والكاهيان الكاهية باحسن فرير العلجي على اليمين، والكاهية قاسم وردوي الأندلسي على الشمال. هؤلاء الذين جاءوا مع جودار من القياد والكواهي.

    فأخبرهم بخروج ذلك الأرض من مملكة السودان وبمقدار ما يملكه جيشه ذلك فيه على حسب ما يقف عليه في الخيور. فتوجهوا إلى أهل سغي.

    فلما بلغهم خبر هذه المحلة جمع الأمير أسكيا إسحق قياده وكبراء مملكته في الرأي والتدبير. فكلما أشاروا إليه من الرأي السديد يرمونه وراء ظهرهم، لما سبق في سابق علم الله تعالى الذي لا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه من زوال ملكهم وانقراض دولتهم.

    ووجد الحال أن حم ابن عبد الحق الدرعي كان في كاغ حينئذ، جاء لرسم السفر. فأمر الشيخ أحمد تويرق الزبيري الأمير إسحق بقضبه وسجنه، وهو عامل على تغز لأهل سغي، وزعم أنه ما جاء لكاغ إلا لأجل التجسس للأمير أحمد الذهبي. فسجنه الأمير إسحق ورافع وأحمد نين بير والحروشي والد أحمد الأمجد،

    حتى وصلوا البحر عند قرية كربر فنزلوا هنالك وعمل الباشا جودار سفرة كبيرة لإطعام الطعام فرحاً لوصولهم البحر سالمين لأن ذلك أمارة ظفرهم بمرادهم ونجحهم لسعيهم من عند أميرهم، وكان ذلك يوم الأربعاء الرابع من جمادي الأولى في العام التاسع والتسعين بعد الهجرة كما مر.

    وما طرقوا بلد أروان بل جازوا عليها على جهة المشرق ووافقوا بإبل عبد الله ابن شين المحمودي، فأخذ منهم جودار مقدار حاجتهم. فركب وغرب إلى ألأمير مولاي أحمد في مراكش اشتكاء بما ناله منهم من الظلم، وهو أول من أخبره بوصول تلك الحملة البحر. قال أول من سأل عنه الكاهية باحسن. فقال: لعل لاحسن على خيرب. ثم سأل عن القائد أحمد بن الحداد والباشا جودار، وكتب له أن يعطوه قيمة ما أخذوا من إبله.

    ثم نهضوا من ذلك المكان فتوجهوا إلى بلد كاغ فتلقاهم الأمير أسكيا إسحق في موضع يقال له تنكندبع وهو في قرب تندبي في اثني عشر ألفاً وخمسمائة من الخيل وثلاثين ألفاً من أرباب الرجل. ولم يلتئم العسكر لأنه أهل سغي ما صدقوا بخبرهم حتى نزلوا على البرح.

    فاقتتلوا هنالك يوم الثلثاء السابع عشر من الشهر المذكور فكسروا جيش أسكيا طرفة عين. وممن مات من الأعيان من أهل الخيل ساعتئذ فندنك بوب مريام صاحب ماسنة المعزول، وساع فرم علي جاوند، وبنك فرم عثمان درفن بن بكر كرن كرن ابن الأمير أسكيا الحاج محمد بن أبي بكر، وهو كبير السن جداً يومئذ، جعله الأمير أسكيا إسحق بنك فرم لما مات بنك فرم محمد هيك في غزوة نمنتك كما مر.

    ومات كثير من كبراء أهل الرجل يومئذ. لما انكسر العسكر طرحوا جروقهم على الأرض وقعدوا عليهم متربعين حتى وصلهم جيش جودار، وقتلوهم صبراً على تلك الحال، لأن من شأنهم عدم الفرار عند الانكسار. وأخرجوا أسورة الذهب التي في أيديهم.

    فولى الأمير أسكيا إسحاق وعسكره مدبرين منهزمين فبعث لأهل كاغ أن يخرجوا منه فراراً إلى وراء البحر من جهة كرم، وبعث بذلك أيضاُ لأهل تنبكت. فجاز على حاله، وما طرق كاغ، إلى كري كرم، فنزل فيها بتلك العسكر. فكان بكاء ونوحاً فيها، وارتفعت الأصوات بذلك ارتفاعاً عظيماً. وشرعوا في الخروج واقتطاع البحر في القوارب بالمشقة والازدحام، فغرق كثير من الناس في ذلك البحر وماتوا، وضاع من الأموال ما لا يحصيه إلا الله سبحانه.

    وأما أهل تنبكت فلم يمكن لهم الخروج والفرار إلى وراء البحر لأجل المشقة وثقل الحال، ولم يخرج إلا تنبكت منذ يحيى ولد بردم والذين معه فيها من خدام أسكيا، فنزلوا إلى الكف يند موضع بقرب بلد توي. فجاز الباشا جودار بتلك المحملة إلى كاغ، ولم يبق فيها من سكانها إلا الخطيب محمود درامي وهو شيخ كبير يومئذ والطلبة ومن لم يقدر على الخروج والهروب من التجار. وتلقاهم الخطيب محمود المذكور بالترحيب والإكرام وأضافهم ضيافة فاخرة كبيرة، وجرى بينه وبين الباشا جودار كلام وحديث طويل، وبالغ في تعظيمه وإكرامه. ثم إنه رام الدخول في دار الأمير أسكيا إسحاق، فأمر بإحضار الشهود فحضروا له، ودخل معهم فيها. فلما طالعها وعاينها وعلم ما فيها حقرها.

    وبعث له الأمير إسحاق أنه يصالح معه على مائة ألف ذهب وألف خديم يعطيها للأمير مولاي أحمد على يده ويرجع الجيش إلى مراكش ويسلم له في أرضه. فبعث له أنه عبد مأمور لا تصرف له إلا بما أمر مولاه السلطان، فكتب له بذلك هو والقائد أحمد بن الحداد مع اتفاق كافة تجار بلده، بعد ما أخبره في كتابه ذلك أن دار شيخ الحمارة في الغرب خير من دار أسكيا التي طالعوها بعثه صحبة على العجمي وهو بشوظ يومئذ.

    فرجع هو إلى تنبكت مع أولئك الجيش لينتظر الجواب، ولم يتأخر في كاغ إلا سبع عشر يوماً والله تعالى أعلم فوصلوا إلى مس بنك يوم الأربعاء آخر يوم من جمادي الثانية. ثم ارتحلوا منها يوم الخميس أول يوم من رجب الفرد. ونزلوا خارج بلد تنبكت من جهة القبلة وتأخروا هنالك خمسة وثلاثين يوماً. فأرسل الفقيع القاضي أبو حفص عزر بن ولي الله تعالى الفقيه القاضي محمود يحم المؤذن ليسلم له عليه، ولم يضيفهم بشيء كما أضافهم الخطيب محمود درامي عند وصولهم مذينة كاغ. فغضب من ذلك غضباً شديداً فنشر له أنواع الفواكه التمر واللوز والسكر كثيراً وألبسه دائرة ملف أحمر سكرلات. فلم يحسن أرباب العقول الظن بذلك، فصار الأمر على ما ظنوا.

    ثم إنهم دخلوا في داخل المدينة يوم الخميس السادس من شعبان المنير. وطافوا في المدينة وطالعوها، ووجدوا أكبرها عمارة حومة الغدامسيين. فاختاروها للقصبة وشرعوا في بنائها، وأخرجوا أناساً في ديارهم في تلك الحومة.

    وأخرج الباشا دودار حم ابن عبد الحق الدرعي من السجن وجعله أميناً بأمر السلطان مولاي أحمد. وأما رافع وأحمد نين بير فمانا قبل وصول جودار لكاغ. وجعل للمرسول بشوظ علي العجمي في المعاد الذهاب والرجوع أربعين يوماً.

    فوجدت هذه الممحلة أرض السودان يومئذ من أعظم أرض الله تعالى نعمة ورفاهية وآمناً وعافية في كل جهة ومكان ببركة ولاية الأسعد المبارك أمير المؤمنين أسكيا الجاد بن أبي بكر بن عدله وشدة حكمه الشامل العام الذي كما يهفذ في دار سلطنته كذلك ينفذ في أطراف ملكته من حد أرض دند إلى حد أرض الحمدية ومن حد أرض بندك إلى تغز وتوات وما في أحوازهم، فتغير الجميع حينئذ، وصارت الأمن خافاً والنعمة عذاباً وحسرة والعافية بلاء وشدة. ودخل الناس يأكل بعضهم بعضاً في جميع الأمكنة طولاً وعرضاُ بالإغارة والحرابة على الأموال والنفوس والرقاب. فعم ذلك الفساد وانتشر وبالغ واشتهر. فأول من بدأ فيها سنب لمد صاحب دنك، فأهلك كثيراً من بلاد رأس الماء، وأكل أموالهم على الإطلاق، وقتل من قتل وكسب من كسب من الأحرار. وكذلك الزغرانيون اتلفوا بلاد بر وبلاد درم كذلك. وأما أرض جني فقد اتلفها كفار بنبر شرقاً وغرباً يميناً وشمالاً اتلافاً قبيحاً شنيعاً، وخربوا جميع البلادات ونهبوا جميع الأموال، واتخذوا الحرائر جواري وتناسلوا معهم، فكانت الذراري مجوسيين والعياذ بالله. وكل ذلك على يد شاع مكي وقاسم ولد بنك فرم علو زليل بن عمر كمزاغ وهو ابن عم باغن فاري، وبهم ولد فندنك بوب مريام الماسني.

    ومن رؤساء أولئك الكفرة يومئذ الذين يسوقهم مع هؤلاء الفاسدين القطاعين بنس سام في أرض فدك وقاي فاب في أرض كوكر، هؤلاء في جهة كل. وأما في جهة شيلي وجهة بندك فسلتي سنب كس الفلاني في قبيلة وررب وسلتي يربر والد حمد سول والفلاني في قبيلة جلوبي الكائنين في ناحية فرمان، ومنس مغ ولي والد كنع كي أحد اثني عشر سلاطين بندك كما كانوا في أرض كل كذلك وبنكون كند إلى غير ذلك.

    وذلك الفساد يجدد ويزداد إلى هلم جرا. ومن حين تولى الأمير أسكيا الحاج محمد ملك أرض سغي، ما قصدهم أحد من أمراء الآفاق بالغزو إليهم من القوة والمتن والنجدة والشجاعة والمهابة التي خصهم الله تعالى بها، بل هم الذين يقصدون الأمراء في بلدانهم فينصره الله عليهم غير ما مر، كما مر في أخبارهم وفصصهم، إلى قرب انقراض دولتهم وزوال مملكتهم، بدّلوا نعم الله كفراً وما تركوا أشياءً من معاصي الله تعالى إلا ارتكبوها جهراً من شرب الخمور ونكحة الذكور. وأما الزنى فهو أكبر عملهم حتى رجع بينهم كأنه غير محظور ولا لهم فخر وزينة إلا بها، وحتى يفعلها بعض أولاد سلاطينهم بإخوانهم.

    وقيل أنه حدث في آخر مدة السلطان العدل أمير المؤمنين أسكيا الحاج محمد، وولده يوسف كي هو الذي أبدعه. فلما سمعه غضب غضباً شديداً، دعى عليه أن لا يصحبه ذكره إلى دار الآخرة. فأجاب الله تعالى دعوته فيه فانقطع منه بعلة والعياذ بالله. ثم إن الدعوة نالت ابنه أربند والد ينكي يعقوب، فانقطع ذكره كذلك في آخر عمره بتلك العلة.

    ولهذاانتقم الله سبحانه منهم بهذه المحملة المنصورة، فرماهم بها من مسافة بعيدة ومكابدة شديدة فاجتثت عروقهم من أصلها، ولحقوا بأصحاب العبرة وأهلها.

    ولنرجع إلى الكلام في تمام ذلك الصلح. فلما بلغ المرسول بشوظ علي العجمي عند السلطان مولاي أحمد، وهو أول من أتاه بخبر أرض السودان، وقرأ ذلك الكتاب غضب غضباً شديداً. عزل جودار ساعتئذ، وبعث محمود بن زرقون باشا بثمانين رامياً، كاتبهم مامي ابن برون، وشاوشهم علي بن عبيد. وأمره بطرد إسحاق من أرض السودان وقتل القائد أحمد بن الحداد العمري، حيث اتفق مع جودار على ذلك الصلح. وكتبه في الكتاب معه إلى الجيش.

    ثم إن الشريفات وعظماء أهل داره رغبوا في القائد أحمد بن الحداد فعفي عن قتله، وطلبوا منه أن يكتبه. فكتبه أيضاً فسبق كتاب العفو إلى عند القائد أحمد بن الحداد، فعمل السفرة وأحضر فيها الكواهي والبشوظات، وأخبرهم بما جرى، فأعطى لكل واحد من الكواهي مائة مثقال مائة مثقال، وأعطى الباشوظات ما أعطاهم. فعاهدوه جميعاً أن لا يصيبه مكروه حيث سبق كتاب العفو. وفي العشية وصل كتاب القتل، فحالوا بينه وبين الباشا محمود بن زرقون، وأنقدوه منه بحكم الطريق العادية.

    ووصل مدينة تنبكت يوم الجمعة السادس والعشرين من شوال عام تسع وتسعين وتسعمائة، ومعه القائد عبد العالي والقائد حم بركة. فعزل جودار ساعتئذ وتحول الجيش معه، وبالغ له في الملامة والانكار عليه حتى قال له: أي شيء منعك من اللحوق إلى إسحاق. فاعتلّ له بعدم القوارب. ولذلك شرع في صنع القوارب. ولما لم يجد السبيل إلى قتل القائد أحمد بن الحداد، عزله وجعل مكانه القائد أحمد ابن عطية، لأجل العداوة التي طرأت بينهما. والقائد أحمد ابن الحداد حبيب الباشا جودار، فعل به الباشا محمود بن زرقون ما فعل مغيظة لجودار.

    ثم إن محموداً عزم على الحركة إلى إسحاق أسكيا، فاشتغل بإصلاح القوارب، لأن صاحب المرسى منذ الفع ولد زرك هرب بجميع القوارب إلى ناحية بنك لما بعث إسحاق أسكيا لأهل تنبكت بالارتحال. فقطعوا جميع الأشجار الكبار الذين كانوا في داخل مدينة تنبكت ونجروا منها الألواح وغصبوا الدفوف الغلاظ الكبار الذين كانوا في أبواب الديار وركبوا منهم قاربين. وأنزلوا الأول في البحر يوم الجمعة الثالث من ذي القعدة الحرام في العام المذكور. ثم أنزلوا الثاني في البحر يوم الجمعة أيضاً سابع عشر من الشهر المذكور.

    فبرز الباشا محمود مع الجيش كلها يوم الاثنين العشرين من الشهر المذكور، ومعه الباشا جودار المعزول وجميع القياد ما خلا القائد المصطفى التركي. فخلفه محمود على تنبكت مع الأمين حم حق الدرعي. ونزل خارج البلد من جهة القبلة، وتأخر هنالك بقية الشهر. ثم ارتحل منها يوم السبت الثاني من ذي الحجة الحرام المكمل للعام التاسع والتسعين وتسعمائة ونزل في مس بنك. ثم ارتحل منها ونزل في سينك، فتأخر فيه حتى صلى عيد الأضحى. ثم صرف للقاضي أبي حفص عمر أن يبعث له من يصلي بهم العيد، فبعث له الإمام سعيد بن الإمام محمد كداد، فصلى بهم هنالك هذا العيد، فرتبه إماماً يصلي في جامع القصبة إلى أن توفي رحمة الله عليه.

    ثم توجه إلى إسحاق أسكيا للمقاتلة. فسمع هو به وهو في برن يومئذ، فنهض للقائه والتقوا في بنب يوم الاثنين الخامس والعشرين من الشهر المذكور، واقتتلوا يومئذ عند نبكة زرزن. فهزمه الباشا محمود أيضاً، فولى مدبراً منهزماً. ومن مات من عسكره يومئذ فار منذ ينب ولد ساي ول، وأمه من بنات الأمراء، وجعل خلفه سن ولد أسكيا داوود، فهذا آخر توليته. فتوجه نحو أرض دند، فنزل في كري كرم. وقد أصاب الرصاص بلمع محمد كاغ ابن أسكيا داوود عند المطاردة فأمرضه، وأمره إسحاق أسكيا بالرباط في موضع، وأمر باركي ملك بمثله في موضع آخر، وأمره بالغارة على الفلانيين الكائنين في أنسع، فغار عليه.

    ومع باركي ملك المذكور جماعة من إخوة إسحاق المذكور في موضع الرباط قد عزلهم من مراتبهم في غزوة تلفي لجبن ظهر فيهم يومئذ. فكتب لباركي أن يقبضهم خوفاً من الهروب إلى الأعداء. ففطنوا لذلك وهربوا إلى جهة كاغ، منهم علي تند ومحمود فرار أجي وبرهم وسليمن وغيرهم من أولاد أمير أسكيا داوود. فتبعهم الباشا محمود بن زرقون مع جيشه حتى وصل كوكيا نزل هنالك.

    ولما ولى إسحاق أسكيا راجعاً عند الهزيمة الثانية بعث مرسوله إلى مدينة تنبكت، فوصله ليلة السبت أول ليلة من المحمر فاتح العام المكملة للألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأتم التسليم وأخبر بما جرى بينه وبين الباشا محمود.

    وأدرك أن تنبك منذ يحيى ولد بردم أتى بمن معه من أتباعه والزغرانيين أهل يرو لقتال القائد المصطفى التركي. فوصلوا تنبكت يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي الحجة الحرام مكمل عام تسعة وتسعين وتسعمائة. وقيل أنه حلف بدخول القصبة من باب كبر والخروج من باب السوق، وهو من أحمق الناس وأجهله. فلما قرب تحت برج القصبة ضرب بالرصاص فمات عشية ذلك اليوم، وقطع رأسه وطيف به في خشبة في المدينة ساعتئذ، وينادي المنادي معه: يا أهل تنبكت هذا رأس منذ متاع بلدكم، ومن لم يقعد عند روحه هكذا يفعل به. وجعل الرماة يحمروهم وجوههم بالشر ويجردون الناس بسيوفهم كل ساعة فاستوقدت نار الفتنة.

    ولنرجع إلى تمام الكلام فيما جرى بين الباشا محمود بن زرقون وبين أهل سغي في تلك الجهة. فلما نزل بلد كوكيا، ومعه مائة وأربعة وسبعون قباوات في كل قباء عشرون رامياً، ونهاية جملتهم نحو أربعة الأفف رماة-وذلك جيش عظيم لا يقابله ويهزمه إلا من نصره الله تعالى وأيده-بعث الأمير أسكيا إسحاق ألفاً ومائتين فرساناً من خيار عسكره الذين لا يولون الأدبار، وجعل عليهم هيكي لهَ سركيا، وهو قد بلغ الغاية والنهاية في النجدة والشجاعة، وأمره أن يقع عليهم إذا وجد فيهم غزة.

    فبعد انفصالهم مع أسكيا قليلاً لحقهم بلمع محمد كاغ في نحو مائة فارس، فسأله هيكي: مم هذا الالتحاق؟ فقال: أسكيا هو الذي اتبعني إياك. فقال له: هذا كذب وبهتان لما هو معروف عند الخاصة والعامة أن بلمع لا يكون تابعاً لهيكي، كلا وحاشا، وما ذلك إلا عادتكم القبيحة وطبيعتكم الشنيعة، يا أولاد داوود، من الحرص على الأمرة. فتنحى عنهم هيكي لهَ مع أناس من خاصته.

    ثم دود كور ولد بلمع محمد دل كبرانكي خرج من بين أولئك الجماعة متحيزاً إلى نحو هيكي، فقال له: يا دود تريد أن تقتلني كما قتل أبوك هيكي موسى لأسكيا داوود؟ لا تقدر عليه، ولا تقدر عليه لأني خير من هيكي موسى شدة، وأبوك خير منك، فوالله إن دنوت مني لجررت مصارينك في الأرض. فكر راجعاً إلى تلك الجماعة.

    فازداد الناس علماً لشدة هيكي له ونجدته حيث أقرانه خير من هيكي موسى في النجدة، لأنه من أشجع الناس في زمنه. فرجع له إلى أسكيا إسحاق وأخبره بما جرى. فمن قليل بايع أولئك الجماعة محمد كاغ وجعلوه أسكيا. فتجهز إسحاق للذهاب إلى ناحية كب. فلما عزم قبض كبراء الجند الذين اتبعه جميع ما عنده من عُدد السلطنة وآلاتها، وشيعوه إلى منضع يقال به تار. فتفارقوا معه هنالك يستغفر منهم ويسغفرون منه، فبكي هو ويبكون. فهذا آخر العهد بينهم.

    ثم توجه إلى تنفني عند كفار كرم بقدرة البارئ تعالى الذي لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، وقد قاتلهم العام الماضي، وما تبعه أحد من أهل سغي إلا ياي فرم بان أجي وقليل من خاصته. فلم يستأخر عندهم إلا قليلاً فقتلوه وابنه وجميع من معه. فماتوا شهداء رحمهم الله وعفى عنهم.

    ومن أخلاقه الكرم والتصدق بالأموال الكثيرة، وطلب الدعاء من العلماء والفقراء لأن لا يميته الله تعالى في السلطنة. فبلغه الله تعالى ذلك المأمول. وكان موته والله أعلم في جمادي الآخر في العام المكمل للأفل.

    الباب الثاني والعشرون

    ذكر أسر الأسكيا محمد كاغ

    ثم رجع الجيش إلى عند أسكيا محمد كاغ، وتم له البيعة. ثم بعث في إطلاق أخويه فار منذ طف وبنتل فرم نوح ابني أسكيا داوود، قد سجنهما أخوهما أسكيا محمد بان في أرض دند.

    فشرع إخوتهم من أولاد أسكيا داوود يهربون إليهم. فأول من هرب إليهم منهم دعَي فرم المعزول سليمن ابن داوود أسكيا. فأتى الباشا محمود فقبله. وخاف من ذلك أسكيا محمد كاغ، فبعث له في طلب ذلك البيعة للسلطان مولالي أحمد، وكاتبهم بكر لنبار هو الذي بعثه إليه، فأنعم له.

    ثم إن المجاعة دخلت في محلته حتى أكلوا دوابهم، فبعث لأسكيا محمد كاغ أن يغيثهم بالطعام أينما كان. فأمر بحصاد ما صلح همالك من الزرع في جهة حوص، وهو الذرة الأيض، فبعثه لهم.

    ثم إن الباشا محمود بعث له أن يأتي عنده لأخذ البيعة. فعزم على ذلك، ونهاه عنه أصحاب الرأي من قومه، منهم هيكي له، فقال: لا أؤمنهم أنا، وإن عزمت على المجيء إليهم ولا بد اجعل ذلك وحداناً وحداناً إن شئتم، سبقتكم إليهم وحدي، فإن قتلوني لا يضركم بشيء، أكون لكم فداءً، وإن نجوت يسير بقية الجماعة كذلك حتى تسير أنت آخرهم، ولا يقدرون إذاً أن يمسكوك بسوء لأن ذلك لا ينفعهم بشيء.

    فلم يصوب الرأي الكاتب بكر لنبار المذكور، فساروا إليهم جميعاً فلما. قربوهم بعث أسكيا محمد كاغ من يستأذن لهم. فبعث الباشا محمود نحو أربعين رجلاً من أعيان الجيش وكبرائهم للقائهم بلا عدة ولا سلاح. فأشار إليه هيكي لهَ بقتلهم فقال: هؤلاء الأعيان إن أفنيناهم لم يبق منهم من له شوكة. فتهيأ أسكيا محمد كاغ لذلك. فلما رآه الكاتب المذكور حلف لأسكيا أنه ليس عند الباشا محمود إلا الأمان التام بعهد الله وميثاقه. فسمع له ذلك وعمل عليه.

    فلما دنوا منه سلموا عليه، وبلغوا له سلام الباشا محمود وأنه يرحب به. فتقدموا قدام أسكيا وأصحابه، وقد أحضر لهم شبائك الخداع والغدرة وأحضر لهم المآكل الطيبات. فلما شرعوا في الأكل قبضوه ومن دخل معه عند الباشا محمود في القباء وجردوهم من أسلحتهم.

    ولما فطن ممن كان وراء الأقبية من أهل سغي هربوا، ومن قدر الله تعالى سلامته سلم وبلغ المأمن عند أصحابهم، ومن وفي أجله قتل بالرصاص وبالسيف. وممن سلم ساعتئذ عمر كت بن كرمن فاري محمد بنكن بن الأمير أسكيا داوود، طلع على حصان أسكيا محمد كاغ فهرب ونجا بقدرة الله تعالى بعد ما رموه بالرصاص كثيراً، وهارون دنكتيا بن الأمير أسكيا داوود هرب ونجا، وجرح اثني عشر نفرة بالسيف فرمى نفسه في البحر وقطعه بالعوم، ومحمد سرك أجي بن الأميرأسكيا داوود وغيرهم.

    أما أسكيا محمد كاغ فقيد في الحديد، وقيد معه ثمانية عشر رجلاً من رؤسائه، منهم هيكي له، وكرمن فاري محمود بن الأمير أسكيا إسماعيل بن الأمير أسكيا الحاج محمد، وفار منذ سن بن الأمير أسكيا داوود، ودند فاري المختار، وكومكي وغيرهم. فبعثهم إلى كاغ عند القائد حم بركة، وقد خلفه على ذلك البل،د وأمره بسجنهم في بيت في دار سلطنتهم. ثم بعد ذلك أمره بقتلهم، وطيح عليهم ذلك البيت، فكان قبرهم، إلا هيكي له وحده. فلما دخلوا المدينة امتنع لهم من الذهاب استعدالاً للموت، فقتل هنالك وصلب.

    وأما علي تند ومحمود فرار أجي ابنا الأمير أسكيا داوود فوصلا في هروبهم كاغ، فأتيا الخطيب محمود درامي فسلما عليه. فسألهما عن سبب مجيئهما. فقالا الدخول في طاعة الباشا محمود. فأنكره عليهما، وأمرهما بالرجوع إلى عند إخوتهما وقومهما. وقالا إن كان والدهما حياً لا يتبعوه رأيه، فأحرى غيره. وأتيا القائد حم بركة وأخبراه بذلك، فكتب للباشا محمود خبرهما، وأمره بثقافهما. فلما قبض أسكيا محمد كاغ بعث له في قتلهما، فقتلهما.

    وأما سليمن بن الأمير أسكيا داوود فقيدوه مع المقبوضين. ثم كلمه أهل الرأي فسرحه وبقي عندهم مع أناس قلال، منهم باركي بلك، ومحمد ولد بنش، ومحمد ولد موركي أمه بنت الأمير أسكيا داوود. وأما محمد ولد بنش وهي اسم أمه من نسل عمر كمزاغ، وأما أبوه فهو محمد بن ماسوس بن بلمع محمد كري، وغيرهم. وأكرم الباشا محمود سليمن غاية الإمكرام حتى جعله أسكيا عليهم. وجملة ما قبض الباشا محمود مع أسكيا محمد كاغ ثلاثة وثمانون رجلاً ما بين أولاد الأمراء وغيرهم. والمحلة في تنش يومئذ، وهو اسم موضع في قرب بلد كوكيا.

    وقيل أن الأمير أسكيا الحاج محمد بن أبي بكر لما غلب على سن علي وتولى السلطنة قبض من أولادهم وخدامهم مثل هذه العدة في هذا الموضع بعهد الله في الأمان. ثم إن الله تعالى القوي القادر اقتصّ منه كذلك جزاء ووفاقاً. وقيل أن أسكيا محمد كاغ ما استأخر في الدنيا بعد وفاة أسكيا إسحاق إلا أربعين يوماً. فاجتمعوا في الآخرة سبحن الحي الدائم الذي لا زوال لملكه ولا نهاية لديموميته.

    وحين بعث محمد كاغ في إطلاق أخويه المسجونين فار منذ المصطفى وبنتل فرم نوح، وهو أصغرهما سناً ونوح صغر من المصطفى سناً، فرحا فرحاً شديداً وعزما متى وصلا إليه يكرمان شأنه، حتى يمشيا قدامه متى ركب في نعليهما. فتلقيا في الطريق بخبر هذه المصيبة، وهو قبضته مع جماعته، فوليا راجعين إلى أرض دند.

    واجتمع عليهما جميع من كان أهل سغي واتفقوا مع نوح أن يولّوا أمرهم فاري منذ المصطفى ليكون أسكيا، ولم يقبل فقال لهم: نوح أفضل وأبرك، والبركة حيثما جعلها الله تكون، لا تختص بالكبر ولا بالصغر. فبياعوه فكل من توجه إلى جهة أخرى من الهاربين ولوا إليه جميعاً. وبقي لا يتمنى إلا محمد مور ومحمد ولد بنش، وهما ما زالا عند الباشا محمود حتى فرج الله عنهما. فهربا إليه، وهرب باركي ملك. ففرح بهم أسكيا نوح فرحاً شديداً وشكر الله تعالى على وصولهما لديه سالمين، فقال: لم يبق لي المنى حيث اتصل بنا هذان الرجلان.

    فجعل الباشا محمود سليمن أسكيا على من بقي معهم من أهل سغي.

    وتحدث الناس أن الكاتب بكر لنبار هو الذي غدر محمد كاغ وأصحابه وباعهم للباشا محمود حتى تمكن منهم. فقال لبعض أصحابه في تنبكت لما سكن فيه بعد جميع الوقائع: هذا الذي نسب إلي من الغدرة فوالله العظيم ما كان، وما أخبرت محمد كاغ إلا ما يعلم الله فيّ من النصح اتكالاً وثقة على ما حلف لي محمود في ذلك، وما غدر إلا هو، فغدرني وما غدر محمد كاغ، والميعاد بيننا جميعاً غداً بين يدي الله تعالى.

    ثم إن الباشا محمود جهز جيشه فتبع أسكيا نوح إلى أرض دند، فوصل معه موصلاً في ذلك حتى إن أهل الأرض كنتَ يسمع أصوات مدافعهم للمقاتلة بينهم في يوم واحد.

    وسكن نوح في أصحابه في أول الحال بلد كعراو آخر بلاد ذلك الأرض ملي إلى حد أرض كنت. ولم يزل الباشا محمود يتبعه بالغزو حتى بنى قصبة في بلد كُلن وأسكن فيه مائتين رامياً، وأمر عليهم الفتى القائد عمار. ومكث في تلك الناحية عامين كاملين غازياً. وجرت بينهما هنالك وقائع كثير شداد.

    وكان يتبع نوحاً في يوم واحد حتى وصل مع جيشه بطحاء واسعة كبيرة جداً، وهم يسيرون في الطريق فانتهوا إلى غابة عظيمة كثيفة، والطريق نافذ في تلك الغابة. فقبض الكاهية باحسن فريد عنان فرسه واقفاً، وهو قسيس حكيم، فبعث إليه الباشا محمود أيش هذا وقوف، وهو يغضب ويصيح ويلومه بالجبن والرعب. فملا دنا إليه قال له: والله إن علمت شعرة واحدة في جسدي بالخوف والرعب لنتفتها منها، ولكن لا أقتحم بجيش مولانا السلطان نصره الله خظراً وغراراً. وأمر أن يرموا الغابة بالدرباش. فلما رمنوها جعل الرجال يخرجون منها هاربين، ومات منهم كثير بالرصاص.

    وأسكيا نوح هو الذي كمنهم فيها لهم حيث علم أنه لا مشرع لهم غير ذلك الطريق ليفتكوا بهم غيلة. فنجاهم الله تعالى من كيده وخديعته بسبب فراسة الكاهية باحسن فريد المذكور. فولجوا الغابة حينئذ وجاوزها بالسلامة. وكانت بينهما في ذلك الأرض معارك هائلة كثيرة. ونال منهم أسكيا نوح مع قلة أتباعه ما لم ينل منهم إسحاق أسكيا مع كثرة أتباعه ولو بعشر العشر.

    ومات من أصحاب الباشا محمود يوم برني نثمانون رجلاً من خيار أرباب الرجل. وحدثني من أثق به أن محموداً جاء يطالع على الموتى بعد ما تفارقوا فأمر بحل حزامهم التي تحت بطونهم فأخرجت دنانير مطبوعات في حزامهم أجمعين، ورفع الباشا محمود الجميع لنفسه.

    وقد تضرروا من طول ذلك المكث في ذلك الأرض تضرراً فادحاً عظيماً من كثرة التعب وامتداد الجوع والتعري والمرض من وخم الأرض. وضرب ماؤه كروشهم وأجراها، ومات منهم كثير منها من غير موت المقاتلة.

    فأول الحال أسكيا نوح هو الذي يقود جيشه بنفسه للقتال وفي آخر الحال ولاه لمحمد ولد بنش، فكان نصر القتال على رأسه، وله في ذلك أخبار مشهورة وحكايات كثيرة. ولما طالت المشقة على الباشا محمود في تلك الناحية كتب للأمير مولاي أحمد مشتكياً بما نالهم من مقاسات الشدائد، وأن جميع خيله ماتوا.

    فصرف نحو ست محلات، واحدة بعد واحدة, التحقت الجميع بهم في تلك الجهات. منهم محلة القائد علي الراشدي، ومنهم محلة القياد الثلاثة القائد بن دهمان، والقائد عبد العزيز بن عمر، والقائد علي بن عبد الله التلمساني. ومنهم محلة القائد علي المشماش وغيرهم. وبعد ذلك كله رجع محمود لتنبكت وما ظفر بالمراد في نوح.

    ولنرجع إلى تمام الكلام في الفتنة التي قامت بين أهل تنبكت وبين القائد المصطفى التركي بعد موت تنبكت منذ يحيى. ولما كثرت الجراحات في الناس من الرماة اشتكى الأعيان بذلك لدي الفقيه القاضي أبي حفص عمر بن ولي الله تعالى الفقيه أبي البركات القاضي محمود ابن عمر، فشاور أصحاب الرأي في ذلك. فمنهم من أشار إلى دفعهم بالقتال إن أدى الحال إلى ذلك، ومنهم من أشار إلى الكف والإمساك، وضررهم لا يزداد إلا كثرة.

    بعث القاضي عمر أمَر خديم الشرع، وهو من أفسق الناس في وقته، ولا علم عند القاضي عمر به، إلى شيخ المولدين عمر الشريف سبط الشريف أحمد الصفلي بليل أن يبرح ساعتئذ أن لا يفرط الناس في أرواحهم ويأخذوا الحذر من هؤلاء الناس. فبدل قوله وقال: يأمركم القاضي بالقيام بالجهاد فيهم. فبرح بذلك في تلك الليل وأصبح الناس متحزمين للقتال مع القائد المصطفى. فابتدأ في أوائل المحمرم الحرام فاتح عام مكمل الأفل، واسمر إلى أوائل الربيع الأول. فمات بينهم في أولئك الأيام من قدر الله تعالى أجله فيها، فمنهم ولد كزنفل الذي تسبب في مجيء محملة جودار، وجاء معه في تلك المحلة، وبقي في تنبكت مع القائد المصطفى. فقتله أهل التنبكت في ذلك القتال.

    فجاء أوسنب التاركي مغشرن كي لمعاونة المصطفى مع أصحابه. فحرقوا جميع البلد بالنار، وذلك في يوم الجمعة الرابع عشر من ذلك الشهر. ثم عاد بذلك غداً فكان يوماً شديداً على أهل تنبكت، وقاربوا ديار القاضي عمر بالحريق. فجاءت واحدة من بناتهم تعدو فقالت له: وصل أوسنب بغزوه إلى باب دار ألفع عبد، وهو أخوه الفقيه عبد الله بن الفقيه القاضي محمود. فقال لها: الله تعالى يعطيه غزواً في باب داره ويسلط عليه أدنى الناس يفتضح به كما افتضح بنا.

    فاستجاب الله دعاءه، فجاءت غزوة توارق كلميني إلى باب خيمته، فدخل عليه واحد منهم فقتله في داخل الخيمة، وهو أدناهم، وذلك في يوم الأحد الثاني والعشرين من شوال عام خمسة بعد الألف. وهو نشأ في ديارهم وقرأ عليهم وكبر عندهم حتى كان واحداً من أولادم. ثم صار إلى ما صار إليه من الغدرة والخيانة، والعياذ بالله من النفاق وسوء الخاتمة.

    وكانت وقعة الجامع الكبير يوم الخميس الرابع من صفر الخير. وخرج الناس لكسر الديار ليلة الأربعاء الرابعة والعشرين من الشهر المذكور. وجاء باري شيغ يوم الجمعة السادس والعشرين منها في أمر المال الذي اصطلح عليها أسكيا مع جودار، وخرج من أمراغ إلى تنبهون يوم الخميس التاسع من الربيع النبوي.

    وبلغ الباشا محمود خبر ما جرا بين أهل تنبكت وبين القائد المصطفى من القتال، وأنهم حاصروه مع أصحابه في القصبة، أرسل بذلك القائد المصطفى مع مالك والد محمد در. فبعث القائد مامي بن برون في ثلاثمائة وأربعة وعشرين رامياً، اثنان من كل قباء، ولا علم عند أحد منهم بذلك حتى وصلوا تنبكت.

    فأمره أن يجعل السبيل في أهله وإن يقتلهم عن آخرهم، وهو رجل عاقل لبيب قسيس. فوصلوها ليلة ثانية عشر من ربيع الأول ليلة الولادة. فكان خوفاً عظيماً في البلد، وخرج كثير من الناس رامين أنفسهم في الصحارى والقفار.

    فأصلح القائد مامي ما بين القائد المصطفى وبين أهل تنبكت، فكان فرحاً عظيماً للناس، ورجع للبلد كل من خرج منها هارباً. ورجع رئيس المرسى منذ الفق ولد زرك بجميع القوارب. ودخلوا في بيعة السلطان مولاي أحمد بسبب هذا الصلح. وفتح الطريق إلى الآفاق، ودخل الناس في حوائجهم. ومن أراد السفر إلى جني وإلى غيره مشى إليه.

    ثم إن القائد مامي تحرك إلى الزغرانيين أهل يرو، فغار عليهم وقتل رجالهم وأتى بنسائهم وصبيانهم إلى تنبكت وباعوهم بمائتين ودعاً إلى أربعمائة ودع.

    ثم بعث القائد المصطفى شاوش واحداً إلى جني في قارب زنك درج لأخذ البيعة من أهله. ووافق وفاة جنكي ويبعلي، فقام بها جني منذ بكرن، وهو حاكم أسكيا على البلد، والقاضي بنب كناتي، وشم وتاكر قائدان من قياد جنكي، وأعيان البلد من الفقهاء والتجار، فكتبوا بقبول تلك البيعة للقائد المصطفى وللقائد مامي.

    ثم بعد ذلك بعثا الرئيس عبد المالك وسبعة عشر رامياً لتولية جنكي، فجعلوا إسماعيل بن محمد جنكي، ومكث في السلطنة سبعة أشهر فمات. ومكنهم الله تعالى من الخاسر الأبعد بنكون كند، وهو من المفسدين في الأرض حينئذ. فأتي به إليهم فقتلوه في دار جنكي، ورجعوا لتنبكت.

    وأما ويبعلي المذكور، فاسمه أبو بكر بن محمد، مكث في السلطنة ستاً وثلاثين سنة، وتزوج كاس ابنة الأميرأسكيا داوود، فكانت في عصمته إلى أن توفي.

    ثم جاء القائد مامي بنفسه إلى جني، ونزل في دار جنكي، وولى عبد الله ابن عثمان سلطنة جني، وأصلح من أمور البلد ما أصلح، فرجع لتنبكت. وتلقى في ذهابه إلى جني مع الحاج بكر بن عبد الله كري السناوي ذاهباً إلى تنبكت في طلب عزل القاضي محمد بنب كناتي، مع اتفاق أعيان مدينة جني، عند القاضي عمر. فنهاه عنه القاضي عمر أشد النهي. فرجع إلى جني وأدرك القائد مامي فيه، فاشتكوا به عنده وادعوا عليه الجور. فعزله مامي المذكور وجعلوه في بيت، وسدوا بابه إلا كوّة التي يمدون له الماء والطعام منها تعذيباً له. والذين يعرفون حقيقة الأمر يومئذ في ذلك البلد من أهل العقول قالوا أن ذلك الدعوى باطل، وولى القضاء القائد مامي واحداً من أهل الغرب اسمه أحمد الفلالي.

    فبعد ما رجع لتنبكت جاء باغن فاري بكر ابن أسكيا محمد بنكن من أرض كلَ إلى جني، ومعه ابنه ماربا وابن أخيه شيش وبندك ياو ولد كرسل وورر منذ، في أناس قليل، فنزلوا في قبالة باب زبر، والماء تحت القصر يومئذ. واستأذنوا أهل البلد في الدخول فيه. فلم يقبل جنكي وجبني منذ، وخافوا أن يحركوا عليهم الفتنة. فألّجوا في طلب الدخول فذكروا أنهم ما جاءوا إلا لأجل الدخول في بيعة الأمير مولاي أحمد. فبعث لهم أهل جني حبيب ترق بالمصحف وصحيح البخاري أن يحلفوا بهما أنهم ما جاءوا إلا لذلك. فحلفوا عليه ودخلوا.

    فلما باتوا في البلد أول الليلة اجتمع عليهم السفهاء فبدلوا قولهم وتعاقدوا معهم على الرجوع إلى بيعة أسكيا. سمي منهم محمد ولد بنياتي وسرسكر وكنكن دنتور. فبعد يومين أو ثلاثة أيام قبضوا جني منذ بكرن وأكلوا ما في داره من الأموال، وقبضوا القاضي المغربي وحددوهما وبعثوا بهما إلى مدينة بلد من بلاد أرض كلَ، وخربوا البيت الذي فيه الفقيه القاضي محمد بنب، وأخرجوه وأمروه أن يمضي إلى أينما أحب من البلاد، فمضى إلى عند سلطان تعب ومكث هنالك إلى أن توفي، رحمه الله تعالى وعفى عنه بمنه وكرمه. وقيل ليس له شغل في ذلك السجن إلا تلاوة كتاب الله تعالى أناء الليل وأطراف النهار، فظهرت له كرامة يوم خروجه منه، لأنه ما رؤي في ذلك البيت أثر قضاء الحاجة، لا من بول ولا من غائط.

    وولوا القضاء يومئذ زور موسى داب، فأثبته أهل المخزن بعد فرارهم. ثم عزموا على قبض أحباب أهل المخزن من التجار وأكل أموالهم. فسجنوا [فسموا] منهم حام سن سكر السناوي، وذكروا أنه الأعظم الأكبر عندهم، فعزموا على ذلك ليلة عند السحر في دارهم. فلما خرج محمد ولد بنياتي وسر سكر من عندهم طرقوا فج مابي جارية حام المذكور، وأخبروها بذلك سراً وأمروها أن تخبره به. فأخبرته به، وأخبر هو أخاه الحاج بكر به. فاحتال في الزويرقة، وخرج بالليل خفية، فتوجه إلى تنبكت هارباً.

    وفي غداً انكشف خبره، فبعث باغن فاري أناسه في إثره في قارب فنف بامعي فير فير ليرددوه إليه. فنادى الحاج بكر الفنف المذكور في داره وأعطاه مالاً لئلا يتعجل في المسير حتى يصل أخوه المأمن، فأنعم له. فلما قاربوا بلد ونزع، على شوفة رأى قاربهم حام المذكور، وهو راسٍ، ثم ساعتئذ دفع بعجلة واجتهد في المسير. فلما وصلوا هنالك سألوا عنه. فأخبرهم واحد تنبكتي قد عامله حام بخير كثير حينئذ أن قاربه دفع هنا في هذه الساعة، إن جزتم لوصلتموه بقرب. فسمع بذلك ونزع مور فأتاهم، فقال لهم: ارجعوا لأن الرماة سمعوا بخبركم فاستأخروا في بلد كنا ينتظرونكم ليقتلوكم، وأخبروا باغن فاري أنا الذي أمرتكم بالرجوع. فرجعوا وكفاه الله تعالى شرهم بسبب ونزع مور المذكور الذي أراد ذلك التنبكتي أن يصيبه ذلك.

    ففعلوا في جني أولئك الأيام ما فعلوا من الفساد والطغيان، حتى أن الجمعة الواحدة وقت الظهر حيث اجتمع الناس جاءوا على خيلهم في الجامع متحزمين وأصلحتهم في أيديهم، وحلفوا لا يصلي أحد حتى يبايعوا أسكيا ويخطب الإمام باسمه على المنبر. فقال لهم الأعيان: هذا محال، لا يمكن ولا يجوز في الشرع. فلا يزدادون إلا تمرداً وعناداً إلى وقت اصفرار الشمس. فقال لهم الأعيان: اصبروا حتى نسمع ما جرى بين الباشا محمود وبين أسكيا، لعل يغلبه ويرجع الأمر إلى أصله، فحينئذ سكن شرهم. وصلى الناس الجمعة.

    ثم وصل حام تنبكت وأخبر القائد المصطفى بخبرهم، فعزم على الحركة إليهم في جني نفسه. فقال له القائد مامي اسكن في قصبتك، وأنا أكفيك ذلك. فسار إليهم في ثلاثمائة رماة مختارين.

    فلما قاربوا البلد بعث لهم جنكي عبد الله صلح تافني وتاكر أنس مان وهديته من الكور، وأمرهم بالقدوم بعجلة. فتبعهم سنقركي بوب ول بير وتلقاهم ماسنكي حمد أمنة في جني. وقيل حبيب ولد محمد أنباب هو الذي كتب له على لسان القاضي عمران، يسير مع القائد مامي حيثما سار، ويكون له معيناً ناصحاً. ولذلك تلقاهم بنفسه بعجلة.

    وسمع باغن فاري خبر هؤلاء المراسيل، فجعل الحرسة على أبواب السور ليقبضوهم متى رجعوا. فدخل صلح تافني بباب شم انزوم فكفاه الله شر الحرمسة، ولم يروه. فدخل تاكر بباب السوق الكبير فقبضوه وسجنوه ليقتلوه. فبكر القائد مامي بالوصول، فاشتغل باغن فاري وأصحابه بأنفسهم، وبادروا بالخروج والهروب، ونسوا تاكر وهربوا إلى ناحية بلد تير. فترك القائد مامي أربعين رامياً على مدينة جني وأمر عليهم علي العجمي، وجاز هو على حاله إليهم، ومعه جنكي عبد الله بجيشه وسلطان ماسنة وسلطان سنقر بوب ول بير بجيشهم، ووصلوهم في بلد تير، وتقاتلوا هنالك. فرمى ماربا ولد باغن فاري قارب لقائد مامي في البحر، وهو فيه، بالحريش، فانشق من رأسه إلى مؤخره، فخيطه القدافون في ذلك البحر، وعدلوه في طرفة عين.

    ثم بعد ذلك كله هزمهم، وشتتوا شذر مذر. وهرب باغن ناري وأولاده إلى بندك، وانتهوا إلى بلد تارندكي. فقبضهم وقتلهم، وبعث برأس باغن فاري وبندك ياووور ومنذ وكف ماربا إلى جني. فبعث أهل جني الرؤوس إلى تنبكت عند القائد المصطفى، وعلقوا الكف وراء القصر في طريق دبر.

    وبعث جنكي عبد الله عند أهل مدينة في أمر جني منذ بركن والقاضي المغربي، فردوا منذ بكرن لجنكي. وأما القاضي فوجدواه الحال قد توفي هنالك رحمه الله تعالى. ولما عزم القائد مامي على الخروح من تنبكت لهذا الغزو، وأمر القائد المصطفى حام الذي جاءهم بالخبر أن يرجع معه. فمشى بقاربين من الملح، ووجد قد فرغ في جني بالكلية، فباعه وربح فيه ربحاً.

    ثم رجع القائد مامي لتنبكت وقد استقام الحال بحيث لم يبق في تلك الناحية ما يشوش البال والحمد لله الكبير المتعالي وبقي علي العجمي حاكماً على مدينة جني المحروسة، وهو أول حاكم لأهل المخزن فيها.

    الباب الثالث والعشرون

    ذكر حروب الباشا محمود بن زرقون

    تنبيه: ومكث جنكي عبد الله المذكور في سلطنته عشر سنين، قيل وشهرين.

    ثم تولى بعد وفاته جنكي محمد بن إسماعيل، فبكث فيها ستة عشر سنة وخمسة أشهر، فعزله الباشا علي بن عبد الله التلمساني، وأمره بحبسه في جني، فلبث في السجن سنة واحدة فيه، وفي مدينة تنبكت سنتين.

    وتولى مقامه جنكي أبو بكر بن عبد الله ثلاث سنين، ثم خرجه من السجن الباشا أحمد بن يوسف عند ولايته، ورده لسلطنته في جني، ومكث فيها ثلاث سنين، فتوفي يوم الأحد وقت الزوال خمسة عشر من شوال عام تسعة وعشرين بعد ألف.

    ثم تولى جنكي أبو بكر بن عبد الله المذكور بعد وفاته، فمكث فيها سبع سنين، وتوفي سنة ست وثلاثين وألف في زمن ولاية القائد يوسف بن عمر القصري في تنبكت.

    ثم تولى حنكي محمد كنبر بن محمد بن إسماعيل، ومكث فيها ثمانية عشر شهراً، فعزل.

    وتولي جنكي أبو بكر بن محمد، ومكث فيها ثلاث سنين، ثم قتله القائد ملوك بن زرقون صبراً عشية الخميس الثالث عشر يوماً من جمادي الأولى عام الثاني والأربعين والألف.

    ثم رجع فيها جنكي محمد كنبر المعزول، ومكث فيها سنتين غير ثلاثة أشهر، فعزله الباشا سعود ابن أحمد عجرود عند مجيئه إلى جني في آخر يوم من ذي الحجة الحرام مكمل عام ثلاث وأربعين وألف.

    وولاها جنكي عبد الله ابن أبي بكر المقتول في أول يوم من المحمر الحرام فاتح عام الرابع والأربعين والألف، ومكث فيها ثماني سنين غير شهرين، وتوفي صبيحة يوم الفطر يوم الجمعة أحد شهور عام الحادي والخمسين والألف، وصلي عليه في المصلى.

    ثم رجع فيها محمد كنبر المعزول أيضاُ، ومكث فيها سنة وثلاثة أشهر، ثم عزل.

    فتولاها أخوه جنكي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل في مهلّ يوم الاثنين الثالث من المحرم المذكور الحرام في فاتح عام اثنينين وستين وألف، عزل.

    فتولاها أخوه جنكي أنكبعلي بن محمد إسماعيل بهذا التاريخ، وهو الذي فيها اليوم.

    وبعد ما رجع القائد مامي من غزوة باغن فاري جاء أبو بكر ولد الغنداس التاركي من رأس الماء لقتال القائد المصطفى في تنبكت. فلما قرب البلد تحير المصطفى كثيراً من أجل عدم الخيل، ولم يكن عندهم يومئذ إلا حصان واحد للقائد وحده، وهو في غم ذلك الحال إذ جاءه الخبر بوصول القائد علي الرشدي بير تحنات، وهي على مسافة يوم للبلد، ومعه ألف وخمسمائة رماة من أصحاب الرجل وخمسمائة من أصحاب الخيل، ومعه أيضاّ خمسمائة خيل مطلوقيه، بعثهم من أجل مكاتبة الباشا محمود له من موت جميع خيلهم في أرض دند.

    بعث القائد المصطفى أمنير ولد الغزالي ساعتئذ ليبادر لهم بالخيل عاجلاً سمرعاً، فجاء بهم في الوقت المختار، فكان لهم فرجاً بعد شدة. فخرج للقاء التاركي المذكور. وقد وصل بير الزبير عشية ذلك اليوم، ومعه أصحابه من التوارك وكثير من الصنهاجيين أولي الضفائب والزغرانيون، ومعه أيضاً مام ولد أمر ولد كبر وأخوه أحمد، فسكنا عنده لما هربا من التنبكت بعد وقعة القائد المصطفى.

    فتلقيا عند البير المذكور فأول من مات بينهما مام ولد أمر المذكور وهو-والعياذ بالله-في أيام دولتهم ظالم كبير فاسق معتد، فضرب بالرصاص ساعتئذ فمات. فتحيز منهم أبو بكر التاركي، فتبعوه إلى ربوة نانا زرقتان، فولى علي القائد المصطفى والسيف مسلول في يده، فلما أراد أن يوقعه فيه حال إدريس الأبيض بينهما بالترس وقطع ترسه بذلك السيف حتى أصاب واحداً من أصبعه فقطعه. ثم إن الله تعالى نصر القائد المصطفى عليهم، فانهزموا وهربوا وقتلوا كثيراً من أصحاب أبي بكر التاركي. ولما وصلوا رأس الماء قتلوا بن داوود وجميع من معه من الرماة الذين بنوا القصبة هنالك، وهو إحدى وسبعون رامياً، فبقوا على المخالفة.

    ثم جاز القائد علي الراشدي أرض دند مع محلته. ثم جاء القائد بن دهمان والقائد عبد العزيز ابن عمر والقائد علي بن عبد الله التلمساني في أربعمائة رماة يشتركون فيهم. فحازوا على حالهم إلى عند الباشا محمود حتى اتصل به في تلك الأرض نحو ست حملات كما مر.

    أما القائد علي بن عبد الله التلمساني فأبوه عبد الله من أكبر قياد السلطان في مدينة فاس، فلما توفي قام ولده علي بن عبد الله مقامه في القيادة، وهو شاب يومئذ، فاشتغل بالرذالة من شرب الخمر وغيره حتى سقط قدره بين الناس، ولكن له ركن قوي عند السلطان، وهوابن أخته التي تحت القائد عزوز، ولذلك ما امتحى اسمه بالكلية. ثم بعثه السلطان إلى السودان وهو ثالث ثلاثة في القيادة، ولم تنفرد له القيادة إلا بعد موت صاحبيه، فخرج بعد ذلك عجب العجائب حتى تتمثل به في الشدائد والصعاب. فكم غزوات حضرها وكمات حصرها وأعداء أهلكها ومساكن خربها وسلكها وبلاد فتحها وفساد أصلحها وثغور حرسها وغرور اقتحمها وأنسها، واستغل بذلك سنيناً وعواماً حتى هدن الأرض ولا تسمع إلا: قيلاً وسلاماً سلاماً.

    ثم بعث الباشا محمود بن زرقون وهو ما زال في أرض دند للقائد المصطفى أن يقتل الشريفين محمد الشيخ محمد بن عثمان وبابا بن عمر سبطي الشريف أحمد الصقلي. فقتلهما في السوق شر قتلة على يد الحاكم علي الدراوي، وشاوش الكامل هو الذي باشر القتل، فقطع أيديهما وأرجلهما بالفأس، وتركهما هنالك معذبين حتى ماتا في تلك الحالة: إنا لله نإنا إليه راجعون، وذلك في يوم الخميس التاسع من الحمرم الحرام فاتح العام الأول بعد الألف، لأنه استهل بالأربعاء وهو خامس يوم من أكتوبر، ودفنا في قبر واحد في جوار سيدي أبي القاسم التواتي. فغيمت السماء يومئذ وأغبرت الهوى بغبار أحمر. وهما من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وماتا شهيدين، رضي الله عنهما ورحمهما فشلّت يدا القاتل المذكور إلى أن توفي، والبتول خصيمهم غداً عند الله تعالى.

    وفي شهر الصفر في العام المذكور بعث الفقيه القاضي أبو حفص عمر بن ولي الله تعالى الفقيه القاضي محمود بن عمر رحمهم الله تعالى ونفعنا ببركتهم شمس الدين ابن أخيه القاضي محمد بكتابه إلى الشيخ المبارك سيدي عبد الله بن مبارك العاني، ومعه ألفع محمد ولد إددر وألفع كنبعلي ليطلب لهم العفو من الأمير مولاي أحمد مما صدر منهم من الفتنة مع القائد المصطفى، وأن قومه هم الذين ابتدأوا فيها وأنهم في طاعة الله ورسوله ثم في طاعته.

    فخرجوا من تنبكت بعد صلاة الظهر يوم الأربعاء العشرين من الشهر المذكور. فلما وصلوا عند السيد المذكور ركب معهم إلى مراكش عند الأمير، ولم يمش إليه قط. وبلغوه كتاب القاضي الذي اعتذر فيه بما اعتذر، وشفعه السيد، فقبل شفاعته فيهم، ورجع إلى بلده. فأكرم المراسيل غاية الإكرام وأجرى لهم الإقامة العجيبة الفاخرة وأمسكهم عاماً. ثم سافرهم مع القائد بو اختيار.

    البال الرابع والعشرون

    ذكر الباشا محمد طابع

    والنرجع إلى ذكر رجوع الباشا محمود إلى تنبكت. وقد تقدم أنه استأخر في أرض دند عامين في المحاربة مع أسكيا نوح. فرجع ولم يظفر بمراده فيه. فكتب للقائد المصطفى قبل مجيئه أن يقبض القاضي عمر وإخوته حتى يجيئ. فكتب له أنه لا يقدر على ذلك: امهل حتى تقدم أنت بنفسك.

    فلما قدم رام ذلك. قال له أصحاب الرأي: امسك عنها حتى تنتقم من أبي بكر ولد الغنداس وأعوانه الذين قتلوا بن داوود وأصحابه. فعزم إليهم وهرب أبو بكر وباعد منه. فجعل فتكاً عظيماً في الصنهاجين، وقتلهم قتلاً شديداً، حتى ظن الناس أنه لم يبق منهم باقية. وغنم من تلك الناحية مالاً كثيراً.

    فرجع لتنبك. وقد تخلف الباشا جودار وراءه في مدينة كاغ حين رجع من دند، واستأخر هو في الطريق حتى بنا قصبة بنب، وأسكن فيها الرماة، وجعل عليهم القائد المصطفى بن عسكر.

    فلما وصل تنبكت في قفوله من رأس الماء في قتال الصنهاجين شرع في تدبير قبض الفقهاء أولاد سيد محمود رحمه الله ونفعنا به. فكان حبيب ولد محمود أنباب من أكبر أعوانه وأهل رأيه حينئذ. فأول ما بدأوا به من رأيهم أنهم برّحوا في البلد أن الباشا يدخل في ديار الناس غداً فأي دار وجد فيها السلاح فلا يلوم ربها إلا نفسه، إلا ديار الفقهاء أولاد سيد محمود فقط. فهرب الناس بأموالهم إلى عندهم في ديارهم على وجه الوديعة ظناً منهم متى رأى المال في أي دار ساعة التفتيش يأكلها ظلماً وعدواناً. فهذا عين المراد في رأيهم ذلك. فدخلوا ديار البلد غداً وفتشوها جميعاً.

    ثم برح بأن يجمع الناس كلهم غداً في جامع سنكري للحلوف على بيعة السلطان مولاي أحمد. فاجتمع جميع الناس، فحلف التواتيون والفزانيون والوجليون ومن جانسهم في اليوم الأول، وهو يوم الاثنين الثاني والعشرون يوماً من المحمر الحرام فاتح العام الثاني بعد الألف. ثم حلف الولاتيون والودانيون ومن جانسهم في اليوم الثلاثاء الثالث والعشرين منه.

    فقال لم يبق إلا الفقهاء يحضر الناس لهم غداً حتى يحلفوا. فلما اجتمع الناس في الجامع غداً غلقت الأبواب وأخرج الناس إلا الفقهاء وأصحابهم وأتباعهم. قبضهم جميعاً الباشا محمود بن زرقون يومئذ، وهو يوم الأربعاء الرابع والعشرون من المحرم فاتح عام الثاني بعد الألف، وأسرهم وأمر بهم إلى القصبة فريقين، فريق ذهب بهم في وسط البلد وفريق ذهب بهم خارج البلد من جهة القبلة.

    وفيهم الشهداء الذين قتلوا يومئذ وهم سائرون حتى وصلوا حومة زم كند، استلّ واحد من الأسارى وهو ونكري يقال له أندف سيف واحد من الرماة فضربه به. فقتلوا ساعتئذ أربعة عشر رجلاً من الأسارى، تسعة من أهل سنكري: العلامة الفقيه أحمد معيا، والفقيه الزاهد محمد الأمين بن القاضي محمد بن سيدي محمود، والفقيه المصطفى ابن الفقيه مسراند عمر، ومحمد بن أحمد بير بن الفقيه سيد محمود، وبوز ابن أحمد أد عثمان، ومحمد المختار بن معيا أشار، وأحمد بير بن محمد المحتار ابن أحمد أخ ألفع صلح تكن وهو ابن أخ مسر أند عمر، ومحمد سر بن الأمين والد سن ومحمود كروكر من أهل حومة كابير، وبرهم بُيدل التواتي الخراز وهو من أهل كُير كن، واثنان ونكريان: أندف الذي تسبب في هذه المصيبة، وأخوه-وحرطانيان لأولاد سيد محمود فضل، وشينون الخياطان.

    فانتهى القتل إلى محمد بن الأمين كانوا، وهو في ذلك السير، فقطعه أخ القائد أحمد بن الحداد فحمله على فرسه وهرب إلى داره فسلم. وبلغ الخبر الباشا محمود وهو ما زال في المسجد فقال: ما أمر به. وبعث لهم النهي عن العودة على مثله.

    وأما القاضي عمر فهو شيخ كبير يومئذ، وبه وجع الظهر ولا يقدر على المشي، فركبوه فنيشاً، هو والزاهد سيدي عبد الرحمن أخوه في الفريق الذي مضوا في وسط البلد. وجميع من قبضهم الباشا محمود ربطوا في السير إلا إياهما.

    وهذا القتل كان بقرب دار أمرادش، وهو حرطان من حراطين البلد. فأمر بدفن هؤلاء الموتى في داره. وجمع الفقيه أحمد معيا والفقيه محمد الأمين والفقيه المصطفى في قبر واحد، والعلامة الفقيه محمد بغيغ هو الذي قام بتجهيزهم. فخرج أمرادش المذكور من تنبكت راحلاً، فسكن في بلد شيب إلى أن توفي.

    فلما سمع الزاهد السيد عبد الرحمن فقال: من أهل بيتهم من يصيب هذا السوق إليوم إلا محمد الأمين. ولما سمع بموت فضل فيهم فقال: فضل صاب هذا السوق قد فاز.

    ثم دخل الباشا محمود الباشا محمود في ديارهم، فرفع جميع ما فيهم من الأموال والمتاع والأثاث اللاتي لا يحصيها إلا الله، ما بين أملاكهم وأملاك سائر الناس من الودائع. ونهب أتباعه ما اتصلوا بها، وكشفوا عوراتهم، وجردوا حرائرهم، وفعلوا بهن الفواحش، وذهبوا بهن إلى القصبة مع الرجال، وسجنوا فيها ستة أشهر. وأفسد الباشا محمود جميع المال أشتتها شذر مذر، وتكرم بها للرماة، ولم يبعث للسلطان مولاي أحمد إلا مائة ألف ذهباً.

    ثم سمع الباشا محمود وهو في تنبكت أن الفتى القائد عمار وأصحابه الذين تركهم في قصبة كلن نالهم ضرر عظيم من أسكيا نوح. فبعث لهم القائد مامي بن برون في القوارب ليرحلهم إلى تنبكت. فلما وصلهم ما وجد كيف يدخل عليهم من باب القصبة لأجل مضايقة أصحاب أسكيا نوح عليهم. فأتاهم القوارب في البحر من وراء القصبة، وكسروا القصبة من تلك الجهة. فدخل القارب منها، ودخل القائد عمار في قارب فنف سعيد دغا، فوصلوا تنبكب معافين.

    قال فنف المذكور: لما طرد أهل جني سلطان ملي بعد رجوع الباشا جودار إلى مراكش، والقائد عمار المذكور هو باشا يومئذ. بعثوا البشارة له صحبة شاوش مسعود اللبان في قاربه. قال: لما وقفنا بين يديه قال: ألستَ الذي حملتني في قاربك حين ارتحلنا من قصبة كلن؟ قلت: نعم أنا هو. عرفت حينئذ أنه ثابت الذهن حديد العين.

    وفي القابل من مشي مراسيل القاضي عمر إلى مراكش، بعث الأمير السلطان مولاي أحمد القائد بو اختيار إلى تنبكت في شهر الصفر والله أعلم في العام الثاني بعد الألفب، بعد قبض الفقهاء بقليل، وهو علج نصراني أشمر اللون جميل الخلقة ولد سلطانهم، أمه جارية يغيره إخوانه بأمه. فلما تكرر ذكل هرب إلى المسلمين في مراكش عند مولاي أحمد. بعث أبوه في شرائه مالاً كثيراً، فلما حصل المال عند مولاي أحمد أسلم هو. فقال السلطان: هذا رزقك كله حلالاً طيباً، وعاتهم في مثل هذا أن المال لا يرجعون إليه.

    الحاصل كتب كتاب أمن للقاضي عمر، وجعل المراسيل صحبة القائد بو اختيار، وأمره أن يكلم الباشا محمود أن لا يتعرض لهم بسوء، وهو قد كتب قبل له أن يقبضهم ويصرفهم إليه في القيود، ولا علم عند أحد بذلك من خدامه.

    فلما وصلوا بلد تغاز سمع القائد بو اختيار جميع ما جرى عليهم على يد محمود بن زرقون، فنادى شمس الدين بالليل وقال له: مولاي أحمد غدرني وغدركم. فأخبره بما جرى في أهل بيته، وأمره أن يحتال في خلاص مهجته. فذهب إلى عند عيسى بن سليمن البربوشي شيخ أولاد عبد الرحمن، وخيامهم وراء تغاز يومئذ، فدخل في حرمته، وطلب منه أن يوصله إلى بلد واد. فوصله هنالك بنفسه كما أراد، فسكن فيه إلى رجوع العلامة الفقيه أحمد بابا لتنبكت. فصرف له، فجاء وسكن معه فيه قليلاً، فمات رحمة الله عليه.

    وأما محم ولد أددر فأمسك براءة أمن من مولاي أحمد، حتى بلغه للباشا محمود بنفسه مع القائد بو اختيار لما وصلوا تنبكت في المحلة التي معه، وهي ألف مائتان رامياً، ستمائة من أهل ماسة كانوا مع بو اختيار، وستمائة من أهله حاحة كانوا مع الحسن بن الزبير. وأمرهما بالتفرقة في مسيرهم لئلا يزدحموا على الماء عند الورود. فأينما ظل بو اختيار يبيت، ثم الحسن بن الزبير، حتى وصلوا تنبكت. فسبق بو اختيار بالدخول. هذا أول مرة استخدم السلطان أهل ماسة وأهل حاحة عوضاً من إداء المطلب والوظيفة. ومعهما القائد عبد المالك، وهو قد جاوز إلى مدينة كاغ وسكن فيها.

    ثم شرع الباشا محمود في تسقيط الفقنهاء إلى مراكش بعد تأخرهم في السجن نحو خمسة أشهر. ومشوا جماعة كثيرة أباءً وأولاداً وحفائد ونساء ورجالاً في رفقة الكنانة في يوم السبت الخامس والعشرين من جمادي الأخرى في العام المذكور. ومشى معهم الكاهية باحسن فريد والقائد أحمد بن يوسف العلجي وغيرهم. أما باحسن فريد فقد مات في المطريق. وسبب ذلك شرعت الرفقة يوم موته في أمر الرحيل، فجاء إلى ولي الله تعالى الفقيه الزاهد السيد عبد الرحمن بن ولي الله تعالى أبي البركات الفقيه محمود، وهو يتوضأ، فركضه برجله وأمره بالقيام قبل الفراغ من الوضوء. فقعد حتى أتم وضوءه، ثم ركب راحلته. وركب فريد المذكور، فمن قليل نقر به الجمل ورماه على الأرض، فانكسر عنقه، مات في ساعته.

    ولما رأوا مدينة مراكش عند وصوله إليها دعا عليهم الفقيه القاضي أبو حفص عمر بن الفقيع محمود فقال: اللهم كما شوشونا وأخرجوا من بلادنا، فشوشهم وأخرجهم من بلادهم. فاستجاب الله دعاءه عليهم، فكان دخولهم في ذلك البلد فتح أبواب البلاء فيه.

    فبعد ما خرج الفقهاء من تنبكت رحل الباشا محمود بن زرقون سوق البلد إلى باب القصبة، فكان ذلك يوم الخميس السادس من شعبان في العام المذكور. فدخلوا في مراكش أول يوم من رمضان في العام المذكور على ما ذكر العلامة أحمد بابا-رحمه الله ونفعنا به-في كتاب ذيل الديباج. قال فيه: ثم امتحن في طائفة من أهل بيته بثقافهم في بلدهم في محرم عام اثنين وألف على يد محمود بن زرقون لما استولى على بلادهم، وجاء بهم أسارى في القيود، فوصلوا مراكش أول يوم من رمضان من العام المذكور، واستقروا مع عيالهم في حكم الثقاف إلى أن انصرم أمر المحنة، فسرحوا يوم الأحد الحادي والعشرين لرمضان عام أربعة وألف، ففرحت قلوب المؤمنين بذلك، جعلها الله كفارة ذنوبهم انتهى.

    وقد رجع القائد أحمد بن الحداد من تنبكت إلى مراكش خفية بحيث لم يعلم الباشا محمود بذلك، ومشى على طريق ولات، فأخبر السلطان مولاي أحمد بما فعل محمود من التعديات، حتى قال أنه لا يعرف إلا سيفه، وحتى من نصر السلطان في نصرته يسل شيءً من سيفه يقول: هذا. فغضب السلطان غضباً شديداً فقال: رحعت لا أنصر في السودان إلا بسيف هذا الملعون. فلما وصل لديه مراسيله مع الفقهاء، وسمع ما رفع في ديارهم من الأموال التي لا نهاية لها، ولم يبعث له منها إلا مائة ألف مثقال ذهباً، ازداد غضباً على غضب.

    فكتب للأمين القائد حم حق الدرعي أن يأتي إليه، وأمر نفاس الدرعي أن يقوم مقامه. فلما وصل إليه القائد حم حق عرض عليه الجرائد رأى فيها كثيراً من الأموال، فسأله عنها بعد ما دفع له ما معه منها. فأخربه أن الباشا محمود قد أفسده وشتته إشتاتاً.

    وسمع من العارفين أن حم حق ما دفع له ما معه بكمالها، بل سرق منها عشرين ألفاً ذهباً ودفنه تحت الأرض في جنانه في درعة. فقبضه وسجنه، وكتب للقائد الحسن بن الزبير في تنبكت أن يكون أميناً، وأن يمشي نفاس إلى مدينة جني فيكون أميناً هنالك. فبقي حم حق في السجن إلى أن توفي فيه، وانكشف عنه الذهب المسروق بعد موته، فاتصل بالسلطان يقدرة الله وإرادته.

    ثم إن الباشا محمود تجهز ورجع لمحاربة أسكيا نوح ثانياً. وقد خرج من أرض دند وتحول إلى أرض الحجر. وقبض من القائد بو اختيار جميع ما معه من الرماة وذهب بهم معه. وتلقى مع الباشا جودار في كنكربو جائياً من مدينة كاغ، وعرض عليه الذهاب معه. فطلب منه حتى يصل تنبك ويستريح فيه قليلاً، فحينئذ يلتحق به. فبلغ أرض الحجر وفتح هنبر ودعنكا وما في أحوازهما.

    ثم إن السلطان مولاي أحمد بعث القائد منصور ابن عبد الرحمن إلى أرض السودان برسم قبض محمود بن زرقون وقتله وإهانته. فبعث له ولده مولاي بوفارس مرسولاً معجلة وسرعة أن يخبره بما يأتي به القائد منصور بن عبد الرحمن، وأمره أن يحتال لنفسه قبل أن يصل إليه. فلما بلغه الخبر وعلم بحقيقته، لأنه خديم مولاي بوفارس خاصة دون أولاد مولاي أحمد، توجه بجيشه إلى حدر المن وال، وفيهم أسكيا سليمن، فنزلوا تحت الحجر. فلما جن الليل عزم على الطلوع إلى الكفار. وامتنع أسكيا سليمن من ذلك، وقال: الحجر لا يطلع عليه في ليل للمقاتلة. ولا يعلم أنه يريد الهلاك لنفسه ولهم أجمعين.

    فلما كان آخر الليل ذهب إلى الكفار في أربعين رامياً وعشرة من أهل تنبكت المولدين، ولا خبر عند الجيش إلا أصوات المدافع يسمعونها تخبط فوق الجبل عند طلوع الفجر. ففرعوا وأسرعوا إلى موضع قباه، فلم يجدوه فيها، فتوجهوا نحوا الجبل. فتلقوا من نجا من أصاحبه، وأخبروهم أنه مات وقائد كاغ القائد علي بن المصطفى ومن قدر الله موته معهما. فلما رموه بالنشاب وطاح على الأرض احتمله أولاد تنبكت على أعناقهم ليأتوا به إلى الجيش، ضايق عليهم الكفار فرموه وقطعوا رأسه، وبعثوه لأسكيا نوح، وبعثه أسكيا نوح لكنت سلطا كب، فأقامه في عود في سوق ليك زمناً طويلاً. فرجع أسكيا سليمن بالجيش مجدّاً بهم في السير خوفاً من لحوق الكفار بهم، حتى وردوا بحر بنك.

    وقبل أن يموت جاءه مغسرن كي أوسنب بابنه أكنزر فطلب منه أن يولي أكنزر على قبيلته في رأس الماء، ويوليه هو على الآخرين الذين في جهة القبلة. فرضي ذلك له، وقسم مطلبهم الذي هو ألف مثقال من قديم عصر على الطائفتين، خمسمائة مثقال على هذا وحمسامائة مثقال على هذا، فثبت الحال على ذلك.

    ثم جاء الجيش إلى عند جودار، فسكن بهم في جزيرة زنتا حتى وصل القائد منصور مدينة تنبكت، فدخل فيه الخميس أول يوم رجب القرد عام ثلاثة بعد ألف. فتلقاه الباشا جودار في أبراز، ونزل بمحلته جنان جعفر فابتنى فيها مشورة. ثم جاز إلى الحجر في أخذ ثأر محمود بمحملته في شوال في العام المذكور، وهي ثلاثة آلاف رامياً ما بين أرباب الخيل والرجل. وتلقي مع أسكيا نوح في أرض الحجر، ومعه نجعة سغي كلها. فغلبه القائد منصور، ونال منه ما لم ينل منه محمود بن زرقون. فهرب مع جيشه وسلموا في النجعة. فسبا القائد منصور ذكوراً وأناثاً كباراً وصغاراً قينيين وقينات، فرجع بالجميع لتنبكت، وولى الجميع لأسكيا سليمن. فمن حينئذ صاب الخدم والأتباع من أهل سغي.

    فسكن تنبكت، فكان رجلاً مباركاً عدلاً ذا حكم شديد في الجيس، وأمسك أيدي الظلمة والفسقة عن المسلمين. فصار يحبه الضعفاء ولامساكين، ويبغضه الفسقة والظالمون.

    ثم وقع بينه وبين الباشا جودار اختلاف حتى عزم أن ينزع منه جميع الرمات الذين معه، وأن يكون حكم الأرض في يده، حيث هو معزول من حين مجيء محمود ابن زرقون، حتى انتهى اختلافهما إلى المكاتبة للسلطان مولاي أحمد. فكتب لهما وفرق بينهما، فقال: حكم الأرض لجودار حيث هو فتحها، وحكم الجيش للقائد منصور، لا يدخل أحد في طريق واحد.

    ثم تجهز أيضاً للرجوع إلى الغزو إلى أرض دند. ونزل في كربر، ومكث هنالك شهوراً وهو مريض. ثم رجع لتنبكت ونزل بمحلته بموضعه المعتاد. فكان أجله في ذلك المرض، فتوفي يوم الجمعة قرب الغروب السابع عشر من ربيع الأول عام خمسة بعد ألف. وقيل أن جودار أطعمه السم فقتله، وكذلك القائد بو اجتيار قيل أنه الذي أطعمه السم. ولم يتأخر هو بعد وصلوه أرض السودان إلى أن توفي، ودفن في مسجد محمد نض. أما القائد منصور فلم يدفن بعد وفاته إلا في الغد ضحوة السبت، وصلي عليه ودفن في مسجد محمد نض في مجاورة سيد يحيى. ثم جاء ابنه من مراكش، فنقله إليها ودفنه هنالك.

    ثم بعث السلطان مولاي أحمد الباشا محمد طابع بمحلة فيها ألف رماة ما بين أرباب الخيل وأرباب الرجل. فوصل تنبكت يوم الاثنين التاسع عشر من جمادي الأولى عام ستة وألف. ونزل وراء القصبة في جهة القبلة، وهو شيخ كبير من قياد السلطان مولاي عبد المالك ذو معرفة ورأي وتدبير، قد سجنه السلطان مولاي أحمد عند ولايته اثني عشر عاماً.

    ثم تجهز من منزله ذلك إلى الغزو في الحجر. فتنزع من جودار الجيش الذين معه، وذهب معه القائد المصطفى التركي. ولما وصل أنكند مات فيه يوم الأربعاء الخامس من شوال. قيل أن جودار هو الذي أطعمه السم على يد نانا تركية.

    وبقي هو في بنك في الحراسة. فرجع القائد المصطفى بالعسكر بعد ما جرى بينهم وبين أهل الحجر ما جرى. وقيل أطعمه السم أيضاً. فلما وصل إلى جودار في مكان الحراسة استرد منه الجيش، فأبى بذلك المصطفى. فتحاكما عند كبراء الجيش. غلبه جودار بما هو المعترف عندهم من الحكم بالطريق، لأن الجيش بيده يومئذ.

    ثم تنوجه الجميع إلى تنبكت. فلما وصلوا مرسى كرنزفي أمره جودار بالطلوع إلى البلد والمكث في القصبة، وهو مريض. وحين انفصل عنه بعث في إثره من يقتله قبل الوصول إلى البلد. فخنقوه في قرية كبر، ومنهم إبراهيم السخاوي. فمات، وحملوا إلى البلد، ودفنوه أول الليلة من ذي الجحة مكمل عام ست بعد ألف في مقابر الجامع محمد نض.

    وفي هذا العام أعني العام السادس بعد ألف رجع الأمين القائد الحسن بن الزبير إلى مراكش بمال عظيم الذي حصل من خراج الأرض في ثلاثة أعوام وشيء. وقام في مقامه عند غيبته القائد عبد الله الحيوني وسعيد بن داوود السوسي إلى أن رجع مع الباشا سليمن في أواخر العام الثامن بعد الألف، فانعزلا، ولم يستكمل ثلاثة أعوام في تلك الغيبة.

    وبعد ما قبض الباشا محمود بن زرقون أولاد سيد محمود جاء حمد أمنة صاحب ماسنة إلى تنبكت في الاستشفاع لهم عنده بالإلحاح، فأبى وعزم على قبضه مما فهم منه من الحمية على رغمه. فنهاه عنه بعض نصحائه من السودان، فكف عنه، فرجع لوطنه.

    ثم إن جودار بعث إليه في المجيء لحضرته، فأبى. وبعث للقائد المصطفى التركي وهو على تندرم يومئذ، فأمره بالغارة عليه. فذهب إليه في سبعمائة رامياَ، أربعمائة من أرباب الرجل وثلاثمائة من أرباب الخيل. وكتب للقائد علي بن عبد الله التلمساني أن يصحبه في ذلك، وهو في بلد ونزع يومئذ للحراسة. فتوجهوا إليه مع الأخيار من أهل سغي مثل كرمن فاري بكر كنبو وكَل شاغ بكر وأشباههما. فهرب هو مع أهل حلته فقط. فوصلوهم في وراء بلد زاغ في موضع يقال له نول فن، ومعه كثير من كفار بنبر. وهرب هو مع أصحابه وتركوا الكفار في القتال مع المصطفى. فقتلوا كثيراً من أولئك الكفار بعد ما حصروهم في غابة كبيرة، وسبوا عيال حمد أمنة المذكور، وفيهم زوجته عائشة فل وبعض أولاده الصغار.

    وتوجه مع كبرائه إلى بلد زار عند سلطانه فرن سرا. وجعل ابن عمه حمد عائشة في سلطنته، وسجن أولئك العيال في مدينة جني. ثم رجع إلى أرضه بعد ما لبث في زار سنتين.

    وبعد ما انفصل القائد المصطفى من قتال الكفار دخل في إثر حمد أمنة، وتبعه بغزوه حتى دخل في أرض قياك. ثم رجع حتى وصل بلد كوكركي، وفيها يسكن كل شاع. فنزل هنالك بمحلته أياماً. ثم ارتحلوا وتوجهوا إلى بلد شننكو، فنزلوا في ساحله من وراء البحر. فصرفوا لهم المراسيل، فجاء إليهم كبراءهم للسلام. ثم رجعوا في إتيان الضيافات. ثم أمرهم بالقوارب للقطع إلى ساحلهم.

    فلما حصلوا هنالك أطلقوا فيهم الغارة، فوقع بينهم قتال عظيم، حتى صاب القائد علي بن عبد الله التلمساني سهم مسموم فتأذى منه. ثم شرب طبغ فتقيّا السم بكماله، فكان منه شفاؤه. ولذلك التزمه بحيث لا يفارقه في غالب أحواله إلى أن توفي.

    ومات حصان كل شاع بكر تحته بسهم صابه، وهو قد بلغ الغاية والنهاية في النجدة والشجاعة والفروسة. فبقي يقاتل على رجله ولا يعني شيئاً. فرأه في المعترك مخازني، وهو يعرفه بتلك الصفة تحقيق المعرفة، نزل له عن حصانه وأمره أن يركبه، فأبى اتقاء المعرّة. وحلف له إن لم يركبه يقتل الحصان. فركبه فقال له بعد ما فرغوا من القتال: رأيتك لا تصلح شيئاً، وخلت [خفت] أن تموت باطلاً، وأن كل ما أصلحه على الحصان أصلحه على رجلي، ولذلك أثرتك بذلك الحصال.

    قتلوا من أهل ذلك البلد ما قتلوا وأسروا كثيراً رجالاً ونساء، منهم الفقهاء والصالحون. وأما القائد علي بن عبد الله فلما جن الليل من أول يومهم أطلق جميع من وقع في يده وأيدي أصحابه وأعتقهم جميعاً. وأما القائد المصطفى وأصحابه فوصلوا تنبكت بجميع من وقع في أيديهم، فباعوا ما باعوا وكسبوا ما كسبوا.

    وقيل سبب جنايتهم لما أتى شاع مكي إلى أرض جني مع كفار بنبر وغاروا عليها وضاقوا أهلها وأفسدوا فيها فساداً كبيراً، ما قطعهم البحر إلا أهل ذلك البلد. ولهذا انتقموا منهم. ثم إن بارضوان قائد مدينة جني يومئذ تحرك إليهم ثانياً بنفسه، فهزموه وجيشه وطردوهم، فلم يعودوا إليهم بعد إلى هلم جراً.

    وشاع مكي المذكور رجل من أهل كل، خدم أهل المخزن في جني في بداية أمرهم أزر. فلما علم غراتهم هرب عنهم ورجع لبلده، وصار عليهم بلاء عظيماً. فساق المشركين إلى أرض جني مراراً متكررة حتى خربها وأخلاها.

    الباب الخامس والعشرون

    ذكر الباشا عمار

    ثم أمر السلطان مولاي أحمد الباشا جودار بالمجيء إليه في حدود العام السابع بعد الألف، فكتب إليه أن يبعث من يقوم بالأرض ويكون وكيله على الجيش. فبعث القائد المصطفى الفيل والقائد عبد المالك البرتقالي. ثم رد إليه الجواب ثانياً بعجلة أنهما لا يمسكان هذه الأرض، لأن سلطان ملي قد تحرك وأراد المجيء إلى هذه الأرض، وكذلك صاحب ماسنة حمد أمنة عزم على الرجوع فيها. فليبعث الباشا واسمه عظيم في الأسماع دون القياد.

    فبعث الفتى عمار باشا وحده على راحلة دون الجيش، وقد جاء معه قبل هذه المرة ألف رماة إلى سغي، خمسمائة من العلوج وخمسمائة من الأندلسيين. فلما وصلوا أظوات ذهبوا وافترقوا، فسار العلوج إلى جهة فاهتدوا وسلمو، وسار الآخرون إلى جهة فضلّوا وماتوا جميعاً. ومعهم الماجي مرسول القاضي عمر إلى مراكش بعد ذهاب المراسيل الأول، فمات معه.

    فامر جودار بالمجيء حينئذ عزماً مؤكداً، ولو كان تلك الأرض كلها تتحرق بالنار، وكل هذه المكاتبة والإرسال في مدة قليلة. أما القائدان المصطفى وعبد المالك فوصلا مدينة تنبكت في شهر جمادي الأولى سنة سبع بعد ألف. وأما الباشا عمار فوصل في شهر رجب في السنة المذكورة. وأما الباشا جودار فتجهز للرجوع إلى مراكش يوم الخميس السابع والعشرين من شعبان في العام المذكور.

    ثم إن سلطان محمود صاحب ملي تجهز لغزو أهل مدينة جني، فبعث مرسوله لكل شاع برك يعلمه بذلك وطلب منه المساعدة عليها، وهو في بلد كنتي يومئذ. فسأل المرسول: هل معه سنقرزومع فرن سرا؟ فقال: لا. فقال له: بلغه مني السلام وقل له أنتظره هنا إن شاء الله. فلما أدبر قال لأصحابه: هذا ليس بشيء حيث لم يتبعه هذان الأكبران من خدامه.

    فلما قرب خرج كل كاع بين يديه إلى جني، وما أجاب دعوته من سلاطين كل وبدك إلا فدككي وأمكي وحمد أمنة صاحب ماسنة.

    وقد بعث بخبره الحاكم سيد منصور الذي على جني للباشا عمار وطلب منه الإغاثة. فوجه إليهم محلة فيها القائد المصطفى الفيل والقائد علي ابن عبد الله التلمساني. فلما وصلوا مدينة جني ضحوة الجمع ة آخر يوم من رمضان في العام المذكور، صادفوا بنزوله مع عسكره ساعتئذ في رمل سانون، كلها لكثرتهم حتى انتهوا إلى الرجل الذي لا يدخل منه القوارب إلى المدينة. فتقاتلوا عليها وما نجاهم عنها إلا كثرة النيران من خبط المدافع، فنالت القوارب الطريق للوصول إلى مدينة.

    فتشاور الحاكم سيد منصور أصحاب الرأي فقال له كل شاع بكر: يخرج لهم الآن وإذا بات هذه الليلة لالتمّت عليه قوم هذا الأرض كلهم. فقال لهم سيد منصور: الميعاد لملاقاتهم بعد صلاة ظهر الجمعة. فخرجوا لهم حينئذ، ومعهم جنكي محمد كنب بن إسماعيل. فهزموا ملي كي وعسكره في طرفة عين، وقتلوا منهم كثيراً.

    وهرب هو على حصانه فتبعه كل شاع بكر وسُري محمد حتى وصلوا المأمن، وحيوه تحية السلطان، وقلعوا قلانسهم تعظيماً له على عادتهم، وقالوا له: عليك بتعجيل السير لئلا يلحقوك من لا يعرفوك ويفعلوا بك ما لا يليق. فوادعوه ورجعوا.

    فلما فرغوا من طرده وقتاله رجعوا جمعياً، القياد والجيش، نصف ليلة السبت، وهي ليلة العيد. فلما صلوا العيد عزموا على غزو حمد أمنة وحلاته في بلد سأ، قرية في قرب المدينة. فقال لهم كرمن فاري بكر بن يعقوب أنه صاحب رحالة، وأمره ليس بشديد، وإنما الشديد أمر أمكي الذي هو حضري، وأمسك بعضد ملكي حتى وصله إليكم.

    فردوا العزمة إليه فتوجهوا نحوه. فخربوا بلد سع، وغنموا فيه مالاً كثيراً، لأنه سوق التجارة يومئذ، ورجعوا إلى جني. فاصطلحوا مع حمد أمنة، وردوا له عياله الذين سبوهم في تلك الوقعة. وعزلوا حمد عائشة وجاؤوا به إلى تنبكت، وسجنوه فيه إلى أن توفي في مدة الباشا محمود لنك.

    أما الصلح المذكور لم يقع إلا بعد وعقة سليمن شاوش وهو كاهية يومئذ، وذلك لما رجعوا من فتنة سع. جمع فندنك حمد أمنة جماعة كثيرة من كفار بنبر مع جيشه فتوجه نحو القبلة للفتنة. فبعث أهل جني محملة للقائه، وجلعوا عليها الكاهية سليمن شاوش، ومعهم فندنك حمد عائشة. فالتقوا في بلد تي، فاقتتلوا، وقُتل جميع الرماة ولم ينج من أهل المحملة كلها إلا اثنان ردلاً. فجاز حمد أمنة بحلاته إلى بطحاء دب، فنصبهم فيها أياماً. وهرب أهل حلة حمد عائشة إلى أرض بر، وسكنوا هنالك زمناً طويلاً.

    ثم رحل فندنك حمد أمنة ورجع إلى سأ، واسأخر هنالك حتى وقع ذلك الصلح وردوا له جميع عياله، فيهم زوجته عائشة فل وابنه الأصغر كلل وأمنة بنت فندنك بوب مريم زوجة ابنه الأكبر بوب يام الذي هو وصية وولي عهده.

    وعزل حمد عائشة وسجن. ولما طلع ميم رحل إلى قياك عند فرن سرا بأهل ماسنة كلهم إلا قليلاً، ومكث هنالك عاماً. ثم رجع إلى برك. ولم يبق له منازع، ودخل في طاعة أهل المخزن بالام فقط إلى هلم جراً.

    الباب السادس والعشرون

    ذكر البلاد ماسنة

    تنبيه: أصل سلاطين ماسنة من كُمَ، وهو اسم موضع في أرض قيال، له أيضاً تُعُ وترمس. فكان فيه سلطان يقال له جاجي ابن سادي، وله شقيقان مغن ويك. فمات يك عن زوجة. فاراد السلطان جاجي أن يتزوجها، فامتنعت، وهي لا تريد إلا مغن، فهو لا يريدها ولا يقدر عليه خوفاً من أخيه السلطان.

    فبقي الناس يتحدثون بها حتى أن يوماً واحداً دخل عليها مغن يلومها في ذلك، ويقول لها: كيف تمتنع من زواج السلطان؟ ومن يقدر عليه غيره؟ وكيف بأولادك الذين معك؟ وقلّبها حتى أعيا، فلم تقبل.

    فلما رآه النمامون وقت خروجه من دارها قالوا للسلطان: أليس الذي قلناه لك عن مغن حقاً؟ وقد رأيناه الساعة يخرج من دار المرأة.

    فجاء يسلم عليه، فلما امتثل بين يديه قال له: بارك الله فيك! هذا الذي تشتغل به هو الفعل. وأريد زواج امرأة، وأنت تفسد رأسها علي. فغلظ له في الكلام وقبح. فخرج مغن وهو غضبان. فركب فرسه ورمى وجهه للغيبة. وتبعه أربع فرسان أو خمسة وطائفة من الماشين حتى غابت عليهم الشمس. فنزلوا وأوقدوا النار، فإذا الضالوون من البقر وقفوا عليهم، وقبضوا واحداً منهم وذبحوه وتعشوا به.

    فلما أصبح الصباح ساروا في مسيرهم، وساقوا البقرات معهم حتى أتوا ربوة تسمى ماسنة، وهي في أرض باغن فاري، فوجدوا فيها الصنهاجين أولي الضفائر، وهي مسكنهم. فسكنوا معهم حتى لحقهم فيها ما تركوا وراءهم من عيالهم. ثم ذهب إلى عند باغن فاري، فوقف عليه وسلم وأخبره بقصته وبما تريد. فرحب به وأكرمه وأمره أن يرتع أينما أحب في أرضه. ثم جعله سلطاناً على قومه الذين معه، وجعل الفلانيون يأتونه ويسكنون معه من قبيلته ومن قبيلة سنقر، وهم يومئذ يرتعون ما بين ساحل البحر وبيم.

    ثم تفرع منه أولاد: الأكبر منهم اسمه بُهم مغن، وعلي مغن، ودنب مغن، وكوب مغن، وهاهارند مغن. هؤلاء خمسة رجال شقائق أمهم دم بنت يدل. ثم يلل مغن وحده من زوجة أخرى. ثم حمد بند وسنب شقيقان.

    ولما توفي سلطان مغن بن سادي خلفه في السلكنة ولده الأكبر بهم، فتزوج امرأة تسمى يدنكي، فولد منها ناكب يدنكي، وإليها ينتسب وريدنكي. ثم تزوج امرأة أخرى أيضاً تسمى كف، فولد منها كانت علي، ومنه تنسل ورارد علي. ثم تزوج امرأة أخرى أيضاً تسمى، تد فولد منها حمد تد، وإليها ينتسب ورتد وزعكي تد وددتد.

    ولما توفي سلطان بهم مغن خلفه في السلطنة أخوه علي مغن، وإليه ينتسب ور علي ولم يتولّ السلطنة غيرهما من أولاد مغن المذكور.

    ولما توفي علي خلفه ابن أخيه كانت بن بهم، فتزوج امرأة من قبيلة سنقر تسمى درام سافو، فولد منها جاجي كانت وأنييا كانت ودنب دنب وير كانت ولانبور كانت وكني كانت. ثم تزوج امرأة أخرى تسمى بنك، فولد منها مك كانت وحده فقط، وإليه ينتسب ورمك.

    أما جاجي كانت فتزوج بنب حمد تد، فولد منها سود، وتفرع منه أولاد، منهم وربك ووردب، ومنه تنسل الفقيه أحمد بير الماسني. ولما توفي كانت، والزغرانيون قتله في الفتنة بينهم وهم الغالبون لهم في مدة كانت المذكور، وكذلك موش غلبهم في تلك المدة. فخلفه في السلطنة أخوه علي، فنصره الله على الزغرانيين وعلى موش فغلبهم أجمعين. فولد دنب علي وجنك علي وشم علي.

    ولما توفي علي خلفه في السلطنة أنييا كانت، وهو الذي انتقل من ماسنة إلى جنبل في مدة سلطنة الأمير أسكيا الحاج محمد. ولبث في السلطنة ثلاثين سنة، عشرين سنة في ماسنة، وعشر سنين في جنبل. ثم خلفه في السلطنة ابن أخيه سود ابن جاجي كانت. فمكث في السلطنة عشر سنين، فتزوج يبكن ابنة أنييا، فولد منها إل سود وحمد فلاني.

    ولما توفي سود اختلف ابنه إل وعمه حمد سر ولد أنييا، وتنازعا على السلطنة حتى انتهى بها النزاع إلى حضرة الأمير أسكيا إسحاق بن الأمير أسكيا الحاج محمد. فأشركهما في الأمر، كسي إل سود بكسوة السلطنة، أعطاه حصاناً. ثم حمد سر كذلك. وردهما إلى قومهم، فقال: أيهما أحب القوم فليتبعوه. فاختلفوا فرقتين، الأكثر تبعوا إل، والباقي تبعوا حمد سر. فاقتتلا، فغُلب إل وطرد من أرضه.

    وذهب إلى سنقر وطلب منهم الإغاثة. فرجع إلى ماسنة للقتال فغلبه إل أيضاً. فذهب إلى عند أسكيا في كاغ، فبعث لإل وأمره بالمجيء إليه. فأجاب دعوته وذهب إليه في القارب. فأمر بقتله قبل الوصول إليه. ولم يمكث هو في السلطنة إلا عاماً واحاً.

    فبقي الأمر لحمد سر أربع سنين. وحمد فلاني في كاغ عند أسكيا في تلك المدة. وامتنع بعد أهل ماسنة من اتباعه، فجعل أسكيا حمد فلاني في تلك السلطنة. ورجع إلى ماسنة خدام أسكيا فهرب حمد سر، واستكمل حمد فلاني السلطنة حينئذ. فعمر حلة والده وغار على بقرات سود كهمي. وتنسل من جاجي بن سادي، فهربوا من ماسنة بالكلية، وصاروا في جوار أسكيا مؤدين الوظيفة. ولم يبق مخالف محمد فلاني في ماسنة كلها إلا حلة أنييا وحدها.

    وغار حمد فلاني أيضاً على حلات وراردد علي وورمك، وقد جاءوا من قياك إلى جنبل في زمن ولاية أنييا مجتمعين. فهربوا من أجل تلك الغارة إلى أرض كها، فسكنوا هنالك. ومكث في السلكنة أربعاً وعشرين سنة. فعزله في السلطنة دنب لكار، وهو حفيد سود جاجي، فمكث في السلطنة خمسة أشهر، وقيل ستة أشهر. ثم عزله حمد فلاني المذكور، ومكث فيها إلى أن توفي.

    فخلفه باب إل بأمر أسكيا، ومكث فيها سبع سنين، فتوفي في بلد كاغ. فخلفه في السلطنة برهم بوي بن حمد فلاني، هو وبوب إلُى أمهما وإخوة [واحدة] بوي أينة بوب. فمكث فيها ثماني سنين. فمات في مدينة جني لما جاء فيها الأمير أسكيا داوود مولياً من غزوة أرض ملي، فبعيث له في المجيء، فتوفي هنالك.

    فخلفه فيها أخوه بوب مريم ابن حمد فلاني، ومكث فيها أربعاُ وعشرين سنة، فغار عليه كرم نفاري محمد بنكن ابن أسكيا داوود، وهرب إلى أرض فَي سندي. ولما عزم الهروب انتزع منه جدل على حصانه المسمى سنب داي، فقال إنه ملك لأسكيا. ثم رجع إلى حلته في ماسنة، وعزله أسكيا الحاج بن أسكيا داوود بعد ما تولى.

    فخلفه في السلطنة حمد أمنة بن بوب إل، ولاه أسكيا الحاج المذكور، وأخذ في السلطنة ست سنين. فجاء محملة الباشا جودار، ومكث فيها بعد ذلك ثلاثة عشر سنة. ونهاية ما مكث فيها قبل وبعد تسعة عشر سنة. وفي حسابها سنتان لفندنك حمد عائشة.

    وبعد ما مات حمد أمنة المذكور خلفه ولده بوب عائشة الملقب بيامي، فمكث فيها عشر سنين. ولما توفي خلفه أخوه برهم بوي، فمكث فيها اثني عشر عاماً.

    ولما توفي خلفه فيها سلمك عائشة، فكان ذا عدل، وقهر الظلمة والجائرين من خدامهم وأتباعهم وأولاد السلاطين وأمسك على أيديهم عن الضعفاء والمساكين بحيث لم يسمع بمثله في سلطنتهم قط، ومكث فيها سنتين.

    ولما توفي خلفه بن أخيه حمد أمنة بن بوب بيامي، وله فيها اليوم خمسة وعشرون سنة، وفي حسابه شهران لفندنك حمد فاطمة. وأما هارند مغن فمنه تنسل ور هارند وير كانت، فمنه تنسل ورير. ولما امتنع حلة أنييا من أتباع حمد فلاني رجع حمد سر عليها سلطاناً. فاستفرت السلطنة فيها إلى هلم جراً، كما استقرت في حلة بوب إل.

    فصارت سلطنة ماسنة مقسمة بين أربع حلات: حلة أنييا وحلة بوب إل وحلة مك كانت وحلة علي أرد مغن. وأما حلة مك كانت مرة يسكن برك ومرة يرجع إلى قياك. وما انقطع بسكني برك منهم بلا رجوع إلى فندنك كداد، فمكث في السلطنة ثلاثين سنة. انتهى.

    الباب السابع والعشرون

    ذكر الباشا سليمان والباشا محمود لنك

    ولنرجع إلى إتمام ذكر الباشا عمار. فمكث في الولاية سنة وشهرين وأياماً، وغلب عليه فيها القائد المصطفى الفيل، حتى صار كأنه صاحب الأمر، وهو ذو طغيان وتمرد وعناد لا يبالي بأحد. فبلغ السلطان خبر ما بينهما، فغضب عليهما جميع الغضب، على عمار من حيث الضعف حتى ركب عليه المصطفى، وعليه من حيث الطغيان والتعند حتى رجع عمار مركوباً له.

    فعزله من عنده، وبعث الباشا سليمن ليكون صاحب الأمر. وأمره أن يسجنهما ويزيد للمصطفى إهانة وتصغيراً، ويبعثهما لحضرته في مراكش وهو في الحديد.

    فوصل تنبكت يوم الخميس الخامس من ذي القعدة الحرام سنة ثمان بعد ألف. فظهر له في المصطفى المذكور ما ذكر عنه عند وصوله، حتى عزم على قبضه وهو في الركوب. فنهاه عن ذلك أصحاب الرأي لما عسى أن يكون حينئذ من افساد. فلما نزل الباشا سليمن ودخل في المشور وقعد على المرتبة قبض على العتبة وهو داخل، وخرقوا عليه أثوابه الفاخرة، وجعلوا عليه الحديد والقيود الثقال جداً، وبعثه للسلطان على تلك الحال. وسجن عمار سجن إكرام إتماماً لقول السلطان. ثم رُجع لمراكش بأمره.

    وجاء سليمن المذكور في خمسمائة رامياً، وقيل أكثر، فبنى داراً خارج البلد وسكن فيها مثل المحلة، ورفض سكنى القصبة. فكان ذا همة عالية ورأي قائق وتدبير عجيب وحكم شديد، وسار بذلك في ذلك الجيش كله، بحيث لا يبيت أحد منهم إلا معه في تلك المحلة. ومن غربت عليه الشمس في داخل البلد لا بد أن يأخذ فيه ما قدر الله له من ضرب العصى. ولا يبيت الليل كله إلا منتبهاً يحرس المحملة والبلد كليهما. ولا يحدث فيهما صيحة ولا صراخ إلا في سمعه وعلمه، وما طرأ من سرقة في أي جهة إلا يتبعها حتى تنكشف له ويحكم فيها بما يليق.

    وقد أمعن النظر في أمر الأمين القائد الحسن بن الزبير، فبدا له أنه مفسد مسرق لبيت مال السلطان، لأنه اتخذ نحو ثلاثمائة جوار مع ضعفهم من الخدمة، فانتزع منه مال السلطان وجازها عنه في بيت في دار السلطان في القصبة. ثم شاور البشوطات فيما يفعل في أمره. فقالوا له لنا كلام في ذلك، والسلطان قريب منكم، فاكتبوا له. فكتب كل واحد منهما له. فكتب للباشا سليمن وأمره أن يفارق سبيله وليفعل ما بدا له في ذلك المال، لأن المال مالنا وهو أميننا، وما كان بينك وبينه فيها إلا متى احتجت إلى نحو ثلاثة آلاف مثقال يسلفه لك حتى ترد ه له. ولكن القائد عزوز هو الذي عاونه وحامى عنه عند السلطان. فمكث في الولاية أربع سنين وشهرين، وهو آخر باشات السلطان مولاي أحمد الذين صرفهم للسودان.

    قال العلامة الفقيه أحمد بابا رحمه الله تعالى: أخبره الأمير السلطان مولاي زيدان بن الأمير مولاي أحمد أن نهاية الرجال الذين صرفهم والده في المحلات من لدن الباشا جودار إلى الباشا سليمن ثلاثة وعشرون ألفاً نفساً من خيار جيشه، وهي مقيدة في الزمام قد أراه ذلك الزمام. قال: أضاعهم الوالد باطلاً ولم يرجع منهم أحد لمراكش، فيموت فيه إلا نحو خمسمائة رجل، كلهم ماتوا في أرض السودان. انتهى.

    ثم إن الأمير مولاي أحمد توفي، وسمع به الباشا سليمن، فأخفاه عن الناس عاماً، حتى جاء خبر ولاية مولاي بو فارس بن مولاي أحمد. فتولى بعد وفاة أبيه في أوائل العام الثاني عشر بعد الألف.

    فبعث الباشا محمود لنك إلى أرض السودان، ووصل تنبكت في شهر الصفر في العام الثالث عشر بعد الألف، فجاء في ثلاثمائة رامياً وقيل أكثر، كلهم أهل ماسة. وجاء معه محمد الماسي كاهية، وهو مسجون في مراكش لاشتغاله بالحرابة، فطلبه من عند القائد عزوز فأعطاه، وجعله كاهية. وصادف نزوله في تنبكت بجنازة أسكيا سليمن، وقيل أمر بكشف وجهه حتى رآه.

    وأمر السلطان بمجيء الباشا سليمن إليه والقائد أحمد بن يوسف، وهو على مدينة جني يومئذ. فكتب للباشا سليمن وطلب منه أن ينتظره قليلاً حتى يجيء ويترافقا في الذهاب. فانتظره، ثم استطال الانتظار فذهب قبل أن يجيء، فجاء ولحقه.

    وبعث القائد علي بن عبد الله التلمساني كتابه معه للسلطان مولاي بو فارس، وأخبره فيه بأحواله وبما هو فيه من الاشتغال بالغزوات وحراسة الثغور وعدم الكفاية التي يستعين بها على مشقاته، ومن أجل ذلك لم يبعث له هديته صحبة القائد أحمد المذكور.

    ولما رجع بعث له السلطان كتاباً معه فأعطاه بلد تندرم لينتفع بما يخرج منه من الخراج. فلما وصل تنبكت بعث له ذلك الكتاب في بلد ونزع، لأنه يلازم الحراسة هنالك. ووجد الحال أن القائد علي التركي هو العامل على تندرم، فصرف له القائد علي التلمساني أنه أت إلى ذلك البلد، فإذا أدركه فيه لا بد يقطع رأسه.

    فخاف وهرب إلى تنبكت، فغضب عليه الأمين القائد الحسن، ولامه وأحثر له في الملامة. فصرف المقدم حد بن يومف فيه عاملاً. فعزم القائد علي التلمساني على القدوم إليه، فخاف حد، وخرج إلى مور كُير. فجاء وتولاه، ومكث فيه. فرجع حد إلى تنبكت.

    ثم وقع الاختلاف بين الأمين وبين علي بن عبيد، وهو عامل على كيس، فهرب إلى تندرم عند القائد علي المذكور لرسم التوطن عنده. فبعث له أهل تنبكت في رده، فامتنع من ذلك. فمشى الأمين القائد الحسن بنفسه، ولم يرده. فطول له في الكلام إلى أن قال له: إن هذه العطايا من السلطان. لا ينفذها لأنه أمينه ووكيله المفوض، فله الرد والإمضاء، وما كانت أيضاً إلا في براءة الرسالة. فقال له القائد علي في جوابه: إذ لم تنفذ العطاء ببراءة الرسالة، لا تنفذ تلمينك، لأن براءة الرسالة هي التي جاءت من عند السلطان.

    الحاصل لم يجد مسلكاً منه، فرجع إلى تنبكت، وأحلف هو والباشا محمود الجيش كله على أنه لا يهرب منهم أحد إليه بعد هذا. فحلفوا عليه. ثم ذهب إليه سيد علي التواتي، فصبره ووعظه حتى قال له: لا تخسر أمر هذا الجيش، لأنه صائر إليك غذاً إن شاء الله. فحينئذ ترخي ورد علي بن عبيد المذكور.

    ثم شرع الأمين القائد الحسن في تبديل نظام الجيش، وبدل العلامات، ورد سربة الفاسيين أصحاب اليمين، وسرة المراكشيين أصحاب الشمال، ونزل العلوج والأندلسيين تحتهما. وزعم أن ذلك كان من عند السلطان مولاي بو فارس. فجعل معلم سليمن العرفاوي كاهية على الفاسيين، وحد بن يوسف الأجناسي كاهية على المراكشيين.

    ثم توفو الأمين القائد الحسن في أواسط العام الخامس عشر بعد الألف. فتولى مقامه الطالب محمد البلبالي بأمر صاحب الأمر الباشا محمود لنك. فاشترى من تركته ما اشترى من الخدام وغيره، ومكث في ذلك المقام سبعة أيام. وفي ثامنه ورد ابنه القائد عامر بن الحسن، بعثه السلطان مولاي بو فارس أميناً. فتولى المقام المذكور وانتزع من الطالب محمد المذكور جميع ما اشترى من تلك التركة.

    وفي السادس عشر بعد الألف تولى السلطان مولاي زيدان بن السلطان مولاي أحمد. فرد الباشا سليمن إلى السودان ليكون صاحب الأمر. وبعد ما ساقط من مراكش وانفصل عنها قتله سعيد بن عبيد. فأعطى السلطان السبيل في قبيلته الشراقة، فقتلوا منهم كثيراً. وقتل معهم القاتل سعيد بن عبيد المذكور.

    ثم إن الكاهية معلم سليمن طغى وتمرد وجعل لا يشتغل إلا بالمعاكسة على الباشا محمود والتطاول عليه. عزم على ترحيل القائد علي بن عبد الله من تندرم وإحضاره لديه حتى يتقابلا، لعل ينكسر حدته وتمرده. فنهاه عنه القائد مامي بن برون، وقال: مثل معلم سليمن مثل الكلب، إن هرّ عليك ورميت له عظماً ينساك ويشتغل به عنك، وهو إن جاء لا يريد إلا موضعك هذا.

    ولما رأى أن حاله لا يزداد إلا فرطاً وشططاً صرف له في المجيء. فجاء وترك عياله وراءه. فاشتكى له بأمره وأمر بقتله، فقتله ليلة الخميس التاسعة من المحرم الحرام فاتح عام السابعة عشر بعد الألف. ولم يباشر القتل، بل أصحاله الذين قتلوه ووجدوه قاعداً في باب داره مع القائد إبراهيم أشخان، فضربوه بالسيف حتى مات. وجرح أشخان المذكور، فمات من ذلك الجرح.

    فكان فزعاً كبيراً في البلد تلك الليلة، وغلق الناس أبوابهم. ثم إنهم برحوا بالعافية ليلتئذ وسكن الناس. فأمره الباشا محمود بالسكنى في تنبكت ورحل له عياله، وفوض له الأمر، فبقي أربعة أعوام ونصفاً لا يكون شيء إلا بأمره. وآخر الحال عزله القائد علي بن عبد الله وتولى مقامه، فكان الأمر كما قال القسيس مامي المذكور.

    وفي هذا العام جاء هيكي سيد كري أجي بالغزو من عند أسكيا هورون دنكتيا بن الأمير أسكيا داوود صاحب دند، أراد غزو طاعة أهل المخزن في البحر. فلما سمعوا خبره خرج القائد علي بن عبد الله التلمساني بالمحملة لقتاله في شهر الربيع الثاني، وفي المحملة أسكيا هرون بن أسكيا الحاج ابن الأمير أسكيا داوود المذكور. والباشا محمود هو الذي ولاه ذلك المقام عند وفاة أسكيا سليمن بن الأمير أسكيا داوود، وهو بلمع يومئذ. قد أمره بذلك الباشا سليمن لما انعزل. فتوجه إليه القائد علي فلم يقرب البحر فانتهى جبل دُي ورجع إلى بلدهم. وحين سمع فندنك بوب وول كين صاحب سنفر بتوجهه إلى تلك الجهة، وهو على طريقهم خاف وهرب إلى فندنك بوب يامي صاحب ماسنة، لأنه خالف حيينئذ.

    فتبعه بالمحملة حتى وصل بلد عنكب، فنزل فيه وبعث لصاحب ماسنة أن يسلم فيه ويرده إليهم. فقال إنه دخل في حرمته وأنه يصلح بينه وبينهم ليعفو عنه ويرده في حلته على ألفين بقرة حالة. فقبل القائد علي فأعطى صاحب ماسنة تلك العدة من البقر من نفسه ساعة. فجاء بوب وول إليه في المحمة، واتبعه القائد أحمد البرج إلى حلته ليعطي ألفين بقرة حق الشاشية، وهو كأنه دخل في السلطنة الجديدة. فأعطاه إياها وأعطاه أيضاً ألفين الذي وقع عليه ذلك الصلح ثانياً، فكان ستة آلاف بقرة دفعوها في فور واحد عن عجلة.

    وفي هذا الطريق خالف أهل سغي على أسكيا هارون ابن الحاج في عنكب. فصبرهم القائد علي، وصبروا. ولكن لما وصلوا تنبكت قاموا عليه حتى عزل، ورحله الأمين القائد عامر في جواره فأبرّ به وأكرمه غاية المبرة والإكرام إلى أن توفي، ومكث في الولاية أربع سنين، وبعدها ثماني سني.

    وفي القابل في العام الثامن عشر بعد ألف جاء دند فاري بار بالمحملة الكبيرة من عند أسكيا في دند قاصداً أرض مدينة جني، فقطع البحر الكبير ونزل في ترفي، وذلك في شهر الصفر في العام المذكور. وقيل أن جنكي محمد بنب هو الذي بعث لأسكيا في دند أن يرسل ذلك الجيش، ويعاونهم لكي يخرجوا الأرض من مملكة أهل المخزن. فاشترك مع سري موسى في ذلك الأمر سراً، وكلشع محمد علي، ما قيل. وطلب من فندنك برهم صاحب ماسنة ان يوافقهم فيه، فامتنع وقال إنه راع وكل من تولى سلطنة الأرض فهو خديمه وراعيه. وكتم ذلك عن خديمه الأكبر نجدة وتدبيراً، سري المعزول أنس مان.

    ثم بعث دند فاري لجنكي وأعلمه أنه نزل في ذلك المنزل ينتظره. فرد له المرسول وأمره أن يرتحل إلى قصر مدينة جني، فحينئذ يخرج للقاءه والاجتماع به. فلما طلع أنس مان على ذلك بعث مرسوله لدند فاري سراً فنهاه أشد النهي عن الوصول إليه، وقال له أن الجنويين ليسوا بأهل وفاء ونصح، لا أمنهم على جيش أسكيا. فقبل نصحه وارتحل ساعتئذ، فقطع البحر ورجع إلى جهة كرم.

    وقد وجد الحال أن القائد أحمد بن يوسف خرج من تنبكت راجعاً إلى مدينة جني، وهو قائد عليها يومئذ، وعادته في قيادته يسكن فيها في بعض شهور السنة، ويسكن في تنبكت في بعضها.

    فلما صح خبر هذه المحملة بعث به كركي لأهل بلد كب وعظم لهم أمرها. وقد وصله القائد أحمد المذكور ومعه جماعة من الرماة، فابنتى محملة هنالك، وبعث إلى تنبكت عند الباشا محمود لنك ووكد عليه في صرف المحملة بمبادرة وسرعة. فأمر القائد علي بن عبد الله أن يخرج لها. فخرج بجميع الجيش إلا من عادتهم أن لا يخرجوا إلا مع صاحب الأمر، إذا تحرك مثل قائد المخازنية وغيره. فخرجوا في جهة كرم. ثم سمع أن دند فاري في جيش عظيم، فصرف للباشا في تمديد الرجال. فخرج القائد ومن بقي في البلد من الرماة، وفيهم أسكيا هارون، وهو معزول يومئذ. فوصلوا بلد عنكب ونزلوا فيها.

    ثم وصل دند فاري بلد كب، أينما ابتنى القائد أحمد بن يوسف محلته، فهرب منه بالمحلة ودخلوا في قصبة كب. فحاصّوا قباءه وما بقي وراءهم من أمتعته، وقبضوا بعض القوارب الخارجين من مدينة جني وأكلوا منها أموالاً كثيراً من الذهب وغيره. فحصروا تلك المحلة وهم في داخل القصبة.

    فبلغ الخبر القائد علي بن عبد الله، وهو في محلته في عنكب، فنهض بمن اختار منها من الرماة لإغاثة المحصورين. وبقي القائد حد وأسكيا بكر وأسكيا هورون والقائد أحمد بن سعيد وأشياعهم في تلك المحلة. ولما سمع دند فاري بمجيء القائد علي نهض بمحلته بالليل قاصداً أرض درم من وراء جبل كر، حتى قاربوا بلد جنج. فنزل بالمحملة، وبعث لأهل جنج في أمر الضيافة فأرسلوها لهم.

    ثم نهضت المحلة التي بعنكب لقتالهم، فاقتتلوا عند الجبل المذكور فكان قتالاً شديداً. ومات في المعركة بين الطائفتين كثير من خيار أهل المخزن منهم عبد العزيز الكاتب من أصحاب المخازنية، ومن أهل النجدة المعروفين قدماً. وقبض أهل سغي أعني أصحاب داد فاري بلمع إسحاق ابن بنك فرم محمد هيك، وذهبوا به إلى عند أسكيا في دند. وما افترقوا في القتال إلا عند دنو الشمس للغروب. وما روعهم في المنزل الذي نزلوا فيها إلا صوت الدرقة التي ركضها الحصان برجله، فهرب أهل المحلة بأسرها فكبارها وصغارها إلى بحر دب إلى أفخاذهم في الماء. ثم تحققوا بعد ذلك السبب فخرجوا من البحر، وبلغوا الغاية والنهاية من الرعب والخوف. وما أغاثهم إلا أصوات غياطة القائد علي بن عبد الله فوق البحر يقطعها إلى نحوهم. فقال من حضر في ذلك الغزو: ما سمعنا في أذاننا قط أحلى من تلك الأصوات. فكان لهم فرجاً بعد الشدة.

    ولما وصل بلد كب فقص علي القائد أحمد بن يوسف ما جرى بينهم، وأنه ارتحل إلى أرض درم كر راجعاً عند أصحابه هنالك وأدرك قد فرغوا من القتال. ودند فاري لما سمع بوصوله عندهم ولى مدبراً إلى أرضه. والقتال وقع في أوائل الربيع النبوي في العام المذكور.

    ورجع القائد حد وأصحابه إلى تنبكت، وجعلوا على أجسامهم الشوكة لأهلها، ولبسوا لهم جلد النمر، وشتتوا جماعتهم في المجالس. وبقي البلد زماناً طويلاً لا يتحدث فيه اثنان في مجلس. وقبل وصول المحلة للبلد أمر صاحب الأمر بالدور فيه عند صلاة العشاء ومرة قبلها بالتشديد والتوكيد حتى لا يمدح المداحون ليلي الشهر الكبير إلا بعد صلاة المغرب. والعادة المعروفة المعهودة لا يكون إلا بعد صلاة العشاء.

    وأما القائد علي بن عبد الله فقد مضى إلى مدينة جني بأصحابه، ومعه أسكيا بكر. وقد سبقه القائد أحمد بن يوسف بالمشي إليه، لأن أرض جني كلها قامت وخالفت، وجميع القرى التي كانت على ساحل البحر هرب أهلها كلهم إلى الحجر.

    وأول قواربه الذي وصل بلد ساق دفع إليه الخيل من بلاد ساتنك، فنهبوا ما فيه ومضوا. فجاز القائد علي ولم يبال بهم، ووجد أهل بلد كوتا قد خالفوا وقاتلوا الرماة الذين في القصبة، فنصرهم الله عليه، وهربوا إلى الحجر. فجاز على حاله، فحين وصل قواربه مرسى بلد كنبع، ورسوا، وليس عنده نية القتال، جاءهم أصحاب سري موسى فبدأوهم بالقتال ساعتئذ. فتحزموا للقتال واقتتلوا، وذلك في يوم السبت الحادي عشر من الربيع النبوي في العام المذكور. واستحر القتال بينهم واشتد إلى اصفرار الشمس. فقال ذووا الرأي للقائد علي: إذا بات عنك الليلة وما أصبته لا تسيبه بعد.

    فنزل على رجله ودخل في سور البلد حتى وقف في باب داره مع رجاله يقتتلون مع أصحاب سري، وهو رجل أعمى جالس في داره، وباركي متاعه فوق السطح مع الرجال. ويرسل له السلام ساعة بعد ساعة ويسأل عن سلامته، ويقول: ما دام هو حي لا ينال العرب منه نيلاً. فإذا المرء جاءه قال: إن باركي أصيب بالرصاص الساعة فمات. قال: الآن، ثم مرادهم فيه. فعن قليل كسروا باب داره، فدخلوا عليه وقبضوه وقتلوا وأكلوا البلد كله إلا حومة كفار بوب، وذهب به في الحديد.

    وقد أحضر جنكي محمد ينب الرجال في داره وحفر فيها البئر، وعول على القتال والحصران. فلما وصل القائد علي مدينة جني نزل بمحلته في سبر، وبعث بسري في داخل المدينة فقُتل شر قتلة، فبعث لجنكي في المجيء. فجاءه في ذلك المنزل، ولم يجاوز له الملامة فهداه الله للأصوب من الرأي.

    ولا يشك أحد من الرماة الذين في إدالة جني أنه يقتله فلما رأوه راجعاً إلى داره سالماً سبّوا القائد علي ولعنوه غضباً وغيظاً. ثم رجع إلى تنبكت.

    ثم بعث أهل جني لأهل البلادات كلها التي على سواحل البحر بالأمان إن يرجعوا إلى مكانهم. فمنهم من بادر بالرجوع، ومنهم من تأخر ثم رجع.

    وفي القابل في التاسع عشر بعد الألف عند أول فيض ماء البحر رجع إلى مدينة جني مع أسكيا بكر لمصالح السلطنة. ولما وصلها لم يشك أحد من الرماة الذين كانوا في إدالته أنه ينتقم من جنكي. ولا يشك هو في ذلك.

    فنزل خارج المدينة عند الجنان، وصرفوا لكَل شاع محمد فحضر. ثم رأى أيضاً أن قبض جنكي ليس بمصلحة ويكون فساداً في الأرض الذي لا ينجبر. فقطع عليه النصاف العظيم وقبض في ذلك مالاً عظيماً جداً في قبائله، وأدوه بعجلة وصرعة، وهم فارحون لسلامته، وهو عزيز عندهم حبيب في قلوبهم.

    وقد حاسد أسكيا بكر كل شاع محمد حينئذ لما رأى أن قدره فاق على قدره، وبينهما تفاوت كبير. ثم رجعوا إلى تنبكت وقد طار عقل الباشا محمود من قبضه لما يترتب فيه من المفسدة العظيمة. فحين حضر بين يديه عند الوصول سأله هل قبضه أم لا. فقال: لا، بل رجع نصافاً. فدعا له فقال: لا أراهم الله تعالى ساعة ليس هو فيها. فأعطاه جميع النصاف.

    وأما أسكيا بكر فوشى بكل شاع عند الباشا محمود، وأكثر في النميمة له عليه، وقال: إنه رأس الفتنة، وهو الذي بعث عند أسكيا في مجيء دند فاري. فكتب للقائد أحمد بن يوسف وأمره بقتله. فدافع عنه جهده حتى قال أنه يعطي عنه خمسمائة مثقال إن لا يموت. فأبى إلا الموت. فقتل ظلماً وعدواناً.

    وحين عزم القائد علي بن عبد الله على الرجوع من جني عزل القائد حمد بن يوسف من القيادة فولاها للطالب محمد البلبالي لما جاء إلى تنبكت. فأصلح من شأنه وسار إليه حاكماً.

    وبقي القائد علي بن عبد الله في ذلك التمكن والاعتلاء إلى العام الحادي والعشرين بعد الألف، وهو في أسفَي للحراسة في وقتها المعرفة، إذ جاء خبر سيد كري أجي، وهو دند فري يومئذ، أنه يقصدهم بغزو كبير من عند أسكيا الأمين صاحب دند. فتوجه إليه بجيش عظيم، وفيهم الشيخ أحمد توريك الزبيري، في شهر الربيع الثاني والله أعلم. فوصلهم في شرك شرك، مكان في أقصى أرض بنك من جهة القبلة. فوقف كل طائفة من الجيشين في مقابلة صاحبها. ثم افترقوا بلا قتال، فولى هذا مدبراً، وهذا مدبراً. وذكر عن أسكيا بكر أنه قال ما رأيت طائفتين قد ذهبت دولة كل واحد منهما إلا إياهما.

    وقيل أن القائد علي بعث لدند فاري سيد ذهباً على يد أسكيا بكر لكي يرجع من غير قتال، وهو ابن أخت أسكيا بكر المذكور. فرجع وسمع بذلك أسكيا الأمين. ولما بلغ لديه كاشفه في ناديته وغايظ عليه جداً وغيره بأخذ الرشوة في ترك القتال. فلما دخل داره شرب ماء الحلس فمات. فوجد الذهب في أمتعته، ولم يعرفه به أحد قبل. فقويت التهمة.

    فرجع القائد علي بالمحلة إلى تنبكت فعزل الباشا محمود لنك، وتولى ضحوة الأربعاء الخامس عشر من شعبان المنيرفي العام المذكور في شهر يُليُه ولله أعلم. فركب ساعتئذ وطاف في البلد. فلما نزل دخل عليه الباشا محمود فسلم عليه وحياه ودعا له وقال له في في الكلام: ها أنت أبنيت باباً، كما دخلت فيه تخرج منه. إشارة منه للعزلان. فكان الأمر كذلك، فعن قليل مات. ومكث في السلطنة ثمانية أعوام وسبعة أشهر، وهو آخر الباشات من مراكش. وقيل أنه مات مطعوماً.

    الباب الثامن والعشرون

    ذكر آفات ومحن في مدينة مراكش

    وقد تقدم أن دخول الفقهاء أولاد سيد محمود في مدينة حمراء مراكش هو فتح أبواب البلاء لها.

    وذكر في الخبر أنهم أدركوا فيها أسارا النصاري يستخدمون يدخلون ويخرجون، وفيهم واحد ما رئي قط منذ أُسر منشرحاً ولا متبسماً إلا يوم دخول الفقهاء البلد، فوافقوا به عند باب السور، فلما رآهم ضحك وفرح غاية الفرح فزالت عنه ما به من عبوسة الوجه وتكمش الحال. فعجب الناس به، وانتشر خبره في البلد، واتصل بالسلطان مولاي أحمد، فأمر بسؤاله عن ذلك. فقال: وكيف لا أفرح، وقد تم مرادنا في بلدكم هذا، لأنا روينا عن أخبارنا أن خرابه دخول المتلثمين فيه، وهم هؤلاء الناس بالصفات التي وصفت لنا.

    فأول ما بدأ فيه من البلاء على السلطان قيام مولاي نصر بن السلطان مولاي عبد الله، فأجابه أهل الغرب كافة لمحبة والده في قلوبهم. وخاف منه مولاي أحمد خوفاً عظيماً، وخرج إلى برا بالمحلة الكبير المتينة، فسرح الفقهاء المثقفين وعفى عنهم. فأمكنه الله منه وقتله وبعث بفرحه إلى بلاد السودان.

    ثم ترادفت عليه المحن من كل وجه حتى قيل أنه ندم على ما صدر منه لعلماء السودان. ثم قام عليه ولده وقرة عييه ولى عهده مولاي الشيخ في مدينة فاس. فجهز إليه الجيش بنفسه وقبضه، وأمر الباشا جودار أن يذهب به إلى مكناسة ويسجنه فيها. ورد البيعة لابنه أبي فارس، وأعلم جودار بذلك بعد ما رجع من مكناسة، وهو شقيق مولاي الشيخ المذكور.

    ثم أطعمته السم زوجته عائشة بنت أبي بكر الشبانية أم ابنه مولاي زيدان، وهما معه في هذه الغيبة، في تين أكله هو وحفيدته ابنة الشيخ، وهي صغيرة. أكلت منه واحداً، كيفما بلعته في الساعة طارت ونزلت على الأرض وماتت من حينها. وتمكن في السلطان، فبادر بالخروخ من مدينة فاس، ورجع إلى مدينة حمراء مراكش، ومات في الطريق في أواسط الربيع النبوي في العام الثاني عشر بعد الألف.

    وكتمه جودار عن الناس حتى بلغوا المدينة، فدفن فيها. وأنفذ وصيته في بيعة مولاي أبي فارس، فبايعوه. وتولى السلطنة مولاي زيدان في فاس بنفسه، وبايعه أهلها، فقامت الفتنة بينهما. فجهز الجيش إلى فاس، فقتال مولاي زيدان، وأمر عليهم جودار. فلما قارب إليه سمع أنه خرج بنفسه لقتالهم، بعث رسولاً إلى مولاي أبي فارس وأخبره أن مولاي زيدان خرج بنفسه في المحلة يقصدهم، ولا يقدر هو محاربته ومطاردته قطعاً، ويأمر بإطلاق مولاي الشيخ ليكون لهم أمير الجيش حتى يقاتلوه. فأنعم له بذلك، وبعث جودار في تسريحه.

    ثم بعد رجوع المرسول من عند مولاي أبي فارس كتب ثانياً لجودار فقال له فيه: إذا ضربت بذلك السيف فرده في غمده. فوقع الكتاب في يد مولاي الشيخ قبل أن يصل جودار، فقرأه وفهم المراد بتلك الإشارة. فاقتتلا وغلب مولاي زيدان، وهرب إلى أرض سوس. ورجع مولاي الشيخ إلي فاس وتأمر فيها، ثم جهز الجيش إلى مولاي أبي فارس في مراكش لقتاله، وأمر عليها ابنه مولاي عبد الله الصغير.

    فغلب أبا فارس، وهرب إلى الجبال. وتولى السلطنة لنفسه في مراكش، ولم يمكث فيها إلا عاماً وتسعة أشهر. وكذلك مولاي أبو فارس لم يمكث فيها إلا عاماً وتسعة أشهر. ولما تولى جاءته أمه وأمرته بقتل الشيوخ الكبار خدام جده أحمد ليتهنا في تلك السلطنة. فقتلهم جميعاً، وهم أحد عشر قائداً، منهم الباشا جودار، وبعث برؤوسهم لوالدته في فاس. فحين رآهم انكسر قلبه في أمر الدنيا، وندم على السلطنة.

    ثم خرج مولاي أبو فارس من الجبال وتوجه فاس، فسكن عند أخيه مولاي عبد الله الشيخ. ثم احتال مولاي زيدان حتى جهز الجيش إلى مولاي عبد الله في مراكش، وأمر عليهم ابن عمه مولاي أبو حسون، ويقال له بو الشعير أيضاً. فقاتله وغلبه. وهرب إلى فاس عند والده مولاي الشيخ. فقتل عمه أبا فارس، وتغلب على والده المذكور.

    فاغتم لذلك وهرب إلى النصار وسكن عندهم. ثم باع لهم العرائش، وهو موضع نفيس عزيز جداً في مملكة المسلمين، فتولاها النصارى، وهي في أيديهم إلى الآن. وبقي عندهم إلى أن مات، وقيل مات مرتداً والعياذ بالله.

    وبقي مولاي عبد الله في فاس يشتغل بالأعمال السيئات من الظلم والجور وغيرها حتى حجروه وأمسكوا على يديه إلى أن مات. فقاموا بأنفسهم بلا وال ولا أمير سوى الأشياخ في كل حومة إلى الآن.

    وأما مولاي أبو حسون فتولى السلطنة لنفسه في مراكش نحو أربعين يوماً. فوجد أهلها في غاية من ضيق الغلاء، فأخرج لهم من هرايا السلطنة من كل صنف من الطعام المدخرة ونشرها لهم، ولذلك سُمي بو الشعير. ثم جاء مولاي زيدان، فقتله وتولى السلطنة.

    ومن ذلك البلاء حدوث الطاعون والوباء فيها، ولم تكن قبل، كاد أهلها أن يفنى أصلاً وفصلاً من اتصالها ودوامها، وهلك منها من لا يحصى عدده إلا الله تعالى. ولم تنفك تلك المرينة عنها إلى هلم جراً.

    وقد أدركت أن الأمير السلطان مولاي أحمد أنشأ بناء الجامع، ووضعه وضعاً عجيباً، فسمي بذلك جامع الهنأ. ثم شغل عنه بترادف تلك المحن ولم يكمله حتى توفي، فسمي جامع بذلك جامع الفاناء.

    ثم قيام سيد أحمد بن عبد الله السوري، وهي الفتنة العظيمة والمحنة الجسيمة التي شتت الشمل وبتت الأصل والفصل، بعثه الله تعالى عليهم عذاباً وانتقاماً، ولحكمه السابق توفية وإتماماً. فقام من واد السور في شهر المحمرم الحرام فاتح عام التاسع عشر بعد ألف في يوم عاشوراء-واد السور بلد بين توات وتفلالت-فأجاب دعوته أخلاط من الخلق. فتوجه إلى الأمير مولاي زيدان في مراكش بعد ما بعث إليه رسالات نظماً ونثراً يذكر فيها الكبائر التي يرتكبونها في دين الله تعالى وتغيير سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

    فخرج إليه الأمير مولاي زيدان فطارد معه، والرصاص ينزل على أصحابه ولا يؤثر فيهم شيئاً. فهزم عسكره وهرب إلى الجبال. فدخل أصحابه المدينة وأفسدوا فيها، ودخلوا في دار السلطان وأكلوا جميع ما فيها، وأبرزوا الحرائر من الجدور وجردوهم وفعلوا بهن الفواحش مثل ما فعل محمود بن زرقون بديار أولاد سيد محمود، سواء بسواء، جزاء وفاقاً، سبحان الملك القادر الذي لا يغفل عما يعمل الظالمون. ورفعوا جميع ما في الديار من الأموال والأمتعة والآثاث ونشروها في الآفاق والأقطار. وجاء كثير منها في مدينة تنبكت لرسم التجارة، فتبايعها الناس بينهم وتملكوها. ودخل منها متاع في دار أولاد سيد محمود لينظروها من زينتها وحسن تراكيبها. فكان ذلك عظيم الاعتبار لأولي الأبصار من فعل الرب الذي انفرد بالقوة والاقتدار.

    تنبيه: أما الأمير السلطان مولاي أحمد الذهبي فهو ابن مولاي محمد الشيخ ابن مولاي محمد أمغار الشريف بن عبد الرحمن. وأمه جارية اسمها للّ عودة أبوها فلاني الشريف.

    أمغار جاء من المشرق، وأم أرض سوس المغرب فنزل فيها وسكن. وتلقاه أهلها بالتعظيم والإكرام والتشريف والاحترام. وفي آخر الحال ولوه أمرهم فكان أميراً. ومدته ثلاثة وثلاثون شهراً، فتوفي.

    وخلف من الأولاد ثلاثة مولاي: أحمد الأعرج وهو الأكبر، ومولاي محمد الشيخ، ومولاي عبد الله. فتفرع من مولاي محمد الشيخ مولاي عبد المالك، ومولاي أحمد الذهبي. وتفرع من مولاي عبد الله أولاد كثير، منهم مولاي محمد، ومولاي ناصر. أما مولاي أحمد الأعرج فكان أميراً في مدينة حمراء مراكش. ثم سعى بينه وبين أخيه محمد الشيخ النمامون وقالوا له إنه يطلب ملكه، فكانت فتنة بينهما حتى اقتتلا، فغلبه مولاي محمد الشيخ، وثقفه إلى أن مات.

    وبقي مولاي محمد الشيخ في تلك السلطنة إلى أن توفي. فخلفه فيها أخوه مولاي عبد الله ومكث فيها سبعة عشر عاماً. فجاء صواباً لأهل الغرب وأحبوه كثيراً. فنحّى أولاد أخيه إلى أطراف المملكة، وكلموه في ذلك فقال لهم: أريد لكم الحيوة وطول البقاء وإذا سكنتم بين أولادي يقتلونكم. وبقوا على تلك الحال حتى مات.

    فخلفه ابنه مولاي محمد المسلوخ في السلطنة، ومكث فيها عاماً وتسعة أشهر. فغضب أولاد عمه عبد المالك وأحمد الذهبي، فتوجها إلى أمير المؤمنين العثماني صاحب الفسطنطين ولطب منه عبد المالك أن يمده بالقوة من الجيش حتى يصيب ملك مراكش. فساعفه بمراده، وأمده من جيش ولأتراك ما يقده، فغلب ابن عمه مولاي محمد بن مولاي عبد الله. وهرب إلى النصارى.

    فتولى مولاي عبد المالك السلطنة ومكث فيها عاماً وتسعة أشهر أيضاً. وبدل أحوال أسلافه بأحوال الأتراك، حتى في زي الملابس وفي المطاعم وتسميته أرباب الرتب من الخدام. فصار جميع أحواله في سلطنته أحوال الأتراك، واستعمل في الأسلحة المدافع على أنواعها، وفي الملابس القفاطين والفرجيات وشدخوخ وغيرها، وفي تسمية الخدام البشوطات وضباشيات والولضاش وغيرها.

    فطلب مولاي محمد بن مولاي عبد الله من سلطان النصارى أن يمده بالجيش لقتال مولاي عبد المالك، فأجابه إلى ذلك. وجعل عليهم ابنه فتوجهوا إليهم. وفي يوم التقاء العسكرين كان من قدر الله تعالى موت ثلاثة نفر مولاي محمد ومولاي عبد المالك وابن سلطان النصاري بلا علاج ولا قتال، فكان من عجائب الاتفاق ذلك تقدير العزيز العليم. وبقي الجيشان يتقاتلون ولا علم عند أحد من الجيشين بوفاة السلطان مولاي عبد المالك، لأن القائد محمد طابع كتمه ولم يبديه لأحد، يجيء إلى بيت عوده الذي هو فيه ويكلمه ويشكر له من رجاله من شاء، ويولي إليهم ويقول لهم: السلطان يسلم ويراكم وما أنتم عليه، ويشكركم ويدعو لكم-حتى هزموا جيش النصارى، فولوا مدبرين. فلما أظهر وفاته هرب مولاي أحمد الذهبي واختفى خوفاً ممن أن يقتلوه.

    فعزم الأتراك على تولية مولاي إسماعيل بن مولاي عبد المالك، فلم يقبل ذلك أهل مراكش. فجيء بمولاي أحمد أينما كان في الساعة. فولوه فكان مولاي أحمد أميراً حينئذ. ثم شرع في قتل قياد أخيه الكبير لبغض سبق له فيهم من أفعالهم، منهم القائد الدغالي والقائد رضوان والقائد جعفر والقائد علي الجنوني، إلا القائد جودار والقائد محمد طابع، ولكن سجنه اثني عشر عاماً سجن ثقاف في جنان، وله فيها كل شيء من أنواع الخير والنعم. ثم سرحه وصرفه إلى السودان باشا، ومكث هو في تلك الأمرة سبعة وعشرين عاماً ونصفاً، فخرج فيها عجائب وغرائب من الذكاء والمعرفة بجميع الأشياء والهمة العلية والسعادة الدنيوية ومواتاة الليالي والأيام، حتى قال أنه ما همّ بشيء قط إلا يأتيه وفق ما أراد بل فوق ما نوى. ثم توفي في أوائل عام اثني عشر بعد ألف. فاضطربت الدولة ورجعت القهقر إلى هلم جراً.

    الباب التاسع والعشرون

    نبذة في تاريم الملوك السعدية

    ولنرجع إلى إتمام الكلام في أمر مولاي زيدان مع السوري. فلم يدخل المدينة بنفسه أصلاً بل بقي خارجها أيام غلبته حتى تجهز إليه سيد يحيى السوسي، فالتقى معه وراء سور المدينة في أوائل رمضان في العام الثاني والعشرين والألف. فغلبه وقتله وقطع رأسه أهل مراكش، وبقي الأطفال يلعبون به. وبعث سيد يحيى للسلطان مولاي زيدان أن يأتي لبلده ويدخل في سلطنته. وأرسل إليه هو أن ينصرف لبلاده، متى انصرف يقدم لبلده، أينما شاء. ولم يأمن فيه وخاف منه الغدرة. فلما ولى محققاً رجع في سلطنته، وبقي فيها إلى أن توفي في العام السابع والثلاثين بعد ألف. ومكث في السطنة اثنين وعشرين سنة.

    ثم تولى ابنه أبو مروان مولاي عبد المالك. فكان سفاكاً للدماء مسرفاً على نفسه مشتغلاً بالقبائح من الأفعال، حتى ملّ منه الناس فقتله قومه. وتوفي في أواسط سنة تسعة وثلاثين بعد ألف. فمكث في السلطنة سنتين وثمانية أشهر.

    ثم تولى أخوه أبو عبد الله مولاي الوليد. فسارفي ولايته بسيرة أخيه. وملّ منه الناس أيضاً، فتعاهدت عمته الشريفة للّ صفية مع المماليك خدام الدار على قتله. فضُرب بالمدفعة ومات في أواسط سنة خمسة وأربعين وألف. ومكث في السلطنة خمس سنين.

    فولت العمة أخاهم الأصغر سناً الفاضل الميمون المبارك مولاي محمد الشيخ بن مولاي زيدان فكان أمير المؤمنين وخليفة المسلمين ذا سيرة حسنة وطريقة زينة محباً للفقراء والمساكين معظماً للعلماء والصالحين. وله السلطنة اليوم تسعة عشر سنة، أطال الله بقاءه وأدام له النصر والتمكين والفتح المبين، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

    الباب الثلاثون

    ذكر الوفيات والتواريخ لبعض الأجناد والفقهاء والأعيان والإخوان واللأقارب
    من مجيء الباشا جودر إلى عام الحادي والعشرين والألف
    وذكر بعض الحوادث فيها على الترتيب

    من ذلك موت شاع فرم علي جاوند وبنك فرم عثمان درفن وفندنك بوب مريم وغيرهم عند ملاقات الباشا جودار وأسكيا إسحاق في المعركة، وذلك في يوم الثلاثاء السابع عشر من جمادي الأولى في العام التاسع والتسعين والتسعمائة.

    وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي الحجة الحرام مكمل العام المذكور توفي تنبكت منذ يحيى ولد بردم، قتله أصحاب القائد المصطفى التركي عند سور القصبة بالرصاص.

    وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين منه توفي فاري منذ ينب ولد ساي ول في المعركة بين الباشا محمود بن زرقون وبين أسكيا إسحاق أيضاً.

    وفي العام المكمل الألف في شهر جمادي الأولى والله أعلم توفي أسكيا إسحاق وأصحابه في نمتك، وأسكيا محمد كاغ وأصحابه في مدينة كاغ. وبين وفاتهما أربعون يوماً.

    وفي هذا العام توفي الخطيب محمود دارمي في كاغ رحمه الله تعالى.

    وفي يوم الخميس التاسع من المحرم الحرام الفاتح للعام الأول بعد الألف توفي الشريفان الشهيدان بابا الشريف وعمر الشريف سبطا الشريف أحمد الصقلي، قتلهما الباشا محمود بن زرقون في سوق مدينة تنبكت. ودفنا في قبر واحد في مقابر الجامع الكبير.

    وفي ليلة الاثنين أول ليلة من المحرم الحرام الفاتح للعام الثانية بعد ألف قرب طلوع الفجر توفي العلامة الفقيه القاضي محمود كعة بن الحاج المتوكل على الله في أزكيا. وحمل إلى تنبكت، وصلي عليه بعد صلاة العشاء الآخرة من ليلة الثلاثاء، ودفن ساعتئذ بمجاورة قبر الفقيه أحمد بن الجاج أحمد رحمهم الله ونفعنا ببركاتهم أمين.

    وفي يوم الأربعاء الرابع والعشرين منه توفي الفقيه العالم المفتي أحمد معيا، والفقيه الزاهد محمد أمين بن القاضي محمد، والفقيه المصطفى بن الفقيه مسر أند عمر، قتلوا شهداء مع إحدى عشر نفراً معهم في الأسارى لما قبضهم الباشا محمود بن زرقون في جامع سنكري يومئذ، رحمهم الله تعالى وأعلى منازلهم في الفردوس الأعلى أمين.

    وفي يوم السبت التاسع عشر من شهر صفر في العام المذكور تولى القضاء الفقيه القاضي محمد بن أحمد ابن القاضي عبد الرحمان بأمر الباشا محمود المذكور على يد حبيب بن محمد بابا بعد ما عرضه على العلامة الفقيه عبد الله أحمد بُري. واستصحب إليه معه عشرة من الشواش، فاستعذر له وطلب منه الإقالة. وأعطاه عقداً مكتوباً فيه على والده محمد بابا أربعمائة مثقال ذهباً له، فأقاله حينئذ.

    وفي شهر جمادي الأولى منه توفي الفقيه محمد بابا مسر بن الفقيه أند غمحمد المعروف بالمصلي بن أحمد بن ملوك بن الحاج الدليمي في مدينة جني، كان فقيهاً عالماً جليلاً. وكان العلامة الفقيه عبد الله بن أحمد بُري يستمع لإقرائه خارج الدار حيث كان في تنبكت رحمه الله تعالى بمنه.

    وفي يوم الجمعة التاسع عشر من شوال بعد صلاة العصر توفي شيخ الإسلام مفيد الأنام التقي النقي الصالح الفاضل العلامة الفقيه محمد بن الفقيه القاضي محمود بغيغ الونكري، ودفن في ليلة السبت في مقابر سنكري، رحمه الله ونفعنا به أمين.

    وفي ثامن عشر من ذي الحجة الحرام آخر شهور العام الثاني بعد ألف ورد في مدينة تنبكت كتاب الفقيه القاضي أبي حفص عمر بن الفقيه القاضي محمود ببشارة وصولهم مراكش سالمين.

    وفي هذا العام أعني الثاني بعد ألف توفي القائد بو اختيار في تنبكت، ودفن في جامع محمد نض.

    وفي ليلة الجمعة الأولى من شهر المحرم الحرام فاتح العام الثالث بعد ألف توفي الشيخ الفقيه الصالح البارع في الحديث والسير والتواريخ وأيام الناس البالغ الغاية القصوى في الفقه، حتى قال بعض من عاصره من الشيوخ أنه لو كان موجوداً في زمن أبن عبد السلام بتونس لاستحق أن يكون مفتياً فيها، القاضي أبو حفص عمر الصادع بالحق بن القاضي سيدي محمود بن عمر في مراكش. دفن بمجاورة القاضي أبي الفضل عياض رحمهم الله تعالى. وكان كثيراً ما يقول في حياته عند ذكر أبي الفضل عياض ما علي من دفن بمجاورته بأس، حتى رزقه الله ذلك بمنه. وقيل لما احتضر بعث لسيد علي بن سليمن أبي الشكوي أن يأيته فأعطاه براءة مطوية، وقال له: بلغها للسلطان وقت كذا. فكان ذلك الوقت بعد وفاته. فبلغها إياه فنشرها، فإذا فيها: أنت الظالم وأنا المظلوم وسيلقى الظالم والمظلوم بين يدي الحاكم العدل غداً. وقيل أنه ندم على ما صدر منه لهم حتى قال: لو اشتركت مع أحد في رأي ذلك لمحوته أصلاً وفصلاً.

    وفي يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادي الأولى عام الرابع بعد ألف توفي الفقيه أبو بكر ابن محمود أيد الإمام رحمه الله تعالى.

    وفي ليلة الأربعاء ليلة الفطر عند استهلال الشهر، والناس ما زال في الزغاريت والتهاليل عليه والتباشر به، ولد جامع هذه الكراريس عبد الرحمن بن عبد الله بن عمران بن عامر السعيدي [السعدي]-ألهمه الله رشده وأثبته في ديوان السعادة عنده-وذلك في العام الرابع بعد الألف.

    وفي ليلة الثلاثاء الثامنة والعشرين من الشهر المذكور توفي الشيخ الصالح ولي الله تعالى الفقيه إبراهيم بن الفقيه عمر في يندبغ، رحمه الله تعالى ونفعنا به أمين.

    وفي ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر عام خمسة بعد ألف توفيت أم سلمة بنت الفقيه محمود بن عمر في تنبكت، وهي آخر بناته موتاً.

    وفي يوم الجمعة قرب الغروب السابع عشر من ربيع الأول في هذا العام توفي القائد منصور بن عبد الرحمن في تنبكت، وصلي عليه ضحوة السبت، ودفن بمجاورة قبر سيد يحيى رحمه الله في مسجد محمد نض. ثم جاء ابنه من مراكش فنقله إليها.

    وفي يوم الجمعة التاسع من رمضان في العام المذكور توفي الإمام أحمد بن الإمام صديق في مزرعة كربع، وحُمل إلى تنبكت، وصلي عليه بعد صلاة الجمعة، ودفن في مقابر سنكري، رحمه الله تعالى.

    وفي أواخر ذي القعدة الحرام في العام المذكور توفيت عائشة أسر بنت القاضي العاقب في مراكش.

    وفي ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء السادسة من ذي الحجة الحرام المكملة لعام خمسة بعد ألف توفي محمد سيف السنة بن القاضي العاقب في مراكش.

    وفي يوم الثالث عشر منه توفي فيها سيد بن عثمان ابن الفقيه القاضي سيد محمود رحمهم الله تعالى أمين.

    وفي يوم الجمعة السادس من صفر عام ستة بعد ألف توفيت سعيدة أم الفقيه عبد الله بن الفقيه محمود بن عمر، وصليت عليها بعد صلاة الجمعة. وهي آخر نسائه موتاً، رحمهم الله أمين.

    وفي وقت الضحى من يوم الخميس الخامس من الشهر المذكور في العام المذكور توفي الشيخ الفقيه الولي الصالح المتبرك به سيدي الواعظ أبو زيد عبد الرحمن بن سيدي ولي الله تعالى الفقيه القاضي محمود بن عمر بمدينة مراكش، ودفن مع ابن القطان بإزاء جامع علي بن يوسف، رحمهم الله تعالى ونفعنا ببركاتهم في الدنيا والآخرة أمين.

    وفي يوم الجمعة العشرين منه بعد صلاة الصبح توفي محمد مؤذن سنكري في تنبكت، وصلي عليه وقت الضحى، ودفن ساعتئذ.

    وفي شهر ربيع الثاني منه توفي شيخ المداح الفقيه الصالح عمر بن الحاج أحمد بن عمر المعروف ببابا كري في مدينة مراكش، رحمه الله تعالى.

    وفي أول يوم من شعبان منه توفي الشيخ الفقيه أبو محمد عبد الله بن الفقيه القاضي محمود بن عمر في مدينة مراكش، رحمه الله تعالى.

    وفي يوم الأربعاء الخامس من شوال منه توفي الباشا محمد طابع في بلد أكد، هو وكرار في موضع واحد.

    وفي أول ليلة من ذي الحجة الحرام مكمل عام ست بعد ألف توفي القائد المصطفى التركي في مرسى كبر، ودفن في جامع محمد نض في جوار سيد يحيى رحمه الله تعالى.

    وفي صبيحة الخامس في شهر رجب في العام الثامن بعد ألف توفي الفقيه الفاضل الخير الزاهد المؤدب خال الوالد سيد عبد الرحمن بن الفقيه الفاضل الإمام القاضي سيد علي بن عبد الرحمن الأنصاري المسناني، ودفن في مقابر الجامع الكبير رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين.

    وفي هذا العام توفي الفقيه العالم عثمان بن محمد بن محمد بن ذنب سل الفلاني إمام مسجد محمد نض، رحمه الله تعالى.

    وفي شهر رجب الفرد عام العاشر بعد ألف توفي الفقيه العالم العلامة أبو محمد عبد الله بن الفقيه أحمد بري بن أحمد بن الفقيه القاضي أند غمحمد، رحمه الله تعالى بمنه.

    وفي ليلة الخميس ثاني عشر رجب الفرد عام أحد عشر وألف بعد الغروب توفي الفقيه العالم الفاضل الخير محمود ابن محمد الزغراني التنبكتي مولداً ومنشأً، وصلي عليه ضحوة الخميس، ودفن بباب روضة الفقيه محمود. ويقال أن أباه هنالك وكذا أخوه محمد. فمات عن أربع وستين، كما أخبر به هو. وأخذ رحمه الله عن الفقيع أحمد محمد سعيد الفقه، وبعده عن عبد الله بن الفقيه محمود. ومهر في النحو، ودرس في أوائل أمره. ثم غلبته علة السعال، فلازم بيته سنين، وتخلف عن الجماعات والجمع لأجل ذلك وكان إماماً في جامع التواتيين.

    وفي ليلة الجمعة رابع شعبان في العام المذكور وقع البحر في معدك، وذلك يوم سابع من يناير في أيام الباشا سليمن. ثم وقع فيها أيضاً في أيامه ليلة ثامن رجب الفرد في العام الثاني عشر بعد ألف وذلك ثاني دجنبر.

    وفي ضحوة ثالث عشر من ربيع النبوي عام الثاني عشر بعد ألف توفي المنصور بالله أبو العباس مولانا أحمد الذهبي خارجاً من بدينة فاس راجعاً لمراكش. فمات في الطريق، فحمل إليها ودفن فيها.

    وفي يوم السبت قرب الزوال لليلة بقيت من شعبان في العام المذكور توفي الفقيه العالم الفاضل بقية السلف مفيد الطلبة أبو حفص عمر بن محمد بن عمر صنو عامر بن عمران السعيدي، رحمه الله تعالى وعفى عنه وأسكنه فسيح جنته بمنه. ودفن في قرب والده في مقابر الجامع الكبير.

    وفي العام الثالث عشر بعد أفل في شهر صفر توفي أسكيا سليمن بن أسكيا داوود في الفع كُنك. ولحقه هنالك القاضي محمد بن أحمد بن القاضي عبد الرحمن، فتولى تجهيزه وحمل إلى تنبكت ودفن في مقابر سنكري.

    وفي شهر ذي القعدة من هذا العام توفي الولي الصالح النقي الفاضل صاحب الكرامات الفقيه علي سل بن أبي بكر بن شهاب الولاتي التنبكتي مولداً ونشاً، سبط ولي الله تعالى بابا مسر بير، وهو حبيب والدي. كان يحدث له أن الشيخ المقبور تحت صومعة الجامع الكبير بتنبكت جده. نعم وهو كذلك، لأنه ابن عم مسر بير المذكور، واسمه عمار، وكنيته أبو صم، كناه به عربان ولات، لأنه يتصمم عن ما لا يعجبه من الكلام. ولما أصلح القاضي العاقب المسجد القديم هُدم قبره ولا يعرف أنه هنالك، فظهر وما تغير من جسده ولا من كفنه شيء. فوضع عليه العلامة شيخ الإسلام الفقيه محمد بغيغ الونكري برنسه حتى سوي القبر وبني عليه. ثم بعد ذلك جاء إلى تنبكت واحد من أولياء الغرب زائراً فجاء إلى عند الفقيه المحمدث الحافظ أبي العباس أحمد بن الحاج أحمد ابن عمر، فوجده مع الفقيه محمد بغيغ الونكري والفقيه أحمد معيا. فسلم عليهم وأخبرهم أنه ما جاء لهذا البلد إلا لأجل الرجل الصالح المقبور تحت صومعة الجامع، قد رآه وأخبره أن قبره هنالك، وطلب أن يزوره. فجاء إليه وزاره. فسأله الفقيه محمد بغيغ أو واحد منهم عن لونه، فقال لمحمد بغيغ: أنت أكحل منه. وقال لأحمد مغيا: أنت أنقى منه. وقال: لونه كلون هذا الرجل-أشار إلى العلامة الفقيه أحمد بن الحاج أحمد. ثم مشى، رحمهم الله تعالى ونفعنا بهم أجمعين.

    وفي ليلة الأحد رابع عشر شعبان في العام الرابع شعر بعد ألف وقع البحر في معدك لاثني عشر خلت من دجنبر في أيام الباشا محمود لنك.

    وفي خامس وعشرين من هذا الشهر في هذا العام توفي الفقيه العالم العلامة الفاضل الخير البارع المدرس أبو عبد الله محمد بابا بن محمد الأمين بن حبيب ابن الفقيه المختار في يوم الخميس بعد صلاة الصبح. وولد يوم الخميس بعد صلاة الصبح أيضاً في جمادي الآخرة سنة إحدى وثمانين بعد تسعمائة، وعمره اثنان وثمانون سنة وشهران، أسكنه الله تعالى أعالي الفراديس بمنه. كان رحمه الله مشاركاً في الفنون، له فيها مجاولة جيدة وعبارة مجددة، برع في العلم ودرس وألف. أخذ عن الفقيه عبد الرحمن بن الفقيه محمود وحضر مجالس الفقيه محمد الونكري فقهاً ونحواً وكلاماً، ولم يباشر القرأة عليه. وكاتبه بالأسئلة، وقرنه مع والده الفقيه الأمين في الإجازة. ولازم الشيخ سيدي أحمد في النحو إلى أن اتقنه. وقرأ على الفقيه مغيا جملة من مختصر خليل، وسمع الباقي عن الفقيه محمد بن محمد كري لما تولى الإقراء في مسجد سنكري، وسمع منه التوضيح عن أبن الحاجب، وقرأ عنه جمع الجوامع. وسمع المدونة والموطأ من الفقيه عبد الرحمن ابن أحمد المجتهد. وأخذ روايتي ورش وقالون دارية عن حامل لوائها في زمانه سيدي بن عبد المولي الجلالي، وعن عبد الله بن الفقيه أحمد بري، وأجازه بالشفاء والبخاري. وله قطعة من التواليف، رحمه الله: شرح ألفية السيواطي، وتكملة البجائي على اللامية، وشرح ملفقات شواهد الخزرجي. وله قطعة على مقامات للحريري. وله حاشية على البجائي لم تكمل. وله قصائد جياد ملاح في الأمداح. له قبل وفاته بخمس سنين أو أزيد في كل مولد قصيدة فصيحة التزمها، نفعه الله بها. ورثا شيخه الفقيه محمد الونكري والفقيه عبد الرحمن بقصيدتين، انتهى.

    وفي ليلة الثلاثاء الخامس عشر من شعبان في العام الخامس عشر بعد ألف توفي الأمين الفائد الحسن بن الزبير، ودفن في مسجد محمد نض في جوار سيد يحيى، رحمه الله تعالى.

    وفي يوم وفاته توفي أبو بكر ابن الغنداس التاركي في رأس الماء، قتله واحد تاركي من قبيلة كلميني. رماه بحريش في فمه، ورماه هو بالحريش. فماتا هو وأكنزر بن أوسنب ابنا الخالة.

    وفي يوم الثلاثاء العاشر من ذي القعدة الحرام في العام السادس عشر بعد ألف ورد الشيخ العالم العلامة فريد دهره وحيد عصره الفقيه أحمد بابا بن الفقيه أحمد بن الحاج أحمد بن عمر مدينة تنبكت، سرحه إليها الأمير مولاي زيدان بوعد منه في حياة أبيه متى منّ الله عليه بدار أبيه يطلقه أن يسير إلى دار أبيه. وبعد ما وفى له ذلك الوعد وانفصل عن المدينة ذاهباً ندم على ما صدر منه، لو لا أن الله تعالى قدر تربته في مسقط رأسه.

    وفي يوم الثلاثاء السابع عشر منه توفي الفقيه القاضي محمد بن أحمد ابن القاضي عبد الرحمن. وفيه تولى القضاء الفقيه الولي الصالح محمد بن أند غمحمد بن أحمد بري بأمر صاحب الأمر يومئذ الباشا محمود لنك.

    وفي شهر ذي الحجة المكمل للسادس عشر بعد ألف والله أعلم توفي الفقيه الإمام عبد الله بن الإمام عثمان بن الحسن بن الحاج الصنهاجي بمدينة جني، رحمه الله تعالى.

    وفي أوائل الربيع النبوي في العام التاسع عشر بعد ألف توفيت الشريفة نانا بير بنت الشريف أحمد الصقلي.

    وفي اليوم السابع من وفاتها توفيت ابنتها الشريفة نانا عائشة رحمهم الله تعالى وأعاد علينا من بركاتهم أمين.

    وفي يوم الخميس الخامس عشر من جمادي الأولى منه توفي الشيخ الفقيه عبد الرحمن بن أحمد المجتهد رحمه الله تعالى.

    وفي يوم الأحد الثان عشر من جمادي الآخرة منه توفي الفقيه صاحل بن ولي الله تعالى الفقيه إبراهيم. ولوالده هذا كرامات وبركات. ومن كرامته أن مسجد سكنري ينشق له حائطه بالليل، يدخل منه ويتهجد فيه. وتراب روضته نافع لوجع الضرس إذا وضع عليه، وقيل أنه مجرب، رحمهم الله تعالى ونفعنا بهم أمين.

    وفي ليلة الاثنين السابع من شوال عام عشرين بعد ألف توفي القاضي الفقيه محمد بن أند غمحمد بن أحمد بري بن أحمد بن القاضي الفقيه أند غمحمد.

    وفي هذه الليلة تولي صاحبه وخليطه قديماً الشيخ عبد النور السناوني، وصلي عليهما ضحوة الاثنين، ودفنا في مقابر سنكري رحمهم الله تعالى أمين.

    وفي يوم السبت اثني عشر منه تولى القضاء أخوه الفقيه العالم سيدي أحمد بن أند غمحمد بن أحمد بري بأمر الباشا محمود لنك أيضاً.

    الباب الحادي والثلاثون

    ذكر الباشاوات من سنة 1021 إلى سنة 1039

    وقد تقدم التاريخ الذي تولى فيه الباشا على بن عبد الله التلمساني. وتولى ضحوة الأربعاء الخامس عشر من شعبان المنير في العام الحادي والعشرين بعد ألف. ومن حين تولى تبدلت الأمور وتغيرت الأحوال ولا ترى إلا الحوادث والبدع إلى هلم جراً.

    ولما بعث أبو محلي سيد أحمد بن عبد الله السوري القائم كتابه لأهل تنبكت، بعد ما طرد الأمير مولاي زيدان ابن الأمير كولاي أحمد، رام الباشا علي بن عبد الله من الجيش الذين بحاضرة تنبكت أن يبايعوه ليكون أميراً، فأجابوه إلى ذلك وساعفوه عليه. ثم بعد ما خرجوا من عنده راجع إليهم عقولهم فندموا على ما صدر منهم من الإجارة والإسعاف، وأبوا وامتنعوا. ولما لم يجد منهم مراده ذلك رفض بيعة الأمير مولاي زيدان وبايع القائم السوري، فبايعه الجيش في بيعته، وتبعهم أهل جني في تلك البيعة إلى ستة أشهر.

    فورد الخبر بقيام سيد يحيى السوسي على السوري فقتله وبعث الأمير مولاي زيدان أن يرجع إلى داره في سلطنته، فرجع فبادر أهل جني إلى الإنكار على أهل تنبكت حيث رفضوا البيعة التي في أعناقهم من قديم عصر باطلاً، وخالفوا عليهم مخالفة شديدة. فتابعهم أهل كاغ، وهم ما زالوا على بيعة الأمير وما تحولوا عنها بحال.

    فخاف منها أهل تنبكت ورجعوا إلى البيعة المرفوضة، فجددوها. فبقي ذلك جناية كثيرة [كبيرة] على الباشا المذكور حتى أخذه بها الأمير في آخر الدهر أخذاً شديداً. وصار العمال في أيامه ظالمين جائرين مفسدين في الأرض من كل جهة ومكان.

    وفي أيامه جاء غراب أبيض في تنبكت، وانكشف أمره للناس في ثاني وعشرين يوماً من الربيع الأول عام الرابع والعشرين والألف. رأوه عياناً إلى يوم الأربعاء الثامن والعشرين من جمادي الأولى منه. قبضه الأطفال وقتلوه.

    وفي العام الخامس والعشرين بعد ألف زادت البحر على عادتها زيادة لم ير أحد مثلها قط. واتفق جميع الأشياخ المعمرين يومئذ على أنهم لم يروا مثلها في الكثرة، ولا رأوا من رآها. فغلبت على المزارع وأفسدت زروعها، وأغرقت كثيراً من بلاد المغرب في ناحية جني. ومات خلق كثير منها من الأدميين والبهائم. وفي هذا العام وقع البحر في معدك ليلة اثنين لأحد عشر خلت من ذي القعدة، وذلك يوم أحد عشر من نونبر

    وفي شهر المحرم الحرام فاتح عام السادس والعشرين والألف وقع بينه وبين القائد حد بن يوسف الأجناسي مغضبة واختلاف، فارتحل من القصبة، وخرج منها وسكن خارجها مع المختارين من أهل سربة المراكشيين، نحو ثلاثة وثمانين رجلاً، كلهم على نية واحدة. ورأى واحد في التصافي معه ويحرسونه ليلاً ونهاراً. فدخل أمره في النزول والنقصان حتى خلع قي يوم الاثنين الخامس من شهر الربيع النبوي في العام المذكور. ومكث في السلطنة خمس سنين غير شهرين.

    فتولى المقام يوم خلعه باتفاق الجيش كله الباشا أحمد بن يوسف العلجي. فكتبوا عليه للأمير مولاي زيدان بعد ما سجن ووثق في الحديد، وبينوا له تعدياته وقبيح أفعاله وما احتازه من مال السلطان دون الأمين. فصرف الأمير في أمره في العام القابل كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

    وبقيت الحوادث تزداد ولا ترى في مستقبل الزمان إلا ما هو أكبر من أختها وحُبس المطر في هذا العام، فخرج الناس للاستسقاء، وبقوا فيها أربعة عشر يوماً لا تزداد السماء إلا صحواً. ثم سقوا قليلاً.

    فكان فيه غلاء مفرطة في أرض تنبكت، مات في المجاعة خلق كثير، فأكل الناس ميتة البهائم والأجميين. ونزل الصرف إلى خمسمائة ودعاً. ثم صار وباء، فمات منها كثير من الناس بغير جوع. واستمر الغلاء إلى سنتين، وفرغ المال من أيدي الناس وباعوا آثاثهم وأمتعتهم. واتفق الشيوخ على أنهم لم يروا مثله قط ولا سمعوا بمثله من الأشياخ قبلهم.

    وفي يوم الخميس سلخ ذي الحجة مكمل العام المذكور وقع البحر في معدك، وذلك ثامن عشر من دجنبر.

    وفي يوم الأحد الثاني والعشرين من شهر الصفر عام السابع والعشرين بعد ألف بعد العصر سمع أهل تنبكت صوتاً في جو السماء نحو المشرق مثل الرعد الذي يتكلم من بعد لأجل غلظه في السماع، حتى حس بعض الناس لزلزلة الأرض. ووقع الرعب والفزع في أهل السوق، فهربوا واتشروا. وحدثني من أثق به من الإخوان أن ذلك الحال وجده قاعداً تحت الشجرة خارج البلد نحو مسافة يوم عنه. فتحركت الأرض تحته، وخرت الأشجار، وخرجت الحشرات في حجورهم. ثم سكنت الزلزلة فعادت الأشجار إلى حالها والحشرات إلى الحجور.

    وفي يوم الثلاثاء سلخ الربيع النبوي من هذا العام جاء الفتى الباشا عمار والقائد مامي التركي من عند الأمير مولاي زيدان في محملة فيها نحو أربعمائة رماة، والأمين القائد محمد بن أبي بكر. فنزلوا أبراز وقت الضحى من ذلك اليوم، وفي عشيته جاءهم الباشا أحمد بن يوسف للسلام عليهم، وكذلك فقهاء البلد وأعيانهم فاستهل عليهم شهر الربيع الثاني ليلة الأربعاء. أما الباشا عمار فدخل البلد في غدها، وأما القائد مامي والرماة فلم يدخلوا إلا صبيحة السبت. وقراءوا كتاب السلطان وأنفذوا ما أمر به في الباشا علي بن عبد الله. وسأله القائد مامي بأموال السلطان، وعذبه في ذلك عذاباً شديداً حتى مات فيها حينئذ.

    وأما القائد حد فقد خرج بالمحلة إلى أسفي بعد دخولهم البلد بثلاثة أيام. وقد شتتوا الرماة الذين جاءوا مع القائد مامي المذكور في الأرياف. وقد التحق كل فريق منهم بسربة من العلوج والأندلسي، ودفعوا مامي إلى مدينة كاغ، وبقي هنالك إلى أن مات.

    وسبب خروج القائد حد بتلك المحلة ما بلغهم من خبر دند فاري جاء بغزو من عند أسكيا الأمين متوجهاً إلى ناحية بلد كب. ثم بعث له هنبركي مرسولاً وأمره أن يرجع بجيش أسكيا لأنه مرض مرضاً مخوفاً، فرجع. وبقي القائد حد هنالك حراساً حتى فاض ماء البحر.

    وفي شهر جمادي الآخرة رجع الباشا عمار إلى مراكش مع الأمين القائد عامر بن الحسن عزيزاً مكرماً بلا محنة ولا بلاء التي نالت كل من تولى ذلك المقام بعده. وبقي القائد محمد بن أبي بكر أميناً في تنبكت.

    وفي شهر رجب خلع الجيش الباشا أحمد بن يوسف. ومكث في الولاية سنة كاملة وأربعة أشهر.

    وفي هذا الشهر تولى الباشا حد بن يوسف الأجناسي باتفاق أولئك الجيش. وفيه توفي أسكيا الأمين المذكور وتولى مقامه أسكيا داوود بن أسكيا محمد بان بن الأميرأسكيا داوود في دند. ثم رجع الباشا حد بالمحلة من ذلك المكان إلى تنبكت في ذلك الشهر، فكان والياً مباركاً ميموناً. وكانت أيامه غرة منيرة، فحرر الناس من عشور الكني في هذا العام لأجل ما بقي عليهم من مضرة تلك الغلاء، فكان فرجاً عظيماً على المسلمين.

    وفي أوائل شهر شوال في هذا العام طلع نجم ذو دنب فابتدأ أولاً طلع مع الفجر، ثم بقي يرتقي حتى توسط في السماء بين المغرب والعشاء إلى أن غاب.

    وفي ليلة الثلاثاء الحادية والعشرين من المحرم الحرام عام الثامن والعشرين والألف وقع البحر في معدك، وهو يوم التاسع العشرين من دجنبر.

    وفي سلخه توفي الباشا حد ودفن في مسجد محمد نض، ومكث في الولاية سبعة أشهر.

    وبهذا التاريخ تولى الباشا محمد بن أحمد الماسي باتفاق الجيش، فعزل أسكيا بكر كُنبو بن يعقوب بن الأمير أسكيا الحاج محمد. ومكث في الولاية اثني عشر عاماً وولى في فور ولايته أسكيا الحاج ابن أبي بكر كُيشع بن الفك دنك بن عمر كمزاغ. وقبض الباشا أحمد بن يوسف وسجنه، ولبث في السجن إلى أن مات. وولى يوسف بن عمر القصري قيادة جني، بعد ما أخذه وسجنه في تنبكت. ثم قيد ابن أخته مبارك على السربة المراكشية. ولما تمكن فيها أراد قتل خاله، ففطن عليه وبادر به هو، فأسقاه سماً قاطعاً، فمات من حينه. وأطلع حم بن علي الدرعي قائداً على السربة الفاسية، وهو بشوظ يومئذ. فقبض الله تعالى هوانه وهلاكه على يده، فقبضه [فقبض] القائد حم بن علي المذكور مع وزيره الكاهية محمد كنكل الماسي، وسجنهما إلى أن قتلا شر قتلة، بعد أن مكث في الولاية ثلاث سنين غير شهر واحد، وفي السجن ثلاثة أشهر. ومدته في الولاية مع مدة أسكيا الجاج سواء.

    فتولى القائد حم بن علي الدرعي مرتبة [مرتبته] يوم قبضه وهو يوم الأربعاء، التاسع عشر من ذي الحجة الحرام مكمل عام الثلاثين وألف. ولم يدخل في التبشات، ولم يسكن في الدار العالية، بل ابتنى داراً أخرى في القصبة وسكن فيها.

    وفي أواخر الصفر في العام الحادي والثلاثين بعد ألف بعث للقائد يوسف بن عمر القصري في مدينة جني، فأمره بالمجيء إليه في تنبكت، ويريد أن ينتقم منه لأمر وقع بينهما قبل. فخرج هو من جني صبيحة الاثنين الخامس من الربيع النبوي ملبياً دعوته، وفي يوم الخميس عشر منه وصل تنبكت. فلم يرض أن يراه حتى تلفظ بمقدار يعطيه من المال في إرضائه على لسان المرسول بينهما، ولم يقبل. في ليلة الجمعة السادسة عشر منه بقدرة من له القدرة والإرادة والحول والقوة قتل القائد حم المذكور في المسجد وهو يصلي العشاء الآخرة خلف الإمام في الركعة الثانية في حال السجود، ضربه واحد بالمدفعة من أهل ماسة أصحاب الباشا محمد الماسي، وهم جماعة كثيرة تعاهدوا معه خفية على قتله في تلك الليلة على لسان المرسول بينه وبينهم. أما القاتل فقد هرب ونجا. وقبض واحد من الذين حضروا عند الوقعة، وقتل عند باب المسجد خارجاً.

    واتفق كبراء الجيش على قتل الباشا محمد الماسي والكاهية محمد كنبكل، وقتلا ساعتئذ، وعلق رأساهما في السوق غداً. واتفقوا أيضاً على القائد يوسف المذكور وولوه مقامه ساعتئذ، فسبحن الله القوي القادر الذي يكفي عبده كيف شاء وبما شاء. واجتمع النفر الثلاثة في الدار الآخرة في تلك الليلة.

    وحين تولى القائد حم بن علي عزل أسكيا الحاج وولى أسكيا محمد بنكن بن بلمع محمد الصديق بن الأمير أسكيا داوود، بعد ما صرف له في تندرم بالمجيء. فجاء في فور ولايته ومكث القائد حم في الولاية ثلاثة أشهر.

    وفي يوم الجمعة السادس عشر من الربيع النبوي في العام الحادي والثلاثين والألف تولى القائد يوسف بن عمر القصري المرتبة العلية باتفاق الجيش كلهم. فسار بسير القائد حم بالتسمي بالقيادة والسكنى في الدار التي ابتنى. فكان والياً مباركاً، وأيامه غرة منعمة ذات بخت وسعة ورخاء وخصب.

    فكيفما تولى بعث ملوك ابن زرقون إلى جني يكون قائداً فيها، ومكث فيها هنالك عاماً كاملاً، فعزله. فبعث فيها القائد إبراهيم ابن عبد الكريم الجراري، ومكث فيها عامين كاملين، فسعد بذلك المكس وجمع فيها أموالاً كثيراً، وتخلص من جميع ما يلمزه في ذلك من اللوازم والعوائد على أحسن الأحوال. ثم ولاها الحاكم علي بن عبيد.

    وفي يوم السبت الثالث والعشرين من رمضان في العام الثاني والثلاثين بعد ألف دخل القائد عبد الله بن عبد الرحمن الهندي مدينة تنبكت، وهو قائد ينب يومئذ، دخلها عند طلوع الفجر مع أصحابه يطلب الولاية، والشيخ علي الدراوي أمين السلطان علي قابض غرامة تغاز هو الذي دعاه وحمله على ذلك. فلم يوافقه عليه القائد محمد بن أبي بكر الأمين وكبراء الجيش، وأخرجوه من البلد ساعتئذ كرهاً. فخرج والشيخ علي الدراوي مع أهل سربته من العلوج ومن تابعهم من غير أهل سربته، ونزلوا في مرسى كبر. وبعثوا لإخوانهم الذين كانوا في مدينة جني، فجاءوا فوقفوا على المقاتلة. فأرسل لهم ولي الأمر القائد يوسف الفقهاء والشرفاء في الصلح، فأبوا. فجهز إليهم القائد يوسف والأمين القائد محمد بن أبي بكر الجيش الذين معهم، فالتقوا يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شوال في العام المذكور. فاقتتلوا، ومات بينهم من الفريقين من قدر الله وفاء أجله. ولم يظفر بالمراد، فرجع إلى بنب، وتبعه الشيخ علي الدراوي. ثم جاء القائد محمد الكلوي الماسي قائد جيش كاغ يومئذ إلى ولي الله تعالى الشيخ المنير وطلب منه أن يمضي معه إلى تنبكت عند القائد يوسف ويصلحا بينه وبين القائد عبد الله، فقدما وأصلحا بينهما، وحضر القائد عبد الله المذكور ذلك الصلح. فاصطلحا ورجع لبلده بنب وأدرك الشيخ علي مات بعده، وقيل أنه أسقى نفسه السم فمات، والعياذ بالله.

    وبقي القائد عبد الله هنالك ساكناً إلى بعد ذهاب الباشا علي بن عبد القادر إلى توات، صرف فيه وكيله أخوه القائد محمد العرب. فجيء به غدراً إلى تنبكت، وضرب عنقه ليلة الولادة، وعلق في السوق. وقيل الباشا علي هو الذي أمره بقتله.

    وفي عشرين يوماً من شعبان في العام السادس والثلاثين والألف عزل القائد يوسف من الولاية، ومكث فيها خمس سنين وخمسة أشهر. فتولاها القائد إبراهيم بن عبد الكريم الجراري باتفاق الجيش كلهم، فسكن في دار القيادة. وفي هذا الشهر الذي تولى فيه عزل الحاكم علي بن عبيد من حكومة جني، وولاها سيد منصور بن الباشا محمود لنك حاكماً.

    وفي شهر جمادي الأولى في العام السابع والثلاثين والألف ورد مرسول السلطان مولاي عبد المالك بن مولاي زيدان بخبر ولايته وخبر وفاة أبيه. فوردت نسخة ظهيره الذي جاء صحبة مرسوله مدينة جني يوم الخميس الرابع من جمادي الآخرة.

    وفي يوم الخميس الحادي عشر منه صار القائد إبراهيم الجراري باشا في تنبكت. ورجع إلى الدار العالية. فهان وضعف في ولايته، ويفعل أدنى الناس من الرماة في الرعية داخلاً وخارجاً ما شاء وأحب ولا ترى ناهياً ولا منكراً، فتعدّوا وبغوا وسعوا في الأرض فساداً.

    وفي ليلة الثلاثاء الثالث عشر من شعبان في العام المذكور توفي الحاكم سيد منصور بن محمود في جني. وفي سلخه انعزل الباشا إبراهيم الجراري، ومكث هذا سنة واحدة في ولايته، وذلك سنة واحدة في حكومته. وقد تبرم حبل عزلانه في كاغ لما مضى عندهم الكاهية علي بن عبد القادر في الصلح بينهم وبين الجراري، حيث أعطى ماله الذي أفاده في جني للجيش الذين كانوا بتنبكت، ولم بعط أهل كاغ منه شيئاً. فغضبوا عليه، ومشى علي بن عبد القادر إليهم ليصلح بينهم، فتعاهدوا معه على تولية التبشات.

    فرجع لتنبكت وراود أهلها بها، فقبلوه، وولوه باشا في رابع رمضان في العام المذكور. فكان سيف الله مسلولاً في المتعدين الباغين في أيام الباشا إبراهيم الجراري، فأهانهم وأذلهم وقتلهم، وصاروا لازمين الجوامع وديار الصالحين مختفين خوفاً ورعباً، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت. ومكث في الولاية أربع سنين وخمسة أشهر. وفي أيامه توفي الباشا عمار بن عبد المالك في مراكش رحمه الله بمنه.

    فحين توفي تولى علي بن عبيد المذكور أيضاً حكومة جني في ذلك رمضان، ولبث فيها سبعة أشهر. وفي شهر ربيع النبوي في العام الثامن والثلاثين والألف عزله لمغاضبة وقعت بينهما، وأمر المعزول القائد يوسف بن عمر أن يتولى الحكومة بجني، فلم يقبلها، ودله على ملوك بن زرقون، فولاها القيادة بجني بهذا التاريخ.

    ثم جعل الباشا إبراهيم الجراري عاملاً على قبيلة سفنتير، فمضى إليهم، وقبض زنكل متاعهم، قصد بذلك إهانة له وتصغيراً. فلما رجع عزل ملوك بن زرقون من تلك القيادة، وجعله فيها. فمن قليل مات بغيظ، قيل أنه دعى على نفسه بالهلاك في روضة الولي الفقيه محمود فودي سانوا، والدعاء مستجاب فيها، رحمه الله ونفعنا به. وسبب ذلك أنه بعث له سيفاً يحلى بالذهب، فقال له: لا يستحق بهذا السيف إلا أنت المحب للدنيا. فبكي ودعا على نفسه بالهلاك، وقال: ما هذا إلا شمانة منه واستهزاء. ثم رد ملوك بن زرقون المذكور فيها إلى أن عزل وقتل.

    وفي يوم السبت السابع من جمادي الأولى في العام الثامن والثلاثين والألف قتل الأمين القائد محمد بن أبي بكر صبراً في السوق، وعاقه فيه بأمر السلطان مولاي عبد المالك بعد ما سجن يومين، وفي اليوم الثالث قتل، وتولى موضعه الأمين القائد يوسف بن عمر القصري بأمره، لأنه كتب فيه أن يقتل شر قتلة لما ظهر فيه من الغش والخيانة له. وقد عزم هو على قتل القائد يوسف لما تحسب معه في الأموال التي تولاها في ولايته. فعذبه عذاباً شديداً في السجن ويريد قتله. فلما فطن لذلك أهل سربته المراكشيين حالوا بينه وبينه حتى يكتبوا للسلطان بذلك. فلما رد لهم الجواب أمر بقتله شر قتلة وأن يتولى القائد يوسف موضعه. فحضر قتله ساعتئذ في السوق مكتفاً وهو راكب على حصانه، فبان فيه الرعب والجذع. فقال له القائد يوسف: يا سيد محمد رد بالك مع الله ما عليك إلا الصبر. فلما ضرب عنقه صاح: يا أماه! فتوفي وعلق، ثم نُزل وجهز وصلي عليه، ودفن في مقابر الجامع الكبير.

    وفي أواخر شعبان في العام المذكور غازا إلى ماسنة، وذلك أنه لما تولى توفي بقرب ذلك فندنك سلامع، وتولى ابن أخيه حمد أمنة في ذلك رمضان. بعث له الباشا علي أن يقدم إلى تنبكت ليوليه فيها، فأبى وامتنع. ولذلك غزا إليه، فجاءهم فجاة، فهرب منه فندنك حمد أمنة بجميع أناسه، ولم يقدر أن يتبعهم، لأنه وقت الصيف ولم يجيء في قوة ومتنة. فجاز على حاله إلى مدينة، فوصلها ضحوة السبت الخامس والعشرين من الشهر المذكور، واستهل عليه فيها رمضان بالأبعاء. وفي ضحوة الخميس الثاني منه دفع إلى ماسنة أيضاً ورجع إليهم، فلم يظفر بهم. ومن ثم رجع إلى تنبك في الشهر المذكور بلا مغارة. ثم اصطلحا.

    وفي يوم الاثنين آخر يوم من المحرم الحرام فاتح العام التاسع والثلاثين والألف جاء عمر بن إبراهيم العروسي إلي تنبكت. فخرج إليهم الباشا علي بن عبد القادر والتقوا عند الأحراث وراء الفندرية بقليل. فاقتتلوا، وقتل عمر المذكور مع عبده بلال، فانهزم أصحابه وولوا مدبرين. وحمل علي الجمل فعلق في السوق يومئذ، فبعث بكفه إلى مدينة كاغ، وبرأس العبد إلى جني.

    ثم رجع والده إبراهيم العريسي مع بقية أولاده وجماعته إلى النبكة البي وراء المدينة من جهة المغرب. فنزلوا عليها وضرب قباءه السوداء فيها، فأخذوا هنالك ما أخذوا من الأيام. ثم ارتحلوا ورجعوا إلى ولات خائبين مخذولين.

    ثم بعث للقائد ملوك بجني أن يقبل من حمد أمنة صاحب ماسنة مطلب زنكل لأجل هذا الصلح.

    الباب الثاني والثلاثون

    سياحة مؤلف الكتاب في بلاد ماسنة

    وفي أواسط ذي القعدة الحرام من هذا العام سافرت إلى سيد الأخ المحب الفاضل الفقيه محمد سنب قاضي ماسنة لزيارته. فطلبها مني منذ أعوام، لم يقدرها الله سبحانه إلا في هذا الوقت، وهو أول رؤيتي بتلك الجهة.

    فلما وصلنا حلة السيد المذكور القيناه غائباً إلى حلة السلطان حمد أمنة. فبعث له الأعلام هنلك بوصولنا، فرد إلي المرسول بالتخيير بين أن ألحقه هنالك لرؤية السلطان والسلام عليه، وبين أن أبقى في حلته حتى يقدم علي فيها، ثم نرجع إليه متصحباً للسلام والرؤية.

    فاخترت الأول لأجل وضع المشقة عنه في رجوعه ثانياً. فمشيت إليهم عزيزاً مكرماً، وما وصلنا إلا في الغد. فلما قربنا حلته أذن السيد القاضي به السلطان، فبعث هو إلي مرسوله للقائي.

    فوصلنا الحلة ودخلنا منزلنا وقت الضحى، وصادف بنزول الغيث. ولم ير كل واحد منا أحد إلا بعد صلاة الظهر. فمشيت ساعتئذ عند السيد القاضي في منزله، فرحب بي وفرح بي غاية الفرح والسرور، ودعا إلي بخير. فنهض معي إلى السلطان في داره، ورحب بي كذلك ووافقت بوصول عامل زنكل عنده، وحضر جميع كبرائه. وقرئ عليهم كتاب القائد ملوك بما أمر به الباشا على منّ العفو عنه وقبض زنكل منه.

    ففرحوا بذلك فرحاً عظيماً. فقال هو في ناديته، بعد ما تكلم كنبمع داوود وهو صاحب الكلام أولاً، قال: الآن تحققت لي السلطنة حيث قبل منا الباشا مطلب زنكل. ثم قال للكبراء الذين كان منكل مقسوماً على أيديهم: الله الله في تحصيلها بالسرعة والاجتهاد، ويكون مليحاً مختاراً، وأنا خائف من الباشا علي. قالها ثلاث مرات. ثم تكلم كنبمع فقال: الآن نحن نخاف منك جميعاً حيث قلت إنك تخاف من الباشا. فقرءوا الفاتحة وتفرقوا على هذا.

    وبتنا هنالك تلك الليلة. وفي غد فرغوا من الأمر الذي من أجله أتاهم السيد القاضي، فعزم على الرجوع إلى حلته. وبعث للسلطان بأني راجع معه. فقال: ما زال ما استأنس بي، فليمض هو على بركة الله تعالى، وأنا لاحق به إن شاء. فما رضي وعمز على الانقلاب معي.

    وفي عشية ذلك اليوم أتاه السلطان في منزله، فحضرت معه. ثم قال له السيد القاضي زيارته هذه لنا ما قدرها الله بسحانه إلا في أيامك، وجعلها في رزقك، لأني طالما التمستها منه منذ ولاية عمك إبراهيم، فلم يقدرها الله تعالى إلا في هذا الوقت، وأنا ولا بد إن شاء الله تعالى عازم غداً على الرجوع إلى داري، ولا أتركه ورائي، الطب الخلوة في هذه الليلة لتستأنس معه.

    ففعل ذلك، وأعطاني عشر بقراب، والعطاء ليس من شأنهم، لأن مال الدنيا عزيز في قلوبهم. فرجعنا إلى داره، فأبر بنا وأكرمنا وأحسن إلينا في ضيافتنا وأحوالنا كلها أياماً عديدة.

    ثم عزمت على الرجوع إلى داري في جني. فأعطاني من البقر عشرين ومن الأضحية عشر شياه. فركب معي مشيعاً يوم خرجت من حلته. فلما توادعنا بعد بعد المسافة قال لي: زيارتك هذه لنا أعز علي من كل شيء، وإذا منّ الله تعالى علينا بالبقاء إلى القابل عاوده لنا. فعاودته له كذلك. ولم يزل دأبي معه بالمروة وحسن المعاشرة إلى أن قضى نحبه والتحق بالرفيق الأعلى، رحمه الله تعالى وغفر له وعفى عنه، وجمع شملنا وشمله في ظل العرش وفي الفرديس الأعلى بمنه وكرمه.

    الباب الثالث والثلاثون

    ذكر الباشاوات من عام 1039 إلى عام 1042

    وفي هذا المحرم أعني فاتح التاسع والثلاثين والألف شرع في بناء جامع الهناء، وفرغ منها في شهر الصفر.

    ثم جهز محلة إلى دند وسار إليها فيها بنفسه. فلما وصل بلد كوكيا نزل بها بالمحلة وبعث مراسيله إلى عند أسكيا داوود بن أسكيا محمد بان بن الأمير أسكيا داوود بالصلح، وخطب منه ابنته، وبعث له معهم كثيراً من الهدايا. فقبل ذلك الصلح وزوجه واحدة من بنات قربائه، وجعل مراسيله معهم ساعة انقلابهم إليه، فبلغوا له رسالته من قبول ذلك الصلح والزواج وفتح طريق الخير والمحبة والإمانة بينهما ما دام هو في التباشات.

    ثم رجع إلى تنبكت، فبعث قارباً للقاء زوجته فجاءت إلى تنبكت كما أراد. ثم عزم على سفر الحج كما زعم. فأخذ يصلح من شأنه، وعين من الرماة ما يمشون معه من جيش تنبكت. وبعث لأهل كاغ أن يصرفوا له عدداً معيناً، وهو خمسون من الرماة عندهم الذين يمشون معه زيادة على ما عين من أهل تنبكت، فأبوا وامتنعوا. فكان ذلك غضباً مدخراً عنده عليهم.

    فنهاه القاضي سيد أحمد وفقهاء البلد على تلك الغربة، ووعظوه وذكروه في جامع سنكري في اجتماعهم هنالك معه بما عسى أن يحل عزمته على ذلك السفر. فصمم وأبى، وفي رابع عشر من شهر الصفر في العام الحادي والأربعين والألف توادع مع الناس ومع الجيش، واستناب أخاث القائد محمد العرب عليهم، ومشى على طريق توات. فرافق مع السيد المبارك التقي الزاهد سيد أحمد ابن عبد العزيز الجراري والفقيه سيد محمد بن العلامة الفقيه أحمد بابا. واستهل عليهم شهر الربيع النبوي بلد أراون.

    فلما وصلوا توات لحقهم هنالك الفلالي بن عيسى الرحماني البربوشي وأصحابه، فطاحوا عليهم ليلاً، أرادوا قتله. فهرب إلى السيدين، فدخل عليهما في فسطاطهما واستجارهما، فتركوا نفسه في حرمتهما. ولكن صدوه عن الحج بعد ما قتلوا من قتلوا من أصحابه، وردوهم إلى تنبكت. وأعطاهم مالاً كثيراً في استنقاذ مهجته. فمضت الرفقة مع السيدين للحج.

    ولما وصل تنبكت في شهر رجب في العام المذكور وجه خديمه محمد بن مؤمن السابعي على حاله إلى جني برسالته، ووجه أخاه القائد محمد العرب إلى أهل كاغ ليكون قائداً عليهم. وأراد أن ينتقم منهم من أجل ذلك الغضب الذي هو مدخر عنده لهم في امتناعهم بالخمسين الرماة. فلما وصلهم شرع في الانتقام، قاموا عليه وقبضوه وكبلوه وأكلوا ماله وعزموا على قتله. فاستجار باشيوخ الكبار منهم، فعفوا عن قتله.

    فلما بلغه الخبر بالشماتة عاملوا أخاه به وجه إليهم نفسه يريد قتالهم، ولكن لم يظهره لأهل تنبكت. خرج كأنه يريد الحرث في ذلك الطريق في شهر ذي القعدة الحرام في العام المذكور. فجاز على حاله فلحقه من لحقه من الجيش. فلما سمع ذلك الجيش الذي بحاضرة جني صرفوا مرسولين لأهل كاغ بالبر واحداً بعد واحد ليكونوا معهم على نيه واحدة وكلمة واحدة في مخالفته. فقبلوا ذلك واتفقوا عليه.

    فلما بلغهم عاجلوه بالقتال، وهزموه طرفة عين، فهرب هو وأصحابه. وأخذوا قارب خزانته، وفيها جاريته، فحزن عليها حزناً شديداً. وقبضوا أيضاً أسكيا محمد بنكن، فكبروه وعظموه وراموا منه أن يسكن عندهم ليتبركوا به. ثم إنه شفع في أخيه القائد محمد العرب المذكور، فشفعوه وتركوه في حرمته. فأصلح بين الباشا علي وبينهم، فردوا الجارية المذكورة.

    فلما وصل تنبكت جهز المحلة للرجوع إليهم استيصالاً لهم. فصرف سبعمائة مثقال ذهباً للقائد ملوك في جني أن يقسمها للجيش الذين هنالك عطاء وهدية، يريد بذلك تطييباً لقلوبهم معه. ثم صرف مرسولاً ثانياً لجني في أثر الأول عند خديمه محمد بن مؤمن السباعي، وكتب له أن يقبض سلتي وري محمد قلي ويأكل جميع ما احتوت عليه داره ويبيع عياله وأولاده ويبعثه له في تنبكت مكبلاً في الحديد، يريد قتله من أجل ماله الذي أمسكه عنه عند عزمته على سفر الحج. فانتظره حتى طال به الانتظار فمضى ولم يصرفه الحاصل.

    سبق المرسول الثاني المرسول الأول ووصل مدينة جني ضحوة الاثنين ثاني يوم النحر. فلما قرأ الكتاب وهو عند القائد ساعتئذ في المشور صرف لسلتي المذكور، وهو في دار جنكي على عادتهم في ملعب أيام العيد، فجاء وقبضه وسجنه في القصبة مكبلاً بالحديد. فأحضرني مع شاهد آخر لإحصاء ما في داره يومئذ. فأحصينا ما فيها في المزام سوى المماليك. وأمرنا أن نرجع غداً لإحصائهم. فبعد ما أحصيناهم في الغد أمرنا أن نمضي معه إلى السجن ليقر لنا أن ذلك نهاية ماله. فدخلنا عليه في السجن نهار الثلااء وألفيناه في بئس الحال. فقرأت عليه الزمام، فأقر أنه نهاية ماله. فأوقعنا الشهادة فيها.

    ثم وصل الرسول الأول نهار الخميس الرابع عشر من ذي الحجة الحرام المكمل للعام الحادي والأربعين والألف. فلما قرأوا الكتاب ورأوا الصدر المهداة تحققوا بلا شك ولا ريب أنه ناله الضعف والوهن. ووجدهم قد فرغوا من قبح المخالفة وإبرامها. فقاموا ساعتئذ، وقبضوا محمد ولد مؤمن وسجنوه في السجن الذي فيه سلتي وري المذكور، وأخرجوا الحديد الذي في رجليه وردوه في رجلي محمد بن مؤمن. فأحضرني القائد وجميع كبار الجيش ساعتئذ في داره مع شاهد آخر لإحصاء ما فيها من المال. فأحصيناها في الزمام ما خلا المماليك والجواري. وأمرونا أن نرجع غداً لإحصائهم. فبعد ما أحصيناهم في الغد يوم الجمعة الخامس عشر من الشهر المذكور أمرونا أن نمضي إليه في السجن ونسأله على ماله، فوجدناه على الحال الذي وجدنا سلتي وري عليه يوم الثلاثاء. فسبحن الملك القادر الذي يفعل في ملكه ما يشاء المنفس عن المكروبين في أسرع من لمحة الطرف. وتركوه في السجن كذلك. ثم اتفقوا على قتله، فقتل ليلة عاشوراء من المحرم الحرام فاتح الثاني والأربعين والألف.

    ولنرجع إلى تمام قصة الباشا علي بن عبد القادر مع أهل كاغ. ثم إنهم أطلقوا أسكيا محمد بنكن، فرجع إلى تنبكت. فلما وصل الفاه [إليه وجده] عازماً على الرجوع إليهم بالجد والاجتهاد، واستعد أنواعاً من آلات العذاب لهم. وفي يوم الأحد ثاني المحرم المذكور أمر قواربه بالدفع من مرسى كبر. فلما وصلوا قرية بور خالف عليه الجيش ليلة الاثنين، وولوا علي بن مبارك الماسي باشا. ورجعوا للمرسى بالقوارب.

    وخرج هو صبيحة ذلك الاثنين يلتحق بهم بالبر، وليس عنده الخبر لهذه المخالفة والعزلان. فتوجه نحوهم، وفي الطريق سمع ذلك الخبر. فكر راجعاً لتنبكت. فهرب عنه جميع أتباعه إلا القائد محمد بن مسعود المراكشي، وهو من أهل الوفاء والعهد. فبات فيه ليلة الثلاثاء، وفي غده أمر القاضي سيد أحمد أن يمضي إليهم في المرسى ليصلح بينهم وبينه. فلما وصلهم عرض ذلك عليهم ووجدهم لا يزدادون إلا أدباراً ونفوراً. فرجع البلد ولم يطرقه، بعث له من يخبره بما جرى، وجاز هو إلى داره.

    وفي صبيحة الأربعاء ارتحلوا من المرسى إلى البلد. فخرج هو وقصد الفلالي بن عيسى البربوشي، وحلاته في قرب البلد. فطلب منه المعاونة على الهروب، فبات عنده في حلته ليلة الخميس. ولم يقبل له الذي طلب، فرده للبلد ضحوة الخميس. فجاء معه ودخل في دار القاضي للشفاعة. وبعث بذلك للباشا علي بن مبارك. فصرف إليه من يقبض منه جميع ما كان عليه من عدة السلطنة. فأعلطا الجميع.

    وفي العشية أتاه جماعة من الرماة، فأمر الباشا، فقبضوه وكتفوه إلى القصبة، وضرب عنقه في الرو مع القائد محمد بن يوسف مسعود. وجروه برجله في سكك المدينة إلى السوق، وعلقوه هنالك. ثم نزلوه وجهزوه ودفنوه في مقابر الجامع الكبير في جوار ولي الله تعالى سيدي أبي القاسم التواتي، رحمه الله تعالى، وذلك الخميس سادس يوم المحرم المذكور.

    الباب الرابع والثلاثون

    ذكر الوفيات والتواريخ
    من العام الحادي والعشرين بعد الألف إلى العام الثاني والأربعين بعد الألف

    من ذلك الباشا محمود لنك، توفي في شهر شوال في العام الحادي والعشرين والألف، ودفن في جامع محمد نض. قيل مات مطعوماً. وبعد وفاته عن قريب توفي القائد مامي ابن برون.

    وفي ليلة السابع بعد صلاة العشاء الآخرة من الربيع النبوي عام الثاني والعشرين بعد ألف توفي الفقيه محمد بن محمد تكن، وصلي عليه ضحوة الغد ودفن في مقابر سنكري.

    وفي شهر جمادي الأولى في العام الرابع والعشرين والألف توفي الخير الصالح الدين الزاهد القاضي العدل أبو العباس الفقيه أحمد تروي، رحمه الله تعالى ورضي عنه، بمدينة جني وتولى القضاء بعده إمام الجامع الكبير القاضي سعيد في شهر جمادي الآخرة الذي يليه، بعد مشاورة ولي الأمر بتنبكت الباشا علي بن عبد الله التلمساني وحاكم جني يومئذ البلبالي وسلطانها السوداني جنكي أبو بكر ساكر.

    وفي شهر المحرم الحرام فاتح عام الخاسم والعشرين بعد الألف والله أعلم توفي أسكيا هارون بن أسكيا الحاج محمد بن داوود.

    وفي شهر الصفر توفي أخونا وشيخنا الفقيه محمد صالح بن علي بن الزياد رحمه الله تعالى وغفر له.

    وفي يوم الأربعاء بين الظهر والعصر الخمس خلون من الربيع النبوي عام خمس وعشرين بعد ألف توفي الفقيه الإمام المصطفى ابن أحمد بن محمود بن أبي بكر بغيغ. وخبع في ذلك اليوم. كان رحمه الله تعالى ليناً ميناً صبوراً على مخالطة الناس صموتاً. أخذ عن عمه الكبير الفقيه محمد بغيغ، قرأ عليه الرسالة والمختصر وغيرهما، غير أن المختصر لم يكمل عليه، وعن الفقيه عثمان الفلالي والفقيه محمد بن محمد كري والفقيه عبد الرحمن ابن أحمد المجتهد، حضر عنده المدونة والموطأ، وقرأ عن الفقيه أحمد بابا بن الفقيه أحمد. أول ابتداء طلبه في حياة عمه شيئاً من العربية والمختصر وغيره، وعن ابن عمته الفقيه محمود الألفية وغيرها. وحضر مجلس الفقيه أحمد بابا مدة بعد مجيئه من مراكش. وتولى إمامة جامع محمد نض في شعبان عام ثامن بعد الألف إلى أن توفي، رحمه الله تعالى. وناب عن الخطيب في الجامع من السادس عشر بعد ألف. وكان مولده رحمه الله تعالى في الثالث والسبعين من العاشر رحمه الله تعالى.

    وفي ذي القعدة الحرام من هذا العام توفي أخونا الفقيه سعيد المعروف بسنكم ابن صاحب والدنا وصديقه الملاطف بابا كري، رحمه الله وعفى عنه بمنه، بمدينة جني. ودفن في مقابر الجنان.

    وفي المحرم الحرام الفاتح للسادس والعشرين والألف توفي الشيخ الفاضل الصالح الزاهد محمد بن المختار شيخ المداحين المعروف بسن. ولازمته من حين الطفولية إلى الممات، وأفدت منه فوائد كثيرة، رحمه الله تعالى وعفى عنه بمنه. وعمره أربعة وثمانون سنة. وفي اليوم الذي توفي فيه توفيت أمة الله تعالى خديجة ويج ابنة الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت، وعمرها أربعة وتسعون سنة وبينهما في السن عشر سنين رحمها الله وغفر لها أمين.

    وفي ليلة الخميس بعد صلاة العشاء الآخرة الثانية من الصفر في هذا العام توفي والدي عبد الله بن عمران بن عامر السعيدي. وصلى عليه شيخنا الفاضل الزاهد ولي الله تعالى الفقيه الأمين ابن أحمد أخو الفقيه عبد الرحمن بن المجتهد بوصية منه ضحوة الخميس، ودفن في ذلك الوقت في جوار والده في مقابر الجامع الكبير. والشيخ المذكور هو الذي تولى إنزاله القبر بالوصية أيضاً. وحضر غسله الخير الفاضل الولي الصالح شيخنا الفقيه محمد بغيغ الونكري. وحضر صلاته ودفنه جماعة كثيرة من الأكابر والأشياخ والفقهاء والصلحاء والأعيان والخاصة والعامة. ولم يتخلف في البلد إلا من حبسه عذر أو من لا مبالاة له في الحضور بمواضع الخير، غفر الله له وعفى عنه بمنه وكرمه. وتوفي والله أعلم عن سبع وستين سنة وكان مولده مكمل الستين من العاشر أعلى الله درجته في فراديس جنته.

    وفي هذا الشهر توفي الإمام القاضي سعيد في مدينة جني. ومكث في القضاء سنة واحدة وثمانية أشهر. وفيه تولى القضاء بعده القاضي أحمد بن القاضي موسى داب.

    وفي أواسط ربيع النبوي من هذا العام توفي صاحب والدي وملاطفه في جني بابا كري بن محمد كري، رحمه الله تعالى وعفى عنه وغفر له.

    وفي أواسط ذي الحجة الحرام مكمل عام السادس والعشرين والألف توفيت نانا سيد بنت خال الوالد الفقيه الزاهد المري سيد عبد الرحمن بن سيد علي بن عبد الرحمن الأنصارية.

    وفيه توفيت الشريفة الهاشمية الحسنية فاطمة بنت الشريف أحمد الصقلي، رحمهم الله تعالى ونفعنا ببركاتهم أمين.

    وفي ليلة الجمعة طلوع فجرها لليلة بقيت من المحرم الحرام فاتح عام سبع وعشرين بعد ألف وتوفي ولي الله تعالى صاحب المكاشفات الفقيه محمد عريان الرأس. وصلي عليه ضحوة في مصلى الجنائز في الصحراء، وحضرها الخاصة والعامة. ودفن حينئذ في جوال الفقيه محمود خارج الروضة من جهة القبلة. قال الشيخ الفقيه محمد بن أحمد بغيغ والوكري في تعريفه: هو محمد بن علي بن موسى، عرف بسيد محمد عريان الرأس، كان من الصالحين، أخذ من فقهاء وقته كالأخوين الفقيهين عبد الله وعبد الرحمن أبي الفقيه محمود والفقيه محمد بغيغ والفقيه أحمد مغيا، ودرس أول أمره، ثم ترك ذلك ولازم بيته لا يخرج ولو إلى الجمعة، وكان لعذر والله أعلم بذلكظ، واشتهر عند الناس بالولاية، فزاره من الباشات وغيرهم، واشتهرت بركته عند العرب، وقصدوه بالنذور والفتوحات، لا يفارق بيته خاسراً حافياً، ليس له بواب إلا في أواخر عمره، واشتهر بالكرم والعطايا رحمه الله تعالى، ومولده على ما سمعت سنة خمس وخمسين وتسعمائة، وكان رحمه الله ثبوتاً صباراً ضابط الأمور انتهى.

    وفي أوائل ربيع الثاني من هذا العام توفي الباشا علي بن عبد الله التلمساني بتعذيب القائد مامي التركي. ووري في الرو بلا غسل ولا صلاة.

    وفي سلخ المحرم الحرام فاتح العام الثامن والعشرين والألف توفي الباشا حد بن يوسف الأجناسي. ودفن في مسجد محمد نض.

    وفي شهر شعبان من هذا العام توفي الباشا أحمد ابن يوسف العلجي. ودفن في مقابر الجامع الكبير.

    وفي هذا العام والله أعلم توفي الفقيه محمود المعروف بالقع سر بن سليمن ابن محمد كرمع الونكري في مدينة جني رحمه الله تعالى.

    وفي يوم الجمعة لثلاث بقين من الحمرم فاتح عام التاسع والعشرين بعد ألف توفي الشيخ الفقيه العالم الإمام محمد بن محمد كري، رحمه الله تعالى وغفر له.

    وفي يوم الأحد عند الزوال الخامس عشر من شوال في هذال العام توفي جنكي ينب بن جنكي إسماعيل في مدينة جني.

    وفي أواخر رمضان من العام الثلاثين بعد ألف توفيت عمتنا زهراء بنت عمران.

    وفي يوم السبت العاشر من جمادي الأولى والله أعلم توفي إمام الجامع الكبير الإمام محمود بن الإمام صديق بن محمد تعل. ومكث في الإمامة ستة وعشرين سنة، وعمره يوم دخوله فيها سبعون سنة، رحمه الله تعالى وعفى عنه بمنه بوفاته. ثبتت الإمامة للإمام عبد السلام بن محمد دك الفلاني لأنه كان نائباً له بزمن طويل في يوم الأربعاء الرابع عشر من الشهر المذكور.

    وفي ليلة الحمعة السادسة عشر من ربيع النبوي في هذا العام توفي القائد محمد بن علي والباشا محمد بن أحمد الماسي والكاهية محمد بن كنبكل الماسي كما رم.

    وفي أوائل شوال منه توفيت حفصة أم ولد والدنا في مدينة جني ودفنت في الجامع الكبير رحمها الله تعالى.

    وفي ضحوة الأربعاء الثاني عشر من المحرم الحرام الفاتح للعام الثاني والثلاثين والألف توفي الأخ البار النافع الصديق الملاطف المحب الناصح محمد بن أبي بكر بن عبد الله كري السناوي. ودفن في مقابر الجنان بمدينة جني يومئذ. فغسلته أنا والقاضي أحمد داب بوصية منه. كان محباً للفقراء والمساكين والطلبة محسناً إليهم، معرضاُ عن أبناء الدنيا والظلمة، ذا مروة وسكينة ووفاء وعهد حافظاً عليه جداً، ومعروفاً به عند الخاصة والعامة. لم أر مثله في العهد والصدق وحسن الخلق تحت أديم السماء. فعاشرنا على ذلك في حياته، وتفارقنا عند مماته بلا تغيير ولا تبديل ولو في ساعة واحدة. غفر الله له ورحمه وعفى عنه وجمع شملنا وشمله في ظل عرشه والفردوس الأعلى بلا عقوبة ولا محنة بمنه وكرمه، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

    وفي يوم الجمعة الحادي والعشرين منه توفيت عمتنا أم هاني بنت عمران، رحمها الله وغفر لها وعفى عنها بمنه.

    وفي يوم الأحد الحادي عشر من ذي الحجة الحرام المكما للعام الثاني والثلاثين والألف توفيت عمتنا أم عائشة ابنة عمران، رحمها الله وغفر لها وعفى عنها بمنه.

    وفي أوائل العام الخامس والثلاثين والألف توفي الفاضل الخير الصالح الفقيه العالم أبو العباس أحمد بن محمد الفلاني الماسني. ومرض مرضاً مخوفاً في مسكنه في جهة أنكم. أمر بمجيئه الحاضرة تنبكت. فلما وصل مرسى كبر توفي هنالك. وأتي بجنازته لتنبكت، وصلي عليه فيه. ودفن في مقابر الجامع الكبير، رحمه الله تعالى وغفر له ونفعنا به أمين.

    وفي يوم الأحد العاشر من جمادي الأولى منه توفي الشيخ الفاضل المحدث الفقيه الإمام محمد سعيد ابن الإمام محمد كداد بن أبي بكر الفلاني، ودفن في مقابر الجامع الكبير رحمه الله ونفعنا به أمين.

    وفي يوم الخميس عند الزوال الحادي والعشرين منه توفي علي بن الزياد، وصلي عليه بعد صلاة الظهر، ودفن في مجاورة الإمام سعيد، رحمه الله تعالى.

    وفي صبيحة الجمعة العشرين من جمادي الآخرة توفي عبد الكريم بن أحمد داعو الحاحي، رحمه الله.

    وفي يوم الأحد الثاني والعشرين منه توفي الفقيه الإمام عبد اسلام بن محمد دك الفلاني، وصلي عليه بعد صلاة الظهر، ودفن في جوار الإمام سعيد. ومكث في الإمامة أربع سنين رحمه الله تعالى. وتولى الإمامة بعده الإمام سيد علي بن عبد الله سر بن الإمام سيد علي الجزولي في ولاية القائد يوسف بن عمر القصري عن إذن القاضي سيد أحمد بن أند غمحمد، رحمهم الله تعالى.

    وفي صبيحة الخميس السادس من رجب الفرد منه توفيت الشريفة أم هاني بنت الشريف بوي بن الشريف المزوار الحسني زوجة أخي محمد سعدي في مدينة جني، رحمها الله تعالى.

    وفي شهر ربيع النبوي في العام السادس والثلاثين والألف توفي الفقيه الختار سبط القاضي العاقب بن محمد زنكن بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بير خديم النبي صلى الله عليه وسلم. وهو الذي أتى بنسخة العشرينيات لتنبكت، يخدمه بالمدح وأفعال البر في مولده، ويباشر جلب ما يطعم فيها بنفسه من جني في كل عام حتى كبر وهرم. وطلب منه أولاده أن يكفوه بمونة ذلك لما هرم أبي وامتنع. فمات في بلد كونا عند خروجه من جني. فخبع في صحن مسجده، رحمه الله وأعاد علينا من بركاته في الدارين أمين.

    وفي الجمعة الثاني يوماً من جمادي الآخرة منه توفي شيخنا الفاضل المبارك الفقيه الإمام محمد بن محمد بن أحمد الخليل في بلد بينا. وأتي بجنازته حاضرة جني، ودفن فيه في مقابر الجنان. وهو محب في غاية ونهاية. وكثيراً ما أسمع من الناس ثناءه علي في غيبتي، رحمه الله ورضي عنه وجازاه عنه خيراً ونفعنا به في الدجارين أمين.

    وقد جعلني نائباً له في الصلاة ثم امتنعت منها لشغل الحال. وفي يوم الجمعة الثالث والعشري من الشهر المذكور وليت مقامه في إمامة مسجد سنكري في البلد المذكور باتفاق أعيانه قاطبة عن إذن القاضي أحمد داب، وهو حافل بأولي الفضل يومئذ.

    وفي ضحوة الخميس السادس من شعبان منه توفي سيد الوقت وبركته الشيخ العالم العلامة فريد دهره ووحيد عصره الفقيه أحمد بابا بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به في الدارين ودفن في جوار والده.

    وفي يوم الأربعاء الثاني عشر منه ولدت صفية ابنة أخي محمد سعدي.

    وفي أواخر هذا العام توفي جنكي أبو بكر ساكر بن الفقيه عبد الله بمدينة جني وهو من أفضل سلاطينهم حالاً وديناً رحمه الله.

    وكذلك القائد عامر بن القائد الحسن بن الزبير توفي في مراكش في أواخره.

    وفي وقت طلوع الفجر من ليلة الجمعة سادس المحرم الحرام فاتح العام السابع والثلاثين والألف توفي أبو المعالي السلطان مولانا زيدان بن مولانا أحمد بمراكش، رحمه الله تعالى بمنه. وما دفن إلا بعد صلاة المغرب من ليلة السبت.

    وفي يوم الأربعاء الثامن عشر منه توفي ولد أختي أم نانا عبد الرحمن بن الطالب إبراهيم النصراني في مدينة جني. أتى عنده هنالك صحبة والدتنا زائرة، رحمه الله تعالى.

    وفي عشية السبت الحادي والعشرين منه توفي صهري الشيخ المختار تمت الونكري. وتوليت تجهيزه، وصلي عليه بن المغرب والعشاء، وخبع في الجامع الكبيربمدينة جني، رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاتهم في الدارين.

    وفي ليلة الثلاثاء الثالثة عشر منه توفي الحاكم سيد منصور بن الباشا محمود بنك بمدينة جني، ودفن ليلتئذ في الجامع الكبير. وبت أنا وثلاثة من الشهود وأربع من البشوظات عند باب داره للحراسة عليها بأمر الكواهي بعد ما طالعنا جميعاً على ما احتوت عليها الديار. وفي الغد ضحوة زممنا تركته بحضرة الكواهي بعد استئذان متولي الشرع، وذلك في زمن الباشا إبراهيم بن عبد الكريم الجرار.

    وفي يوم الأربعاء وقت العصر السابع والعشرين من رمضان منه توفي الأخ المحب الفاضل النافع الفقيه محمد بن بدر بن حمود الفزاني. وصلي علي بعد صلاة المغرب، ودفن ساعتئذ في مقابر الجامع الكبير، رحمه الله وغفر له وعفى عنه بمنه.

    وفي يوم السبت السابع من جمادي الأولى في العام لاثامن والثلاثين بعد ألف توفي الأمين الأولى القائد محمد بن أبي بكر. قتله الباشا علي بن عبد القادر بأمر السلطان مولاي عبد المالك كما مر.

    وفي يوم الاثنين آخر يوم من المحرم فاتح عام التاسع والثلاثين والألف توفي عمر بن إبراهيم العروسي وغلامه بلال، قتلاً في المعركة بينه وبين االباشا على بن عبد القادر كما مر.

    وفي منتصف ليلة الأحد الثانية عشر من شعبان المنير منه توفي أبو مروان مولانا عبد المالك بن مولانا زيدان بمدينة مراكش رحمهم الله تعالى.

    وفي يوم الأربعاء عند طلوع الشمس السادس عشر من رجب منه توفي الشيخ الفاضل الزاهد الفقيه أبو بكر بن أحمد بير ابن ولي الله تعالى القاضي الفقيه محمود بن عمر بن محمد أقيت، رحمهم الله ونفعنا بهم أمين.

    وفي أوائل العام الحادي والأربعين وألف توفي الأمين القائد يوسف بن عمر القصري، ودفن في مسجد محمد نض. ومكث في قيادة تلمين [تأمين] عامين ونصفاً. فتولى مقامه الأمين القائد عبد القادر العمراني عن إذن صاحب الأمر الباشا علي بن عبد القادر.

    وفي ليلة اثني عشر من ربيع النبوي منه ليلة الولادة توفي القائد عبد الله بن عبد الرحمن الهندي، قتله القائد محمد العرب في السوق بأمر أخيه الباشا علي بن عبد القادر حين وصل بلد أروان، بعث له بذلك الأمر.

    وفي أواسط شعبان منه توفي القائد إبراهيم بن عبد الكريم الجرار بمدينة جني بعد ما أحضرني الكواهي ومحمد بن مؤمن السباعي وشاهداً آخر للوصية. فوصى بما وصى، ودفن في الجامع الكبير. وصرفت تركته للباشا علي بن عبد القادر. فكتب للقائد ملوك بن زرقون أن يتولى مقامه، وهو في جني يومئذ، فهذا آخر ولايته قيادة جني.

    وفي يوم الثلاثاء العشرين من شوال منه توفي شيخنا الفاضل الصالح التقي الزاهد ولي الله تعالى الفقيه الأمين بن أحمد أخو الفقيه عبد الرحمن بن أحمد المجتهد لأمه. وصلى عليه الشيخ الفاضل الصالح الفقيه محمد بغيغ الونكري. قال في تعريفه الأمين بن أحمد بن محمد: شيخنا ومحبنا رطب اللسان بالذكر أخو شيخنا الفقيه عبد الرحمن رحمهما الله تعالى أخوه لأمه، فقيه نحوي تصريفي لغوي، له حظ في معرفة الصحابة، توفي رحمه الله تعالى بكرة الثلاثاء لعشر بقين من شوال الحادي والأربعين عن نيف وثمانين، وكان مولده سبعاً وخمسين وتسعماشة، صلي عليه في مصلى جنائز الكبراء والصلحاء في الصحراء انتهى. رحمه الله تعالى ورضي عنه ورفع درجته أعلى عليين وأعاد علينا من بركاته وبركات علومه في الدارين بمنه وكرمه.

    انتهت الوفيات بهذا التاريخ.

    الباب الخاس والثلاثون

    ذكر الباشاوات من عام 1042 إلى عام 1063

    أما الباشا علي بن مبارك الماسي فلم يمكث في الولاية إلا ثلاثة أشهر. فخلع في شهر ربيع الثاني، وأجلي إلى تندرم. ثم لم تطب العشرة بينه وبين إخوانه فيه، فأجلي ثانياً إلى بلد شيب. فبقي هنالك إلى أن توفي. وما ولوه يوم توليته إلا أن الجيش لم يجد من سبّل رقبته إلا هو يومئذ لأجل مخافة الباشا علي بن عبد القادر ومهابته الحاصل.

    وفي يوم خلعه اتفق الجيش كلهم على سعود بن أحمد عجرود الشرقي. فقدموه باشا يوم الأربعاء الثاني من ربيع الثاني عام الثاني والأربعين والألف. وكيفما تولى وطاع على الكرسي وجلس للمبايعة، دخل مرسول السلطان عبد الواحد المراغدي الجرار من مراكش جاء ببراوات القياد، وزعم أن كتاب السلطان سرق منه.

    وقد أدركت مخالفة جيش جني على الباشا علي بن عبد القادر ابن أحمد أن القائد حم بن علي هنالك يومئذ، جاء فيها لرسم شراء الزرع له. فقضى حاجته منها وأتمها، فتجهز للرجوع إلى تنبكت، فخرج من جني يوم الثاني من ربيع الثاني.

    وفي يوم الاثنين العاشر من جمادي الأولى قبض القائد ملوك جنكي بكر باتفاق الجيش كلهم وسجن. وزعموا أنه خرق إجماعهم في المخالفة على الباشا علي، لأنهم تعهدوا معه في ذلك وتحالفوا عليها. وقيل أنه الذي بعث له الخبر فيه، وأنهم قبضوا محمد بن مؤمن وأكلوا ما في داره. وبلغه مرسوله في رابع يوم القبض في طريق جهة الحجر.

    وفي عشية الخميس الثلث عشر منه قتل صبراً في القصبة. وجعل رأسه في خشبة ووقفوه في السوق. فكان ذلك منكراً عظيماً وبدعاً شنيعاً عند قومه السودانيين. فقاموا كلهم وخالفوا. ورأس الخلافة يوسر محمد بن عثمان. وتابعه على ذلك ساسر وكرمو وماتع وغيرهم من خدام جنكي الذين في جهة المغرب.

    فحاصر يوسر أهل بينا من التجار. فبلغ الخبر أهل جني، فصرف القائد ملوك المحلة لقتاله، وجعل عليها الكاهيين الفوقائيين محمد بن راح وسالم بن عطية. فطردهم يوسر، ولم ينالوا منه شيئاً، فهربوا، وتركوا واحدة من قباواتهم مطروحة في المرسى، وهي للكاهية سالم، فولوا مدبرين إلى قرية سربا فرسوا فيها، وبعثوا للقائد ملوك أن يمدهم بالإغاثة.

    فذهب فيها الكاهية محمد التارزي بمن بقي في البلد من الرماة، فتلقى بالمحلة راجعين لجني. فرجع معهم ولم يغنوا بشيء. وقبل وصول المحلة إلى بينا صرف يوسر المذكور الصرخة لمن وراءه من السلاطين، دعكي وأمكي وغيرهما، فأجابوه جميعاً. فصرف كل منهم طائفة من الرجال لإغاثته، حتى بقي يوسر يخاصمهم أن لا يصلوا مع الرماة الغاية في القتال ظاهراً عياناً.

    وبقي أهل جني في الحصران أربعة أشهر لا داعياً ولا مجيباً ولا تسمع كل يوم من الخبر السوء إلا ما يكاد أن يقطع نياط القلب، لأن ذلك القتل قد بلغ الغاية والنهاية من الغيظ في القلوب السودانيين. وحلفوا إذا ما أعطاهم أهل جني القائد ملوك ليقتلوه بقتيلهم لا بد أن يأتوا إلى جني ويقتلوا جميع من فيها من البيضان لأهل المخزن ولا غيرهم. والناس في ذلك الهم والغم حتى جاءهم القائد أحمد بن حم علي في أواخر جمادي الآخرة من العام المذكور، ولاه الباشا سعود قيادة المدينة، وعزل ملوك منها. فكان ذلك مفتاح فرج ورحمة. وذكر الناس لهم أن ذلك القتل كان من ملوك وحده فقط، ولذلك عزله صاحب الأمر فرخيت من ذلك شدة غيظهم، وبقي القائد أحمد يسايسهم، ويسكنهم بالعطايا والكلام الحسان، حتى ذهب بأسهم وامتحى. ولكن قد أورث لهم ذلك الحال الخسارة والحقارة للناس.

    وفي أواخر ذي القعدة الحرام مشيت إلى ماسنة عند المحب السيد القاضي محمد سنب السلطان حمد أمنة للزيارة المعتادة. فاستهل علي فيها ذو الحجة الحرام المكمل للعام الثاني والأربعين والألف. وفي نهار يوم التروية وصلت جني، وقد أودعني السلطان حمد أمنة رسالة عند القائد أحمد بن حم بن علي في أمر خديمه جرن كوج، وهو صاحب الرو، قد غضب عليه وخاف من سطوته، فهرب إلى أرض جني عند جاجي ولد حمد عائشة. والعداوة القديمة الموروثة بينه وبين حمد أمنة المذكور.

    فبلغت القائد أحمد تلك الرسالة وذلك أنه طلب منه أن يحتال كل الاحتيال حتى يتمكن من الهارب فيقبضه ويجعله في الحديد فيبعث له بالإعلام فيه. فصرف له القائد أحمد بالحضور لديه غير ما مر، فلم يقبل، كأنه فطن لما في الحال. ثم مضى حمد أمنة للعوالي على عادتهم المعروفة في الارتباع هنالك في المدة المعروفة، إلى أن تمت المدة ورجع للساحل.

    فكتبنا له ما جرى في قصة القائد مع جرن. فاسأخر إلى ليلة الثانية من شوال عام الثلث والأربعين والألف، نهض بنفسه في جيشه قاصداً جاجي المذكور في حلته. فقدم مرسوله الي ساعتئذ، فطلب مني أن ألقاه في الطريق قبل وصوله إلى مقصده، وأن الميعاد في الملاقاة وراء بحر كاكر، يأتي معي شاهد واحد من شهود القاضي لنسعى بينه وبين جاجي في الصلح، وهو ابن عمه، ولا يريد الفساد بينه وبينه.

    فوصل إلي المرسول وذهبت معه عند القاضي فأخبره [فأخبرته] بالرسالة فقال: بسم الله وعلى بركة الله، ولكن بعد استئذان القائد. فأذن فيه وأمرنا بالذهاب إليه. فسمع لذلك الكاهية محمد بن روح فجاء إلى القائد وقال له: هذا طريقنا ليس بطريق الطلبة. فأمره القائد بالذهاب، فذهب مع الكاهية محمد الهندي في جماعة من الرماة والأتباع. فلما رآى ذلك مرسول حمد أمنة قال: هذا رأي سوء ولا يرضى بها أبداً. ولا يقدر هو أن يسبقوه إليه بالعمل الذي ما أمر به، فقطع الأرض قدامهم وسبقهم إليه. ووجده في المعياد نازلاً، فأخبره الخبر. فغضب غضباً شديداً وقال: أي شيء حملهم إلى الدخول في الطريق الذي ليس بطريقهم، هذا الطريق ليس بطريق أهل السلطنة، إنما هو طريق الطلبة، لأنه إصلاح بين الناس.

    وأمر المرسول بالرجوع ثاناً إلى القاضي أن يقول له: لا يأتي إلا عبد الرحمن مع شاهد آخر، وأن يقول له أيضاً: أليس أبوه القاضي موسى داب وشهوده الذين أتوا إلى جده في بلد سع حين وقع الاختلاف بينه وبين أخيه حمد عائشة والد جاجي هذا في الإصلاح بينهم؟

    فرجع المرسول، وركب هو مع جيشه وحاد عن الطريق للكواهي. فلما سمع القاضي مقالته قال: صدق ما قال إلا صحيحاً. فبعث بذلك اللقائد أيضاً، فأمرنا بالذهاب، واتفقنا عليه بعد صلاة العصر.

    فلما بدل الطريق للكواهي، سمعوا بذلك ورجعوا في طريق آخر للقائه، ما وصلوه إلا بعد التعب والمشقة. فلم يرض أن يدنو إليه فضلاً عن رؤيته حتى إلى وب. فنزل فيها، وبني له قباءه، فدخل فيها. فنزل الكاهيان وأتباعهما في الشمس، واستأذنوا عليه. فلم يرض لهم بالرؤية حتى صلى العصر. فخرج وركب وجاز عليهم قعوداً ولم يسلم عليهم.

    فسافط أخاه سلامع إلى عند قصر البلد في جماعة كثيرة الكاهية محمد الهندي هو الذي اجترأ ركب حتى وصله فقال له: يا فندنك، هذا الحال رأينا ما جئت إلا لقتال أهل جني، فإن كان كذلك لا تجوز هذا الموضع حتى تبدأ بنا أولاً، فحينئذ تكلم لهم. وسلم عليهم ورجع بهم إلى عند فباءه، فأنزلهم.

    فصلينا العصر، وعزمنا على الذهاب إليه كما طلب. فحين خرجنا من باب القصر التقينا بخيل سلامع، انتشروا يميناً وشمالاً بالقتل والرمي بالحريش والكشط حتى وصلوا أبواب القصر. فرجعنا خوفاً منه، فخاف أهل البلد خوفاً عطيماً، وظنوا أنه ما صدر منهم هذا العمل إلا بعد ما تعدوا على الكاهيين وأتباعهم. وهم في ذلك الهم والغم إلى عند غروب الشمس، جاء مراسيلهما عند القائد وذكروا له أن الكواهي باتوا عند حمد أمنة في نبكة وب، وأن يضرف لهم الضيافة. فصرفها لهم ساعتئذ على البغل والحمير.

    أما جاجي فهرب إلى وراء البحر خوفاً منه. وأما جرن فهرب إلى جهة أخرى. فباتوا مع حمد أمنة في ذلك الموضع. وفي آخر الليل ركب ولا علم عندهم حتى دخل في حلة جاجي المذكور، فدخل في داره وأجال حصانه فيها راكباً. ثم خرج حتى وصل حائط القصر، ووضع يده عليها أبراء لقسمه. وفي الغد بكرة توادع معهم، فولى إلى بلده. واتبعهم إخوته الثلاثة، سلامع وعلي التلمساني وأبا بكر أمنة، إلى تحت القصر. فتوادعوا، فدخولا القصر. ومضوا لاحقين أخاهم السلطان إلى بلادهم.

    ثم بعث إلى جرن المذكور ابنه أن نطلب له الشفاعة عنده، ليرجع وأولاده لمكانهم ماسنة. فذكرته للقاضي، فكتب له في ذلك، فعفى عنهم وقيل، ولكن بشرط أن يحلفهم في الجامع على أنهم لا يسعون في غدرته أبداً. فأرسل من يحلفهم في جامع قرية كوفس، ورددنا له المرسول في إنفاذ ما أمر فيهم.

    فكتب لنا معه أنه سمع أن الباشا سعود خرج في المحلة عازماً إليه بنفسه، وهو لا يعرف ما الموجب لذلك، لأنه ما خالف ولا خرج من الطريق ولا منع بزنكل ولا بعادة من العوائد، وأنه دخل في حرمة الإسلام وفي حرمتنا وفي حرمة الفقهاء كلهم والمساكين والقوارب والحراثين، إلا ما ترك سبيله.

    فمضيت به عند القاضي فحين صافحه قال: صدق ما نعرفه بشء مما ذكر، ولكن ليس لنا الشهادة به، اذهب الآن في هذه الليلة إلى عند تجار البلد واسألهم عن شهادتهم فيه، لأن أموالهم هابطة وطالعة على هذا البحر، وهم أعرف بما في الحال، فإن سمعت شهادة اثنين منهم كفى، وأرسل عند القائد أحمد في هذه الليلة من يخبره بهذه الوقعة، وأنا أتيه غداً إن شاء الله تعالى في أمر هذه الشفاعة عند الباشا.

    فكملت الأغراض كلها كما أمرني. وبتنا على أن نبكر عنده غداً، فإذا مرسول الباشا قد ورد إليه بكرة بكتابه كتبه في بلد تندرم في محمته. وما ترك من فحش الكلام وخطاب الغضب إلا وذكر للقائد وجيش جني والذين معه كيف جاءهم حمد أمنة الطاغي تحت القصر، وسدوا الأوباب عنهم دونه، وحاصرهم سبعة أيام، وما ولى عنهم إلا بعد الرشوة الكبيرة، وها هو جاء، وما يلزمهم وحمد أمنة المذكور من العقوبة يرونها إن شاء الله.

    فبعد ما قرأوا الكتاب صرف إلي القائد بأن أقول للقاضي لا يأتيه أصلاً، قد جاءهم كتاب الباشا بما لا ينبغي من كلام السوء في شأنهم مع حمد أمنة، وأنهم نسوا أنفسهم فضلاً عنه. فانكف القاضي عن ما يريد. ولما سمع جرن بما جرى تشوش ولم يجد الصبر من نفسه إلى مجيء ذلك الإذن. فرجع وأولاده إلى ماسنة عند حمد أمنةـ فعفى عنهم وتركهم.

    وفي أواخر ذي القعدة الحرام وصل الباشا سعود مدينة جني، فنزل في سانون وبنى محملته على رملته. ثم ارتحل وتوجه إلى بينا للانتقام من يوسر في ثاني ذي الحجة الحرام المكمل للعام الثالث والأربعين والألف. فهرب منه أهل ذلك البلد كافة، وهرب يوسر إلى قريب منه، فكمن هنالك حتى رجع.

    ولم يأت إليه من ولات تلك النواحي إلا شيلي كي وورنكي فقط. وأما دعكي وأمكي فبعثا إليهم مراسيلهما بالسلام عليهم. وبقي هنالك حتى صلى عيد النحر، وفي ثاني يوم العيد رحل منها راجعاً إلى جني. فنزل في منزله الأول، فشرع في ظلم العباد.

    ونم الناس بعضهم بعضاً، وسعى الوشاة إليه بأخوي محمد سعدي وعبد المغيث قبل أن يخرج من تنبكت، فبعث لهما في المجيء إليه في المحلة بعد أن قبض من محمد سعدي مائتين مثقالاً ظلماً. فلما امتثلا بين يديه قال: يا الفع سعدي ليس لك شغل إلا اجتماع التجار في دارك كل يوم مع القائد أحمد في ذكر عيوبنا ومساوئنا، ولكن ما سمعنا أنك تخوض في ذلك معهم، وأنت يا عبد المغيث يا كذا يا كذا، أنت الذي تظلم الناس وتأخذ متاعهم طلماً للقائد أحمد، ارتحل من هذا البلد وارجع لتنبكت. ثم أمرهما أن يرجعا لديارهم.

    ونوى التأخر هنالك إلى سلخ المحرم. وفي يوم واحد جاء البشوطات إلى كبر لرؤية أصحابهم وأحبائهم هنالك. فسمعوا فيه جميع ما قبض من الناس ظلماً، فجعلوا أن ذلك ما وقع في آذانهم في المحلة، فقالوا له: هذا تخريب البلاد. ولما رحعوا إليه عشية ذلك اليوم قالوا له: تعزم على الرجوع لتنبكت غذاً. فاسعذر لهم لا يمكن ذلك حتى بولي المراسيل الذين صرفهم عند سلاطين هذا الأقليم. قالوا له: ولا بد من المشي، لأن هذا البلد لا طاقة لأهله على تأخرنا فيه، إن لم يكن لك مراد فيه فللسلطان وجيشه مراد فيه. فعزم وقسم الشراويط لأرباب القوارب للخياطة.

    وحين نزل في المحلة عند مجيئه من تنبكت سأل القائد أحمد عن حالهم مع صاحب ماسنة حين نزل عليهم في جني، فقال له: ما أتى من أجلهم، إنما أتى من أجل خديمه الذي هرب منه ونزل عند أعدائه، وإنهم ما عرفوه بالخروج من الطاعة. فقال: إن كان كذلك لأي شيء مرسله ما جاءنا لزيارتنا والسلام علينا وصرف ضيافتنا؟ فأرسل القائد أحمد ساعتئذ من عنده إلي بأن أرسلله، ولا بد أن يصرف ضيافة الباشا مع مرسوله بعجلة ومبادرة، وأن لا يجيئ أحد في ذلك إلا كنبمع. ففعل فجاء بالضيافة، وسلم عليه ودعا له وجدد العهد، ومشى معه إلى بلد كونا فسافط معه هنالك. ثم صرف للفقيه محمد سعدي أن يأتيه في المحلة ليتغفرا. فأتاه وتغافرا وكساه.

    وفي آخر يوم من ذي الحجة خلع جنكي محمد كنبر بن جنكي محمد ينب. وفي أول يوم من المحرم الفاتح للعام الرابع ولأربعين والألف استخلف جنكي عبد الله بن جنكي أبي بكر. وفي ثاينة نهض راجعاً إلى تنبكت، وذهب بالأخ عبد المغيث معه، وجعله في قارب الخزانة، ووصى خازنه الشيخ بص عليه بخير. وركبت معهم يومئذ لموادعة الأخ إلى قرية دبن.

    فنزل عليه، أي الباشا سعود، مرض الموت ضحوة يوم رحلته من جني. وغلبه الركوب، فدخل في القارب، ورجعت أنا إلى جني. وفي بلد كونا تلقا خبر هروب الأمين القائد عبد القادر العمراني، قد هرب في أواسط ذي الحجة، فازداد مرضاً على مرض من الكرب والغم. وكان هروبه في أواسط ذي الحجة الحرام، لما رأى الخلل والفساد والرذالة فيهم. فقصد المرابط سيد علي صاحب ساحل، فلقيه بالخير والإكرام، وسكن عنده في عز ومنعة.

    فوصل هو إلى تنبكت بذلك المرض، ولما بلغ المرسى أمر الأخ عبد المغيث أن يسير دار والده ويسكن فيها. وولى الحاكم أحمد بن يحيى مقام العمراني، فصار قائداً أميناً في ثالث عشر يوماً من المحرم المذكور عند وصوله تنبكت. وبقي هو كذلك مريضاً إلى أن توفي في أوائل الربيع النبي، ودفن في جامع محمد نض. فخلفه في ولاية المرتبة بهذا التاريخ الباشا عبد الرحمن بن القائد أحمد بن سعدون الشاظمي باتفاق الجيش.

    وفي يوم الأحد السبع والعشرين من جمادي الآخرة من هذا العام خرجت من مدينة جني إلى تنبكت لمطالعة حال الأخ عبد المغيث، وطلب الشفاعة له لكي ترجع [يرجع] لداره في جني. فاستهل علينا شهر رجب الفرد عند توجهنا بحر دب، ورسينا كبر عشية الاثنين، ودخلت مسقط الرأس مدينة تنبكت يوم الأحد الخامس من الشهر المذكور.

    وتلقيت فيه الخير والإكرام، ووصلت عند الباشا، فسلمت عليه. فرحب بي وأكرمنه وأفرحني في الأخ المذكور. وقال: جميع ما نسب إليه النمامون من السوء فهو منه بريئ، وذلك زور وافتراء. ووعدني بإطلاق سراحه ورجوعه لداره إن شاء الله تعالى. وقال أن: الذي نمه عند الباشا سعود ما توسل إلا بي، وأنا الذي أمرته بإخراجه من جني، وهو رحمه الله ما عقبه في مقامه إلا أنا، ولا يكون صواباً أن أنقص أمره بقرب وفاته. فدعوت له وقرأت له الفاتحة. وقد كشف الله لنا ذلك النمام فعرفناه. فحكم الله تعالى فيه بما هو أعظم مما جرى على الأخ المذكور. فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين.

    وفي عشية الاثنين السابع والعشرين منه عزل أسكيا محمد بنكن. وفي يوم الأربعاء آخر يوم من رجب الفرد المذكور ولي أسكيا علي سنب مقامه.

    وفي يوم الجمعة بعد صلاة العصر الثاني من شعبان خرجت من تنبكت راجعاً إلى جني، فوصلته في أواسطه سالماً معافاً، والحمد لله رب العلمين.

    وفي ضحوة الجمعة الثالث عشر من المحرم الحرام الفاتح للعام الخامس والأربعين والألف توفي الشيخ الفقيه العلامة القاضي أبو العباش سيدي أحمد بن أند غمحمد بن أحمد، رحمه الله تعالى ونفعنا به. وولي القضاء الفقيه القاضي محمد بن الفقيه الإمام محمد بن محمد كري.

    وفي أوائل الصفر من هذا العام توفي الباشا عبد الرحمن، ودفن في مقابر الجامع الكبير، ومكث في الولاية إحدى عشر شهراً. فتولى الباشا سعيد بن علي المحمودي يهذا التاريخ. فعزل أسكيا علي سنب، ومكث فيها خمس أشهر وأياماً، ورد أسكيا محمد بنكن في مقامه.

    في أيامه جاء تيرا فرم إسماعيل أخو أسكيا داوود بن أسكيا محمد بان بن أسكيا داوود إلى تنبكت خوفاً من أخيه المذكور أن يقتله. فطلب من الباشا سعيد أن يمده بالجيش من الرماة حتى يعزل أخاه من السلطنة وتولى مقامه. فنهاه عنه أسكيا محمد بنكن على وجه النصيحة، فلم يقبل، وغضب عليه، وزعم أن الناس أخبره أنه لا يفسد أمره عند أهل المخزن غير هو. فلما سمع ذلك أسكيا محمد بنكن عاونه عند الباشا سعيد، حتى قضى حاجته بما أراد. ولكن كتب بذلك عند أهل كاغ، وأمرهم أن يعطوه من الجيش ما يكفيه.

    فتوجه بهم إلى دند، وطرد أخاه، وتولى مقامه. فطرد إلى الرماة، وشمت بهم، وأطلق لسانه فيهم بالسب والفحش من الكلام. فبقي غيظ في قلوبهم إلى ولاية الباشا مسعود.

    ثم إن القائد أحمد بن حم بن علي شرع في أصناف من الظلم والجور للخاصة والعامة من التجار والعلماء والضعفاء والمساكين، حتى انتقل جميع التجار من جني إلى بلد بينا، وعزالني من الإمامة ظلماً وعدواناً. فذهبت إلى تنبكت وفي أوائل شوال من العام السادس والأربعين والألف، وصلته ولقيني أهلها بالخير والإكرام من أهل المخزن وغيرهم. فغضبوا عليه غضباً شديداً، ولا تسمع عليه إلا داعياً وساباً.

    فمشيت عند الفقيه القاضي محمد بن محمد كري لأسلم عليه. فلما رآني قام على فراشه ورحب بي وقبض يدي وأجلسنه على ذلك الفراش، وبادرني بالكلام فيما عاملني به من العمل السوء. فقال: سمعت أن القائد أحمد رجع منافقاً نماماً حسوداً. ثم استرجع من اجتماع هذه الأوصاف الثلاثة الذميمة في والٍ. ثم دعا عليه بأن يجعله الله في إرادته.

    ثم راودني أهل تنبكت أن أرجع في تلك الإمامة، فامتنعت ولم أقبل. منهم السيد المحب الأعظم الشريف فاين [فاشز] والمشاور مسعود بن منصور الزعري، وبيده الحل والعقد يومئذ، وحتى كتب إليه الباشا سعيد بن علي المحمودي في أمري-فسبحن من له القدرة والإرادة-والكتاب ما زال بيدي.

    جاءت إليه الشكوى في أمره، وترادفت بأنه من المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، من تجار البلد ومن أهل أكبار أولاد سالم وغيرهم. فعزله يوم السبت السادس عشر من ذي القعدة الحرام في العام المذكور، ومكث في القيادة أربع سنين وستة أشهر. وصُرف للكاهية محمد بن الحسن التارزي في حني أن يأتي، فولاه الباشا سعيد المذكور قيادة جني في أوائل ذي الحجة الحرام المكمل للعام السدس والأربعمائة والألف. وفي أول المحرم الحرام الفاتح للعام السابع والأربعين والألف رجع إلى جني قائداً.

    وفي يوم الأربعاء الثاني من جمادي الآخرة من هذا العام عزل الباشا سعيد، فتولى مقامه الباشا مسعود بن منصور الزعري باتفاق الجيش، ومكث المعزول في الولاية سنتين وخمسة أشهر. وفي شهر ذي القعدة الحرام منه أطلق سراح الأخ عبد المغيث، فرجع إلى جاره في حني.

    وفي هذا الشهر ابتدأت الحوادث والغلاء المفرط التي لم تعهد مثلها في جني، وبقيت تزداد حتى عمت الآفاق والأقطار، وبلغت في الشدة مبلغاً، حتى أكلت امرأة ولدها، ومات منها من الخلق ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى. وفرغ الجهد من الناس حتى عجزوا عن تجهيز الأموات إلا حيثما مات امرء ووُري فيه من البيوت والأزقة بلا غسل ولا صلاة. فدامت نحو ثلاث سنين، ثم انصرمت، والحمد لله رب العلمين.

    ثم إن القائد علي بن رحمون سافط مراسيل الباشا مسعود الذين جاءوا معه إلى جني، وصرف معهم القائد محمد التارزي إليه بأمره. ولما نأوا به عن المدينة ربطوه في الحديد فوصله في تلك الحالة في دار السلطان في المشورة بأمره. ثم أمر بإخراجه إلى بلد أنكند، وهو موضع العذاب لمن غضب عليه، فقُتل هنالك ورمي به في البحر، وذلك في أواخر ذي الحجة الحرام المكمل للعام الثامن والأربعين والألف.

    وفيه عزل الأمين القائد أحمد بن يحيى وأمر بإلقائه في البحر في موضع يقال له بور يندي، فمات منه بعد عزله بثلاثة أيام، ومكث في القيادة خمسة أعوام غير عشرين يوماً. وفي يوم الأحد السابع والعشرين من الشهر المذكور ولي الأمين القائد بلقاسم بن علي بن أحمد التملي مقامه.

    وفي أوائل الصفر في العام اتاسع والأربعين والألف توفي القائد ملوك بن زرقون في تنبكت، ودفن في مقابر الجامع الكبير.

    وفي ليلة الأربعاء السابعة منه توفي القائد أحمد بن القائد حم بن علي، وألقى في البحر بأمره في قرب قرية كن، فمات منه، بعد ما أمر بأكل داره وسجنه في بلد كب زمناً طويلاً.

    وفي يوم الاثنين الثاني عشر منه خرج بالمحلة إلى أرض دند لمقاتلة أسكيا إسماعيل بن أسكيا محمد بان بن الأمير أسكيا داوود لأجل ما عامل به الرماة الذين مشوا معه لمطاردة أخيه من الأعمال السوء التي تقدم ذكرها، ولما يتكلم به من فحش الكلام للباشا مسعود وحده خاصة. فكتم وجه مقصده عن الجيش حتى بلغ بلد بنب فأظهره حينئذ، وتأخر فيه عشر أيام لخياطة القوارب. ثم دفع إلى مدينة كاغ، فتأخر فيها عشرة أيام. ثم دفع إلى كوكيا فعمل فيها ليلة الولادة. ثم توجه إلى لولامي بلد أسكيا، فوصلها مع عسكره. وقاتل معه وهزمه مع جيشه، فتفرقوا شذر مذر. ونزل الباشا مسعود بالمحلة في البلد المذكور مع أسكيا محمد بنكن، وهو صاحب الرأي والتدبير، وصرف لمن قرب من أهل سغي بالأمان والمجيء، فجاءوا وأطاعوا. وقلد الباشا أمرهم لمحمد بن أنس بن الأمير أسكيا داوود، وجعله أسكيا لهم. فسبي أموال الهارب إسماعيل وعياله وذراريه، وهم جماعة كبيرة. ثم ارتحل بعسكره راجعاً إلى تنبكت. فلما ولوا بقليل رجعوا لبلدهم وعزلوا محمد ولد أنس المذكور، وقلدوا أمرهم لداوود بن محمد سرك أجي بن الأمير أسكيا داوود.

    وما وصل الباشا مسعود مرسى كرنزفي إلا يوم الثلاثاء آخر يوم من رجب الفرد، واستهل شعبان بالأربعاء. ودخل في تنبكت يوم الخميس الثاني منه في أثناء تلك الغلاء. فبقيت تزداد حتى بلغت الغاية والنهاية وغلبت الوصف. وقسم أولاد إسماعيل لرؤساء السودان ليكفو لهم: بركي ودرمكي وجنكي، وكبرائه شم وتاكر وسلتي وري وغيرهم.

    ثم إن القائد علي بن رحمون عجز عن إداء الرواتب والمونات من أجل الشدة التي عمت العباد والبلاد، حتى بقي لا يرد الجناية ما فيه نفع. فعزله الباشا مسعود في أوائل المحرم الحرام الفاتح للعام الحادي والخمسين والألف، ومكث في الولاية سنتين وثلاثة أشهر وأياماً يسيراً. فولاها الحاكم عبد الكريم بن العبيد بن حم [وحق] الدرعي، فمكث فيها عاماً وعشرة أشهر، ما أغنى شيئاً.

    وفي ليلة الأحد الحادية والعشرين من رمضان في العام الثاني والخمسين والألف توفي المحب الناصح النافع أسكيا محمد بنكن بن بلمع محمد الصادق بن الأمير أسكيا داوود، رحمه الله تعالى وغفر له وعفى عنه بمنه، بعد ما مكث في الولاية إحدى وعشرين عاماً وتسعة أشهر، وفيه خمسة شهر أيام أسكيا علي سنب. فولى مقامه لابنه الحاج محمد، وهو بنك فرم يومئذ. ولم يتول بنك فرم مرتبة التسكية منذ ابتداء دولتهم إلا هو، وهو الذي فيها اليوم، أعني الحاج محمد بن أسكيا محمد بنكن.

    وفي أواسط ذي القعدة الحرام من هذا العام المذكور عزل الحاكم عبد الكريم من حكومة جني، وولاها عبد الله بن الباشا أحمد بن يوسف قائداً. فدخل مدينة جني ضحوة الجمعة السابع من ذي الحجة الحرام المكمل للعام المذكور.

    وفي يوم الأحد التاسع منه يوم عرفة قام أهل جني وخالفوا على الباشا مسعود, وأحصوا أمواله التي في ذلك البلد وأعطوا منها الرواتب والمونات، وسجنوا مراسيله الذين كانوا هنالك، وربطوا الطريق إلى تنبكت ومنعوا السالكين من عندهم إليه من المسافرين. ثم أطلقوا قاربين في يوم الأحد الخامس عشر من المحرم الحرام الفاتح للعام الثالث والخمسين والألف كي يبلغوا حقيقة خبرهم لأهل تنبكت، لعلهم يخالفون عليه كما خالفوا.

    فلما سمع ذلك الخبر احتال في المضي إليهم بالمحلة، فعزم على الخروج يوم الاثنين غرة صفر، الخير خالفوا عليه، وانفصلت جماعة منهم يومئذ، ووذهبوا إلى عند القائد محمد بن محمد بن عثمان إلى داره.

    فلما بلغه الخبر تحزم إليهم في جماعة من أهل الجيش الجل منهم تبعوه بلا نية له. فلما بلغهم في باب دار القائد محمد المذكور بادرهم بالقتال. فأعطوه وجوههم، فانكسر، واتبعوه إلى باب القصبة. فاقتتلوا، ومات منهم من قدر الله أجله فيها. وأدخل الذين معه في القصبة وغلق الباب عليه وعليهم.

    فخرج القائد محمد وأصحابه ساعتئذ إلى المرسى وباتوا. ثم وقبضوا جميع ما هنالك من القوارب فحصروهم. ولحقهم هنالك كثير من أهل القصبة تلك الليلة، فخرجوا من أعلاها. فصرف إليهم الشرفاء ليصلحوا بينهم فأبوا. ثم خرج في جماعة من الخيل وتوجه نحو المغرب ناوياً الهروب، فبات في الغيبة ليلة واحدة، ما وجد السبيل إلى ذلك. فرجع للبلد وسلم لله تعالى فيما قدر وقضا، لأن الأيام قد تمت والملك قد زال وانقرض. فقبضه من بقي في القصبة خوفاً على أنفسهم من العقوبة، فسجنوه وبعثوا بخبره لأصحابه في المرسى في أوائل الصفر في العام المذكور. فبايعوا ساعتئذ الباشا محمد بن محمد بن عثمان بيعة تامة باتفاق أولئك الجيش.

    ثم ارتحلوا من المرسى إلى تنبكت فطالعوا بيت السلطان، ولم يجدوا فيها من المال شيئاً سوى أربعمائة مثقال حلياً. فسئل بالمال وهو في السجن، فلم يقر بشيء. فشدد عليه في المسألة، حلف إذا انقضى هذا الشهر عليه وهو في الولاية لظهر عدمه واكشف حاله حتى يعلمها الخاصة والعامة. ثم طلب من الباشا محمد الأمان على روحه. فقال أنه أعطاه أمان الله على روحه الذي ليس كمثل أمانه الذي ينقصه ويغدر فيه. ثم بعث به إلى صاحب كرو مقيداً برسم السجن هنالك. فبقي كذلك إلى أن مات في مدة الحيوني. ومكث في الولاية خمس سنين وثمانية أشهر وأنام يسير.

    وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين من هذا الصفر مشيت من بلد ونزع إلى ماسنة لتعزية أهل بيت المحب الفقيه محمد سنب بمصيبة موته، وتعزية السلطان فندنك حمد أمنة بمصيبة موت أخيه سلامع. فوصلت حلة السلطان عشية الثلاثاء آخر يوم من الشهر المذكور فسلمت عليه ودعوت له، واستهل علي الربيع النبوي عنده ليلة الأربعاء. وأخبرني في تلك الليلة أنه سمع في هذه الساعة أن غزوة الباشا تأتيه، وأنه بلغوا بلد شيب.

    فوادعته تلك الليلة لأجل هذا الخبر، وأخبرته بأن أمضي إلى محلة الأخ المرحوم لأعزي أهله. فأمرني أن أقول لأخيه الفاضي علي سر أن يرتحل إليه لأجل هذا الخبر. فخرجت من عنده بكرة، فوصلتهم عشية الأربعاء، فعزيتهم، وبلغت القاضي رسالته، وبت عندهم ليلة الخميس. وفي غدها بكرة خرجت من عندهم قاصداً يور، فبت حلات الصنهاجيين أهل ماسنة بعد ما وصلت بلد كنكر لبعض الحاجة.

    فلما صليت الصبح خرجت من عندهم قاصداً حلة الأخ الفقيه بو بكر مود، وهي في قرب جبل سربا في أرض بحر دب، وقت يبس الماء. وفي وقت الضحى تلقيت مع أناس هاربين بأموالهم من البقر من ناحية إلى ناحية في المرعى لأجل خبر تلك الغزو. وفي وقت الزوال وصلت عند ذلك الأخ، فأخبرتهم الخبر. فبعث الطليعة ساعتئذ. وكيفما صلينا المغرب رجع بصحة ذلك الخبر، وزعم أنه سمع أن أسكيا هو الذي أتى بتلك الغزو.

    ورحلوا ساعتئذ بأنفسهم وعيالهم وبقراتهم، وتركوا خيامهم منصوبات وآثاتهم وأمتعتهم وهربوا، وهرب جميع من كان في تلك الناحية كلها إشتاتاً إشتاتاً خائفين مرعوبين، لا تسمع إلا بكاء وصراخاً، ولا ينتظر أحد أحداً، ولا يلتفت أحد إلى أحد. فباتوا كذلك إلى ضحى الغد، نزلوا قليلاً. ثم تشوشوا من شدة الخوف في قلوبهم فارتحلوا هاربين. ومات كثير من الناس في ذلك اليوم من العطش.

    وكنت معهم حتى حاذينا بلد كعني، فارقتهم وطرقته وتأخرت فيه، حتى جاء الصحيح من الخبر أن تلك الغزو جاءت لأجل فندنك عثمان صاحب دنك، لما غضب عليه الباشا، فهرب. ودخلوا في إثره حتى دخل ماسنة. وانتهت الغزوة عنكب، فرجعوا منه إلى تنبكت. وأسكيا ليس فيهم بل ظنوا ذلك.

    ثم ركبت القارب منه إلى عند صاحبي منس محمد بن منس علي صاحب فدك، قد أرسل لي بأن أجيء بالقارب لرفود الزرع، لما سمع أني عازم على المسير إلى تنبكت. فدفعت من ذلك البلد يوم السبت الخامس عشر من جمادي الأولى. وفي يوم الأربعاء السادس والعشرين منه عند الظهر وصلت بلد كوكر، واستأخرت فيه عند سلطانه ماير ثلاثة أيام: يوم الخميس والجمعة والسبت. وفي نهاره دفعت منه إلى عند فدك كي، واستهل علي شهر جمادي الآخرة في قرية فولو ليلة الأحد. وفي ضحوة الأربعاء الرابع منه وصلت بلد كمن، وهو مرسى بلد فدك، فنزلت فيها، وبعث له الأعلام بمجيئي. فجاء عشية ذلك اليوم للقائي راكباً بنفسه، والسحاب تنزل في جشمه، وخدمه وإخوته. فرحب بي وأكرمن غاية الإكرام.

    وفي ليلة الاثنين السادس عشر منه بعد العشاء الآخرة زادت لي بُنية من جاريتي تنن في البلد المذكور، سميتها زينب. الجمعة الحادي عشر من رب الفرد خرجت من البلد إلى بلد شبل زائراً سلطانه سن كي عثمان والفقيه أبا بكر المعروف بموركيبا. فوصلتهما عند الظهر، فرحباني وأكرماني غاية الإكرام، فكساني الفقيه أبو بكر سعنتر المذكور، وأعطاني سن كي أمة. وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين منه رجعت إلى كمن، وفي يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان رجعت عند الفقيه المذكور لسرد كتاب الشفاء له في بيته. فاستهل علي رمضان فيه ليلة الجمعة، فشرعنا في السرد بعون الله تعالى وإرادته، وفي آخر الشهر ختمته. فواساني بما أمكن له، تقبله الله تعالى له. ثم طلب مني أن أفسره لأولاه، فشرعنا فيها حتى أختمناه بفضل الله تعالى وحسن عونه.

    وفي عشية الاثنين السادس من ذي الحجة الحرام المكل للعام الثالث والخمسين والألف توفي الأخ المحب النافع الفقيه المذكور، فغسلته وصليت عليه. فأعطاني أولاده بعد الصلاة وقبل الدفن خادمين وعمامة شاشي صدقة عليه. فأعطاني السلطان عثمان عبداً لجميع الطلبة الذين حضروا الصلاة صدقة عليه، وهي عادتهم في أمواتهم. ودفناه تلك الليلة، غفر الله له ورحمه وعفى عنه بمنه وكرمه.

    وقد أعطاني ابنته حليمة لأزوجها، ما قدر الله زواجها إلا بعد وفاته. فعقدت عليها ليلة الاثنين الثانية عشر من المحرم الفاتح للعام الرابع والخمسين بعد الألف، وابتنيت بها ليلة الجمعة السادسة عشر منه. فأمرني السلطان بالتوطن عنده بالعزم الشديد الوكيد، فأخبر جميع أناسه بذلك. ولم أقبله في نيتي.

    وفي ضحوة الجمعة الثامن والعشرين من صفر ورد علينا مرسول الباشا محمد بن محمد بن عثمان وأسكيا الحاج محمد بكتابهما لفدك كي وسن كي فأخبراهما أنهما عزموا على الخروج بالمحلة لقتال صاحب التمرد والعناد والبغي والفساد الطاغي حمد أمنة صاحب ماسنة، وأمروهم-متى هزموهم بإذن الله تعالى وقوته وهربوا، فلا لهم طريق إلا عليهم-فليقتلوهم وليأكلوا أموالهم، فالله تعالى يهنئهم بها. وكتبوا مثل ذلك لكوكركي ماير وياركي بكر.

    فأمسك فدك كي كتابه ولم يبده له، وبعث لماير كتابه مع أحد من خدام أسكيا. فردوا لهم الجواب صحبة المراسيل بأنهم على السمع والطاعة، وأنهم متى مسعوا بوصولهم في أرض ماسنة لا بد أن يقفوا عليهم هنالك للسلام ورفع التراب. أنا الذي كتبت لهم ذلك الجواب، وسلمت عليهم في الكتاب، وأخبرتهم فيه بأني آتي معهما إليهم بإرادة الكريم الوهاب. فزينت ذلك الأمر لهما حتى قبلوه قبولاً حسناً، وطفقوا في الاستعداد والأهبة.

    وفي يوم الاثنين الثاني من الربيع النبوي خرجت من شبل إلى سن مادك للتسوق، وفي العشية رجعت. وفي يوم الخميس الثاني عشر منه خرج الباشا وأسكيا في المحلة من تنبكت إلى ماسنة، وكتب لأهل حني أن يلقيه الكاهيان وجنكي في الطريق، والميعاد في ذلك عنكب. فأتى إليهم الكاهية محمد بن روح والكاهية محمد بن إبراهيم شمر وجنكي إسماعيل في ذلك الميعاد.

    فدخلوا في ماسنة، فتييأ حمد أمنة لقتالهم. فالتقوا ظهر الأحد الثالث عشر من الشهر المذكور، فوقع بينهم قتال شديد وحرب أكيد. فإذا المطر قد نزل عليهم في حال القتال، فافترقوا. ونال منهم حمد أمنة تلك الساعة نيلاً عظيماً. وبعث من وراءهم كتيبة من كتائبه، فقتلوا كثيراً من الرماة الذين كانوا مع الخزانة والخدمة والحشمة، ونهبوا جميع ما معهم من الأزواد والأمتعة، وأفسدوها إفساداً فاحشاً، حين كان الناس يشتغلون بالقتال في المعركة. ولما افترقوا عند نزول ذلك المطر باتت كلتا الطائفتين في مقابلة الأخرى. وفي الصباح عادوا بالقتال، فنصر الله تعالى جيش الباشا على أهل ماسنة في صبيحة ذلك الاثنين الرابع عشر من الشهر، وهزموهم بإذن الله تعالى وقتلوهم قتلاً عظيماً.

    ثم بعث حمد فاطمة بن فندنك إبراهيم إلى الباشا محمد في طلب الأمان ليأتي إليه ويدخل في طاعته. فأذن له في ذلك. فجاء إليهم، وجعله فندنك. فنهض بين يدي الجيش ثانياً إلى أينما كان حمد أمنة، فوصلهم فجاءة في حلته، فطاحوا عليهم. فهربوا وتركوا أموالهم وديارهم وتفرقوا شذر مذر وشتتوا إشتاثاً. وغنم الجيش أموالهم وردوا لحمد فاطمة ما طلب من عيالهم، وجعل كبار بنبر يقبضون ما توجه نحوهم من عيالهم وأموالهم انتقاماً من الله تعالى لهم من كثرة جورهم وتمردهم وطغيانهم وإفسادهم في الأرض من كل جهة ومكان. وكم قتلوا من أهل الله تعالى والفقراء والمساكين، وأخذوا أموالهم ظلماً وعدواناً.

    وفي يوم الثلاثاء السابع من جمادي الأولى دفع سن كي عثمان وفدك كي محمد من بلد ناكر في ثلاثة عشر قوارباً صغاراً ذاهبين لزيارة الباشا محمد وأسكيا وفاءً لموعدتهم، وأنا معهم في إحدى القوارب. فدخلنا في بحر زاغ، فتلقاهم حمد أمنة المذكور في بلد ككن. فتحدث معهم طويلاً حتى سألهم مِم ذهابهم إلى المحلة. فقالوا: للزيارة وطلب المصالحة منهم معك. فقال لهم: نحن وأنتم متجاورون من قديم عصر من عهد الأباء والأجداد، فإن كنتم مستمسكين بحبل ذلك الجوار فارجعوا لبلادهم، لأنهم سلاطين، فكل من قدم على السلطان فلا له إرادة ولا تصرف في أمره، وإذا أمروكم بالغزو علي لا بد لكم من إنفاذ أمرهم أحببتم أم كرهتم. فقالوا: لا بأس إن شاء الله، ولا بد من القدوم عليهم حيث وصلنا هنا.

    فنوادع معهم، وأمرهم بالانتظار عند وراء بحر كلنك حتى يبعث لهم ضيافتهم من البقرات، فبعثها. فشرعوا في المسير. فقلت لهم على وجه النصيحة: متى وصلتم الباشا وأسكيا لا بد أن تخبروهم بجميع ما جرى بينكن وبينه، لكي تكونوا من الصادقين في الطاعة. فقبلوا تلك النصيحة.

    وفي يوم الاثنين اثالث عشر من الشهر المذكوروصلنا بلد كرن. فتلقينا فيها يومئذ مع جنكي إسماعيل والكاهية محمد بن روح والكاهية محمد شمر وفندنك حمد فاطمة والكواهي المعزولين من أهل تنبكت في الغزو يقصدون حمد أمنة المذكور. ففرحوا بهم وأكرموهم وعظموهم غاية ونهاية. فقص عليهم ساعتئذ فدك كي جميع ما جرى بينهم وبينه في طريقهم. فقالوا له: إياه نقصد. فقال لهم: على بركة الله وحسن عونه، ونحن معكم على ما تريدون وتبعغون.

    فكتب الكاهية محمد بن روح وجميع الكواهي ساعتئذ بخبر وصول أهل كَل إليهم في كرن، وأنهم فرحوا بمجيئهم على الحال الذي جاءوا به. وطلبوا منه أن يزيد لهم في الرجال، وأن يكون أكثرهم أهل الرجل. أنا الذي كتبت ذلك الكتاب لهم للباشا. وما أتا به سن كي وفدك كي من الخيل له ولأسكيا بعثاهم لهما هنالك وكتبا لهما كتاباً بالسلام والدعاء، وأنهما متى تم المراد في لحوق الطاغي حمد أمنة يأتيان إليهما لرؤية وجوههم. وكتبت أنا كتابي وقلت فيه للباشا ما جئت في هذا الطريق إلا لزيارته والسلام عليه، ولم أجد السبيل إليه في هذه الساعة لأجل اتباع أهل كل مع هذه الحركة.

    ومحلته يومئذ في يور. فبعث الرجال الذين طلب منه الكواهي أن يمدهم بهم، فجعل عليهم أسكيا محمد والكاهية أحمد بن الباشا علي بن عبد الله التلمساني. فوصلوا إلينا في كرن يوم الجمعة السابع عشر من الشهر المذكور.

    ثم أتاهم الخبر ليلة الأحد التاسعة عشر منه بموضوع مخصوص الذي فيه حمد أمنة. وأما الصلح الذي ذكر فدك كي لحمد أمنة فكان نسياً منسياً، حيث وجد حمد فاطمة جعل سلطان ماسنة.

    وفي صبيحة ذلك الأحد نهضوا إليه، وركبنا قواربنا ساعتئذ راجعين إلى كل. وأمرنا أصحابنا بانتظارهم في بلد زاغ حتى يأتونا هنالك. فمضوا ومضينا، ووصلناه عشية الثلاثاء الحادي والعشرين منه، وتربصنا فيه أربعة أيام.

    وفي عشية السبت الخامس والعشرين منه بعثوا لنا بالمضي إلى نورنسن، وهي دار سن كي الذي في ساحل بلده، وننتظرهم هنالك، وإنهم في تدبير أمر المطلوب والمطر قد صد عن السبيل إليه. فرجعنا ووصلنا يوم الأربعاء بعد صلاة العصر ليوم بقي من الشهر المذكور. فنزلت ساعتئذ وطلعت إلى شرل، وبلغته عند أصيل الشمس، وأخبرت أهله بسلامتهم وبالخير الذي عاملهم به الباشا وأسكيا. ففرحوا غاية الفرح ولم يقدر أحد أن يصل داره إلا أنا وحدي فقط حتى أدركهم السلاطين ثم.

    فتم الشهر واستهل جمادي الآخرة بالجمعة. ثم إن الغزو رجعوا، ولم يجدوا حمد أمنة أنيما كان. وفي يوم الاثنين الحادي عشر منه وصل سن كي وفدك كي بلدهما. ثم سمعنا أنه في أرض في سندي، وهو فصل بين أرض كَل وأرض قياك. فأمراني أن أكتب له على لسان الباشا وأسكيا أن يطرده من أرضه، وإذا تمكن منه يقتله. فقبل وأنعم.

    ثم استهل علي رجب الفرد في شبل بالسبت. واستأذنت سن كي عثمان في المسير إلى جني لرؤية إخوتي وعيالي، فأذن لي. فخرجت من شبل يوم الاثنين الثالث منه بالبر. فقطعت بحر كمن يومئذ وبت فيه ليلة الثلاثاء. وفي صبيحته خرجت منه سالكاً في طريق زول. وفي القائلة طلعت السحاب وقارب، وكيفما دخلت في بلد ماكر [مطر] نزلت فاستأخرت فيه حتى انقطعت. وخرجت في وقت الظهر، وصلت زول وبت فيه ليلة الأربعاء عند ريئسه زول فرن. وفي ليلة الخميس بت في بلد فال عند فال فرن. وفي نهار الخميس وقت القائلة وصلت بلد فوتن، وهو لكمي كي، وبت فيه ليلة الجمعة. وفي ضحوتها وصلت بلد تنك، وهو لشلي كي. وبعد صلاة الجمعة خرجت منه، فبت في بلد فرمتنا. وفي ضحوة السبت وصلت بلد شلي كي، واسترحت فيه قليلاً. ثم جزت وفي وقت الظهر وصلت تمسكر. وفي ليلة الأحد بت في تيم تام، هو بلد ورن كي. وفي ضحوة الأحد وصلت بينا، وبت فيه الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس لانتظار القارب الذي يتوجه إلى مدينة جني، لأن ذلك وقت امتلاء البحر. وفي ليلة الجمعة الرابعة عشر من الشهر المذكور خرجت من بينا إلى جني في القارب. وفي ظهرها دخلت جني بحمد الله وحسن عونه، وأدركت جميع أهلي بخير وعافية، والحمد لله رب العالمين.

    وفي يوم السبت الخامس عشر منه التقى فندنك حمد فاطمة وجيش حمد أمنة للقتال. فقتوا ثلاثة من إخوة فاطمة وكثيراً من أتباعه. ومات فيهم الفقيه سي بن أبي بكر، وهو ابن عم الفقيه القاضي إد، رحمه الله عليهما. وهرب حمد فاطمة المذكور، فلحقوه وقتلوه. فرجع حمد أمنة في سلطنته بلا منازع له في ذلك ولبث المقتول في السلطنة شهرين.

    وفي ليلة الأحد الحادي والعشرين من شعبان خرجت من جني راجعاً إلى كَل بالبر أيضاً. وفي عشية هذا الأحد وصلت بينا واسأخرت فيه سبع ليالي لقضاء بعض الحاجة. وفي بكرة الأحد الثامن والعشرين منه خرجت من بينا، وفي وقت القائلة وصلت بلد كني عند كل شاع عبد الرحمن، وبت عنده ليلة الاثنين. وفي صبيحته خرجت منه وجزت على بلد وانتا وقت الضحى، ثم بلد تمتام، وهو فصل بين أرض سلطان ورن وسلطان شيلي، وهو مشترك بينهما قبل في الملك، ثم تغلب عليه سلطان شيلي فانفرد بملكه. وفي تلك الناحية ثلاثة بلد اسماؤهم متقاربة تبم تام وتمتام وتاتام. وفي آخر وقت الضحى وصلت بلد كمتنا، وعند الزوال وصلت بلد يوسررا، وفي وقت العصر وصلت بلد بينا، وفي العشية وصلت بلد سلطان شيلي، وبت الثلاثاء، فاستهل فيها شهر رمضان. وفي ضحوة الغد خرجت من بلده ووصلت بلد تنك وقت القائلة، وهو فصل بين أرض شيلي كي وكمي كي من جهة المغرب، وبت فيه ليلة الأربعاء. وفي صبيحتها خرجت منه، وفي وقت الضحى جزنا على تاتن، وهو بلد سلطان كمي كي، ثم بلد تاترم، وعند القائلة وصلت بلد فوتن، وأدركنا السوق فيه قائماً، وبعد صلاة العصر خرجت منه وعند أصيل الشمس جزنا على بلد توتا الله، وغربت علينا الشمس في قرية بقربه، فبتنا فيه. وفي وقت الضحى يوم الخميس وصلت بلد فال، ونزلت فيه قليلاً حتى سلمنا على فرن، وجزنا ساعتئذ وبدلنا الطريق وحيّدنا عن طريق زول لسده بماء البحر إلى ذات الشمال، ووصلت بلد تمي بعد العصر، وبت فيه ليلة الجمعة. وخرجت منه صبيحتها، وفي وقت الضحى جزت على بلد فادك، ثم على بلد نوي، ثم على بلد مسلا، وفي وقت الظهر وصلت بلد قم، وصليت في الظهر والعصر، وعند أصيل الشمس وصلت بلد فدك، وبت فيه ليلة السبت عند صاحبنا فدك كي محمد. وخرجت منه صبيحته ووصلت فيه المرسى بلد كمن ضحوة، واستأخرت فيه قليلاً. ثم قطعت البحر إلى شبل ووصلت عشية السبت الخامس من رمضان بعافية، فوجدت أهلي وعيالي بعافية، والحمد لله رب العالمين. ثم استهل على شوال فيه ليلة الخميس. وفي يوم الأربعاء الرابع عشر منه مشيت إلى بلد شنشند في بعض الحاجة، وهو على شاطئ البحر لسنكي، فوصلته آخر ضحوة، فاستأخرت فيه قليلاً. ثم رجعت وجزت على بلد مدينة، وهو على شاطئ البحر، له أيضاً قريب منه جداً، وفي عشية رحت إلى شبل. وفي يوم الخميس الثاني عشر من ذي الحجة الحرام المكمل للعام الرابع والخميس والألف عند الزوال زاد لنا ابن من زوجتي حليمة بنت الفقيه أبي بكر سعنتر، سميته محمد الطيب، جعله الله ميموناً مباركاً.

    ثم إن كفار بنبر قاموا على سن كي وقدك كي وخالفوا عليهما حتى عزموا على قتالهما، ثم إن الله تعالى أطفأ نار تلك الفتنة بقوته وقدرته، بل سكنت وما طفئت بالكلية. فعزمت على الرجوع إلى مدينة جني بعيالي، وفي يوم الاثنين الثالث والعشرين منه بعد صلاة الظهر خرجت من شبل بفضل الله تعالى وحسن عونه، وبعد الغروب قطعنا بحر بلد كمن، واسأخرت فيه أربعة أيام، أصلح من شأني للسفر. فخرجت منه متوجهاً إلى جني بالبر. وفي ليلة الثلاثاء استهل علينا شهر المحرم الحرام الفاتح للعام الخامس والخمسين بعد اللألف في بلد توتا الله. وبعد صلاة الظهر في غدها يوما الثلاثاء توفيت ابنتي زينب في بلد فوتن، وأقبرتها فيه ساعتئذ، رحمة الله عليها وجمع شملنا وشملها في القيامة والفردوس الأعلى بلا حساب ولا عقاب بمنه وكرمه.

    وفي ليلة الأحد السادس منه وصلنا بلد بينا بسلامة وعافية والحمد لله رب العالمين. وفي صبيحة الثلاثاء الثاني والعشرين منه خرجت إلى جني بالبر لطلب القارب لحمل العيالـ فوصلته وقت الظهر. وفي صبيحة الثلاثاء آخر يوم منه خرجت من جني راجعاً إلى بينا بالبر أيضاً. فوصلته وقت الظهر كذلك، واستهل علينا صفر الخير بالأربعاء. وفي نهار السبت الرابع منه توفي أخونا محمد بن الشيخ المختار تمت الونكري. وفي ليلة الخميس التاسع منه خرجت إلى جني بالبحر مع العيال، فدخلنا فيه ليلة الجمعة العاشر منه، والحمد للله رب العالمين.

    وكنت في بينا قبل المضي إلى جني، جاءنا الخبر أن أولئك الكفار جاءوا إلى شبل فهرب أهلها جميعاً، سن كي وغيره، فخربوه حجراً حجراً غير المسجد والدار التي سكنت فيها، والحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين. ثم بعد ذلك فعلوا مثله لفدك كي وأكبر.

    وبعد ما رجع الباشا محمد بن محمد عثمان من غزوة ماسنة إلى تنبكت، وأهل جني إلى جني، عزل القائد عبد الله بن الباشا أحمد بن يوسف من قيادتهم، ومكث فيها سنتين وأياماً يسيراً. وأمرهم بمجيء الكاهية محمد بن إبراهيم شمر إليهم، وذلك في يوم الثلاثاء غرة المحرم المذكور بلغهم ذلك الأمر. فتوجه إليه الكاهية محمد المذكور، فولاه تلك القيادة. فرجع ووصل مدينة جني يوم اللاثنين ثمانية عشر يوماً من الربيع النبوي سابع الولادة.

    ثم إن حمد أمنة فندنك ماسنة كتب لأهل جني، ودخل في حرمتهم إن يصلحوا بينه وبين الباشا محمد بن عثمان. فكتبوا له بذلك. وكتب لهم أنه أجاز تلك الحرمة وقبلها بشرط أن يأتي إليه قاضيه ووالدته وأخوه، وبعثوه إليه بإعلام ذلك صحبة مرسولهم. وفي عشية الأحد الثامن من جمادي الأولى رجع المرسول من عنده، وأخبر أن القاضي أت وأما والدته وأخوه فلا يمكن لهما الإتيان.

    وفي يوم الأحد الثاني والعشرين منه جاء القاضي، فاجتمع هو وقاضي جني في دار القائد مع الكواهي فيما يكتبون للباشا مما وقع عليه الصلح. وفي يوم الاثنين السابع من جمادي الآخرة خرج قاضي ماسنة من جني إلى تنبكت مع شاهدي قاضي جني. فقبلهم الباشا وقبل الصلح وأجازه. فرجع وفي يوم الخميس الحادي والعشرين يوماً من شعبان وصل جني، وفي يوم الخميس الثامن والعشرين منه رجع إلى ماسنة واحد من أهل المخزن فتم الصلح.

    وفي ليلة الثلاثاء آخر ليلة شوال توفي الشريف يوسف بن علي بن المزوار في جني، رحمه الله تعالى ونفعنا به في الدارني أمين.

    وفي ليلة الأحد العشرة من ذي الحجة الحرام المكمل للعام الخامس والخمسين والألف توفي أخونا محمد الأمين كعت في بلد بينا، وصلي عليه ضحوة في المصلى رحمه الله وغفر له.

    وفي ليلة السبت الثامن من المحرم الحرام الفاتح للعام السادس والخمسين والألف توفي أخونا الإمام بن الحاج سنبير الدرجي في بلد بينا، فغسلته، وصلي عليه ضحوة، رحمه الله وعفى عنه بمنه.

    وفي يوم الاثنين السادس من الربيع النبوي توفي أخونا ومحبنا سيد الحسن بن علي الكاتب، ودفن في مقارب الجامع الكبير.

    وفي يومئذ بعث الباشا محمد بن محمد بن عثمان مرسول إلى جني عند القائد محمد بن شمر والكاهية محمد روح والكاهية عبد الله الحرار والكاهية محمود بن أحمد والكاهية أحمد بن بلقاسم الماسي والكاهية أحمد بن دهمان الحاحي، وأمرهم بمجيء إليه في تنبكت. وأنا في بينا يومئذ، فوصل المرسول إليهم يوم السبت سابع الولادة. فكتبوا إلي في ذلك يوم الأحد، ووصلني المرسول والكتاب وقت العصر. فخرجت من بينا في غده يوم الاثنين، وبتنا في الطريق ليلتين لأجل يبس الماء، فوصلت جني ضحوة الأرعاء. ودفعنا في المرسى أنا ومرسول الباشا عند صلاة الظهر من يوم الخميس الثالث والعشرين من الشهر، واستهل علينا شهر الربيع الثاني في بلد وك ليلة الخميس، ووصلنا مرسى كرنزفي نهار الأحد. فصرف لي الحصان وطلعت مدينة تنبكت ليلة الاثنين الخامسة منه، والتقيت معه تلك الليلة. فرحب بي وأكرمني، ورتبني كاتباً، نسأل الله تعالى العفو والعافية والسلامة والمعونة في الدين والدنيا والآخرة، وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

    وفي يوم السبت السادس من رجب رد أسكيا داوود ابن محمد سرك أجي في مقامه على قومه في بلده. خرج من تنبكت مع مراسيل الراتب إلى كاغ يوم الأربعاء العاشر منه. وكتب لهم أن تسير معه محلة من عندهم إلى داره. فساروا معه كما أمر.

    وقد أخذ إخوانه في تدبير عزله بكثير من الرماة، وابتدأوا ذلك من حين كانوا في غزوة ماسنة، ولم يزالوا يسعون فيها إلى ليلة الخميس الثامن والعشرين من رمضان، قاموا عليه إلى ضحوة السبت يوم العيد أحد شهور العام المذكور. خلعوه وولوا الباشا أحمد بن الباشا علي بن عبد الله التلمساني. فصلي هذا العيد وهو صاحب الأمر بعد ما مكث الباشا محمد بن عثمان في الولاية ثلاثة أعوام وثمانية أشهر وخلف كثيراً من المال، بيعت تركته في المشوار، فاشتراها الرماة. ثم أجلي من تنبكت إلى بر. ثم رحل منها إلى بلد شيب حيث كانت القصبة خوفاً عليه من أهل ماسنة لئلا يقتلوه غيلة. ثم رجع إلى تنبكت لرسم الحساب في ولاية الباشا أحمد بن حد، حيث طالب المعزول الباشا يحيى بالحساب، فقال أهل سريته إذا طالبه بالحساب ولا بد فليحضر الباشا محمد للحساب. فضحر وحوسب فخرج سالماً، ولم يتبعوه بشيء. فبقي في تنبكت إلى أن توفي فيه عشية الجمعة غرة الربيع النبوي عام الثالث والستين والألف.

    وأما الباشا أحمد فكان ذا جود وسخاء وحلم وحياء طيب الأصل ابن أبيه في الفضل صحيح القول مليح الفعل، ولم يمكث في ذلك المقام إلا ثلاثة أشهر وثمانية أيام. وفي أيامه وقع البحر في معدك ليلة السبت سابع ذي القعدة لأربع خلون من دجنبر بعد ما تأخر في زبير بنك سبعة أيام.

    وفي يوم السبت عند الزوال خامس من ذي الحجة الحرام المكمل للعام السادس والخمسين والألف توفي سيد الوقت وبركته الشيخ المحب سيدي الشريف محمد بن الشريف الحاج الحسني، وصلي عليه بعد صلاة الظهر في الجامع الكبير، ودفن في مقابرها، رحمه الله تعالى ونفعنا في الدارين ببركته.

    وفي أواخرها توفي الشيخ عبد الرحمن أكنذر بن أوسنب التاركي سلطان مغشرن في حلته في رأس الماء. فخلفه سبطه أبو بكر بن ورمشت.

    وفي ليلة الخميس بين المغرب والعشاء التاسعة من المحرم الحرام فاتح عام السابع والخمسين والألف توفي الباشا أحمد، وصلي عليه ضحوة الخميس عند مسجد محمد نض، ودفن فيها، رحمه الله تعالى وعفى عنه بمنه.

    وبعد الرجوع من دفنه اتفق الجيش ساعتئذ، فولوا الباشا حميد بن عبد الرحمن الحيوني. كان نحيس السعد بخيس الجد، ليس بأهل للولاية، ولا له فيها أصل ولا فصل، وفوض الأمر للوزراء، وبقي لا له قول ولا فعل. فدخل بذلك في سلطنتهم فساد كبير، وهو يزداد كل يوم، لأن جميع من ولي بعده بذلك السير يسير، إنا لله وإنا إليه راجعون.

    ولما رأى أن ماءه لا تغني من غلة، ودلوه لا ترجع ببلة، رمى نفسه بطائفة قليلة من الجيش في المفاوز في وقت ترمي الهوى فيها بشرر من النار. فخاطر به وبهم غرراً، حتى ظن الناس أنه لا يريد إلا هلاكاً وتبواً.

    فخرج من تنبكت بعد صلاة الظهر من يوم السبت الرابع من جمادي الأولى في ذلك العام المذكور قاصداً جهة كرم، وقطع البحر يوم الاثنين بقرب بلد بو، وفي يوم الأربعاء الثامن من الشهر المذكور تحملنا هنالك بلا مراكب من الدواب سوى شيء من أوداش قبضه من أهل العمودي الذين كانوا في تلك الجهة. ورفد الناس عليهم شيئاً قليلاً من الماء والأزواد.

    فتوجهنا جهة الحجر رافدين الليل والنهار، حتى نهار الخميس السادس عشر منه وصلنا جبل ناي عند وقت الظهر. فعدز الناس وتخلف كثير من الخيل في الطريق، ورفد أربابهم على رؤوسهم سروجهم، ومن لم يقدر عليه تركه. ونزلنا على الماء الذي كان وراء جبل سوق. فبعث الطليعة ساعتئذ للتجسس على من كان في تلك الجهات لكي يغير عليهم. فأتي بالخبر عنهم، فقطع السرية ونهضوا إليهم ليلة الجمعة، وبتنا على ذلك الماء. وفي صبيحة الجمعة ارتحلنا للميعاد بيننا وبين السرية، أسكيا الحاج والقائد عبد الصادق هم الذين عليهم.

    ومضوا وراء جبل سوق ودخلنا في داخلها. وليس معنا ماء، والماء الذي نعت لنا القيناه قد يبس، وما هنالك غيره. وبقينا لا نخاف إلا الهلاك من العطش. ودخل الرماة يغتابونه، ويسمع. وهم في حال السير على باب الله تعالى إذا نحن بالشياة في وقت القائلة، والناس الذين يسوقونهم هربوا ودخلوا في الغابة، ولا يقدر أحد أن يدخلها لأجل تكثفها مع حمية الشمس ساعتئذ.

    فساعهم الخدام معنا إلى وقت الظهر في حال اليأس والقنوط إذا نحن بضاية من ماء السحاب من رحمة الله تعالى ولطفه. فنزلنا عليه وصارت أرواحنا كأنها ردت بعد ما أخرجت لأجل فرج بعد شدة. وبعد ما ارتاح الناس قليلاً ركّب نحو عشرين رجلاً ليطالعوا على الأرض، فوافقوا بأهل البقر الذين يسيرون بين الجبال، فتقاتلوا معهم، وصابوا منهم قليلاً من البقر، وقتلوا واحداً من خيار الرماة، وقتلوا حصانه.

    وبتنا على الماء ونحن في وجد عظيم من خبر تلك السرية إلى بعد طلوع الفجر. وأنا في حال السجود من صلاة الصبح سمعت حس طبلهم من جهة القبلة، فأخبرته به. ثم ارتحلنا بعد طلوع الشمس، فمن قليل التقينا مع مراسيل أصحابها الذين أتوا بخبر سلامتهم وهروب الفلانيين منهم بأموالهم، وما صابوا منهم شيئاً. ثم التقينا بأنفسهم وفي آخر وقت الضحى. نزلنا في مقابلة بعض قرية المشركين أهل الجبل في أحراثهم.

    وبتنا هنالك ليلة الأحد. وفي غد ارتحلنا والتقينا مع أخ دعنكاكي فاري، يريد إلى صاحب الأمر يطلب الأمانة في الحضور لديه. فأعطاه إياها. فرجع إليه بالخبر بعد ما نزلنا على ماء بنك ذيب في مقابلة جبل لنب.

    وبتنا هنالك ليلة الاثنين. وفي العشية جاء دعنكاكي المذكور. فسلم ودعا، فرفع التراب على رأسه، وأخذ العهد في الأمان لنفسه ولصاحبه هنبركي الهادي ابن هنبركي موسى كروا في أنفسهما وأهلهما وبلدهما. فسأله عن هنبركي المذكور. فقال عن قريب يجيء. فأكرمه صاحب الأمر غاية الإكرام.

    وبتنا هنالك ليلة الثلاثاء، وفي غد ارتحلنا راجعين إلى ورائنا في طلب المحارب حمد بلل. ونزلنا في مقابلة بعد قرية المشركين وقت الظهر في مقابلة جبل مكة لجهة اليمين من جبل ناي. وفي عشيته جاءنا هنبركي المذكور. وبنتا هنالك ليلة الأربعاء. وقد بعث الجسوس في أمر حمد بلل المذكور. وفي غد ارتحلنا، فعن قليل تلقينا مع الجسوس. فأخبرنا بمكانه وأنه بقرب منا، ومعنا دعنكاكي المذكور. فجددنا في السير بعد ما تأهبنا للقاء الحرب، فجزنا على بلد أحمد سانوا في وقت الضحى، وهو في حال الهروب. فلما قاربناه دخل في غار جبل دان، وهو قد بلغ غاية القصوى في الاعتلال [الاعتلاء] والرفعة حتى إن الإنسان إذا طلع فوقها لا تحسبه إلا طيراً صغيراً.

    فنزلنا في فمهم عند الزوال، وبتنا هنالك ليلة الخميس. وفي غد ضحوة بعث السرية في إثره. فولجوا في تلك الغار، وباتوا في إثره ليلة الجمعة وليلة السبت. وفي غد بعد الظهر رجعوا إلينا، وما صابوا منه نيلاً. وفي صبيحة الأحد ارتحلنا راجعين. وفي يوم الثلاثاء بعد الزوال الثامن والعشرين من جمادي الأولى نزلنا عند جبل دعنكا.

    وفي هذا اليوم كشفت الشمس في تنبكت. فحدثني بعض الطلبة أنه لما رأى عدم اجتماع الناس لصلاة الكسوف رفع الأمر إلى القاضي محمد بن محمد كري رحمه الله، فأجابه أنها لا تمكن والحال ما فيه سعة. وحدثني بعض الإخوان أيضاً أنه ظهر في تنبكت في ليلة واحدة من ليالي هذه الأيام بين المغرب والعشاء مثل دخان عظيم كثيف، قد عم ديار البلد كلها. وتشوش الناس منه ولم يدروا من أين حدث. وأخذوا في التفتيش والبحث عنه، حتى أتموا المنازل كلها ظناً منهم أن لا يكون حريقاً فيها، فما كان أصلاً.

    الحاصل بعد ما نزلنا ساعتئذ بعث صاحب الأمر سرية، فغاروا على بعض الفلانيين، فغنموا قليلاً من البقر ورجعوا إلينا ليلة الأربعاء. وفي غد ارتحلنا متوجهين جبل هنبر. فضل يومئذ بعير بجميع ماعون المطبخ، ولم يدر أحد أين دخل ولا في أي طريق سلك. فنزلنا على الماء وقت الضحى عند قرية تسمى كيرتاو، وبتنا هنالك ليلة الخميس، واستهل بها شهر جمادة الأخرى. وفي غد ارتحلنا، وفي آخر وقت الضحى نزلنا على ماء كرم، وبتنا عليها ليلة الجمعة. وفي غد ارتحلنا متوجهين هنبر.

    والتقينا بالبريدين في الطريق بخبر هروب هنبركي خوفاً من سطوة صاحب الأمر على زعمه. فوصلنا آخر وقت الضحى من يوم الجمعة الثاني من شهر جمادي الأخرة، فنزلنا هنالك. وفي غده بعث لصاحب الأمر في طلب الأمان، فأعطاه ذلك. وأتى وحضر. وقطع عليه المال في الزرع الخدام وشعوق التواري ما قطع.

    فشرع في دفعها. ثم خاف أيضاً وهرب. والموافقة ما كانت بينه وبين أهل بلده، واجتمعوا على كراهته، وطلبوا من صاحب الأمر أن يعزله ويولي عليهم أخاه يوسف بن هنبركي موسى كرو. فولاه عليهم. وأعطى جميع ما قطع على المعزول والزيادة. ثم بعث السرية هنالك على بعض الفلانيين فغاروا عليهم وغنموا ببقرات.

    فأخذنا هنالك عشرة أيام. وفي عشية الخميس الخامس عشر من الشهر ارتحلنا متوجهين إلى تنبكت. وقد باع الرماة لأهل هنبر فنانيشهم وحميرهم وخواتيمهم وتهاليهم وصدرياتهم وغير ذلك بأدنى شيء من الزرع لأجل ما نالهم في ذلك الطريق من فاقة الجوع.

    وفي يوم الثلاثاء عشرين يوماً من الشهر المذكور وصلنا البحر على بلد أشر، ونزلنا في مقابلة بلد كوي. وقد بقي كثير من الخيل في الطريق لعجز، وما وصل أربابهم البحر إلا على أرجلهم. ورمى الناس بعض أمتعتهم وآثاثهم. والمنزل الذي نزلنا فيه يومئذ يقال لها كنك كري. وفي يوم الاثنين السادس والعشرين منه ارتحلنا، ودخلنا مع صاحب الأمر في القارب، ومضى أصاب الخيل بساحل البحر. وبتنا ليلة الثلاثاء عند المقطع بقرب بلد يب. وفي غد قطعنا وبتنا ليلة الأربعاء وراء البحر من جهة حوص.

    وفي ليلة الخميس ارتحلنا منه ووصلنا مرسى كرنزفي ضحوة الخميس آخر يوم من الشهر، واستهل شهر رجب بليلة الجمعة. ويوم الجمعة غرة هذا الشهر ورد علينا في المرسى مراسيل أهل مدينة كاغ يستخبرون عن عافيتنا وسلامتنا في ذلك السفر. وأمرنا أن أكتب لهم الجواب في ذلك. فالله تعالى يسامحني ما أودعته فيها من الأقوال المزخرفة ونصه:

    الحمد لله، وصلى الله على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً، الأبرار المكرمين، الأخيار المعظمين، الأنجاد المرعيين، الأسناد المرضيين.

    القائد منصور بن مبارك الدرعي وكافة من معه من القياد والكواهي والمقدمين والبشوظات وضباشيات وسائر الولضاش، رعاكم الله وأنجدكم وأعانكم وسددكم وأصلح بمنه كافة أحوالكم، وبلغكم من جميع الخيرات والمسرات بمناكم وآمالكم. سلام تام عميم عليكم ورحمة الله وبركاته عن الخير والعافية ونعم الله المتوافية.

    كتبناه إليكم-لله الحمد وله الشكر-وعن ما تشوقتهم إليه من معرفة أحوالنا وأخبارنا، حسبما هو مسطور في كتابكم الكريم الذي ورد علينا صحبة مراسيلكم في مرسى كرنزفي. فأدركنا في كل ما تحبون لنا وتمنون من العافية الباسطة الوافرة والنعم السابقة الفاخرة من المولى الكريم ذي الفضل العظيم.

    وذلك لما عزمنا على الحركة إلى ناحية الظلمة المفسدين أعداء الله ورسوله، قبيلة سفنتير الذين أفسدوا طاعتنا في كيس بجهة كرم وخسروها. خرجنا بالمحلة السعيدة إلى ساحل البحر في السفن. وسبب خروجنا بأنفسنا في ذلك شيئان:

    أحدهما الإطلاع على أمكنتهم ومساكنهم في غايتها ونهايتها، في البعد والمسافة، بركائبنا وأرجلنا وحوافر خيلنا دفعاً لما قد عسى أن يتوهمه الغي الأحمق أن طول رقدتنا لتعديتهم ومفسدتهم التي شملت طاعتنا وبلادنا منهم ومن غيرهم من القطاعين والمحاربين كان من ضعفنا وعجزنا. كلا ليس الأمر كما يزعم الزاعم ويتوهم الغي الظالم، بل من صبر السلطنة وتأنّيها، حتى تبطش البطاشة الواحدة، فتمحو كل شيء أنت عليه في لحظة واحدة.

    الثاني من الشيئين ضيق الحال وخلو الدار من المال-لا أخلاها الله تعالى من الخيرات والبركات-ولكن للدنيا طلوع ونزول، وتغيرات وحول، والأرزاق تغور وتفور، وترقد وتنور. وهذان الشيئان أخرجاني فيها.

    فلما انتهينا إلى موضع الطلوع إلى العوالي، وانتقلنا من بطون السفن بحفظ الله الكبير المتعالي، وحملنا على ظهور الدواب بعون الله القدير الوهاب، شرعنا في إتباع إثر الأبعد الخاسر الظامل الفاجر رأس شياطين الإنس حمد بلل. نقطع أكمة وآجاماً، ونشد عزمة وأحزاماً، ويلفظنا أرض إلى أرض، ويجذبنا رفع من خفض، حتى وصل بنا السير إلى سفح الجبل بعناية من بيده القوة والحيل. وسلكنا منها مسلكاً ما سلكه أحد قبلنا، لا من الأسلاف ولا من الأخلاق. فصرفنا لأربابها من مشارقها إلى مغاربنا، من صاحب هنرب ودعنكا وفيلي.

    فأجابوا دعوتنا وأتابوا [أتوا] لسطوتنا، حتى اتصلت الإجابة لصاحب كرو وغيره. فنزلوا إلينا، وحضروا لدينا مذعنين راغبين مذللين راهبين. فتجددوا لمولانا نصره الله تعالى البيع والطاعة، وقالوا: كل ما أردتم منا من الخدمة فالساعة الساعة. وتبرؤوا من جميع أعدائنا، وقلعوا من رقابهم كل عروة إلا عرى طاعتنا. فطلبوا منا الأمان على مهجتهم وبلادهم. فأعطيناهم ذلك بالعهد والميثاق.

    فنهضوا معنا إلى لحاق ذلك الأبعد الخاسر. وأخذنا في إثره حتى قاربناه. فلما تيقن بالهلاك رمى نفسه في غارة ضيقة، أضيق من سم الخياط، وعن المسلك صعب الارتقاء، منفرداً وحيداً، تفرق عنه أصحابه وأتباعه، وتشتت عنه أهله وأشياعه.

    فولج عليه في ذلك الغار الأسُود والنسور، جيشنا المويّد المنصور، حفاة مشاة، لما توقد فيهم حينئذ من غضب النجدة والجرأة، فاغرين أشداقهم، رافعين أعناقهم، مبدئين أنيابهم ومخاليبهم، حتى انتهوا به منتهى الغار. فرمى نفسه إلى ورائها في أيدي المشركين. فلما رأى أنه ضاقت عليه نفسه، وضاق عليه الأرض بما رحبت، بعث المرسول إلى صاحب دعنكا في طلب العفو منا، وأنه تائب لله ولرسوله وللسلطنة. فعفونا عنه وأعطيناه الأمان على روحه فقط.

    ثم بعث لنا قومه أنهم سلموا فيه، وأنهم متبرئون منه، طالبين الأمان على أنفسهم، بعد ما أغرنا على بعضهم وغنمنا منهم بحمد الله تعالى وفضله. فأعطيناهم الأمان، وقطعنا عليهم المال، ورجعنا سالمنين غانمين منصورين بفضل الله تعالى وكرمه، ثم ببركة مولانا سلالة الهاشمين، نصره الله تعالى.

    وقد سمعنا خبر هؤلاء التوارق المدن الذين نزلوا عليكم، وخبر ما جرى بينهم وبين صاحب اكنزر. فإن رأيتم فيهم الغرة فلا تتركوهم، بل اقتلوهم قتل عاد وهمود، لأنهم غدارون خائنون، ما فيهم أمان بكل وجه. إن كنتم تقدرون ذلك بأنفسكم فعلى بركة الله تعالى، وإلا فاكتبوا للقائد محمد بن عيسى الكوش ببنب أن يمدكم بكل من كان معه من الرماة والعرب. لا تفشوا سركم حتى يمكنكم الله فيهم، لئلا يأخذوا حذرهم منكم، لأن الحرب خدعة.

    بارك الله فيكم، وكان لنا ولكم ولياً ونصيراً.

    وبه كتب يوم السبت ثاني رجب الفرد عام السابع والخمسين والألف في مرسى كرمزفي خديم المقام العالي المحمدي-نصره الله-صاحب السعادة الباشا أحمد بن عبد الرحمن الحيوني، لطف الله به بمنه وكرمه انتهت الرسالة.

    وبقي في ذلك الوهن والضعف إلى نهار الجمعة السادس من شوال عام الثامن والخمسين والألف عزل. ومكث في الولاية سنة واحدة وتسعة أشهر.

    فتولى ساعتئذ الباشا يحيى بن محمد الغرناطي باتفاق الجيش فكان. فاحشاً متقحشاً مسلطاً مبغضاً للخلق متكلماً في العلماء الشرفاء أهل البيت، وفي أولي الفضل كلهم بالسوء، نماماً خلاطاً، ويغري بين الناس بالشر. ومكث في الولاية ثلاث سنين وأياماً يسيراً، فكان كالثلاثين سنة طولاً من الثقل والسئامة. فتحبر مرتين: مرة إلى كاغ ومرة إلى بنب. وكل ذلك يحول الله سبحانه بينه وبين ما يريد في الناس من الشر والتوجه له.

    خرج من تنبكت لحركة كاغ يوم الاثنين السادس من جمادي الآخرة عام ستين وألف إلى جزيرة زنتا، بعد ما قتل الشيخ إبراهيم بن الرعوان الشبلي في ثالث عيد النحر مكمل عام التاسع والخمسين والألف. ومنه نفر عنه قلوب جميع العرب والتوارق لا من عدو المقتول ولا من صديقه. فمكث في تلك الجزيرة خمسة أيام. وفي يوم الجمعة العاشر من الشهر ارتحلنا منها ووصلنا بنب يوم الجمعة السابع عشر منه في ثمان مرحلات، وبتنا فيه ليلة واحدة. وارتحلنا منه صبيحة السبت الثامن عشر منه إلى كاغ. وفي ضحوة الاثنين العشرين منه جزنا على بلد كابنك وعلى بلد توصا. وفي يوم الأربعاء الثاني والعشرين منه نزلنا على بلد برم، والتقينا مع أهل كاغ ضحوة الخميس عند شجرة البرج. وفي يوم الجمعة نزلنا تندب، وأقمنا فيها ثلاث ليالي من وراء البحر. وفي يوم الاثنين ارتحلنا منه وبتنا دون مدينة كاغ، ووصلناها ضحوة الثلاثاء السابع والعشرين من الشهر المذكور في تسع مراحل. وفعل فيها ما فعل، واستهل علينا فيه شهر رجب ليلة الجمعة.

    وارتحلنا منه راجعين يوم الاثنين الخامس والعشرين منه، واستهل علينا شهر شعبان ليلة السبت في بلد توصا عند جبل دار. ووصلنا بنب نهار الأربعاء الخامس منه، وأقمنا فيه سبعة أيام، وفعل فيه ما فعل. وارتحلنا منه يوم الأربعاء الثاني عشر، ووصلنا مرسى دعى يوم الأحد السادس عشر منه، وأقمنا فيها أربعة أيام. ودخلنا مدينة تنبكت يوم الخميس عشرين يوماً منه، واستهل علينا الشهر المعظم المبارك رمضان ليلة الاثنين لكمال شهر شعبان، والحمد لله رب العالمين.

    ثم خرج من تنبكت لحركة بنب ضحوة السبت الثالث والعشرين يوماً من جمادي الأولى عام أحد وستين والأف. ونزلا في ذلك اليوم في جزيرة زنتا أيضاً، وتأخرنا فيها عشرين يوماً انتظاراً لبعض حوائج الجيش. وارتحلنا منها يوم الخميس اثني عشر يوماً من جمادي الآخرة، وقد استهل بالأحد. وتوجهنا بلد بنب لمداركة ما أفسد فيها المخالفون من البرابيش والتوارق.

    فكتب للجيش الذين كانوا بمدينة كاغ أن يلتقوه بزمكي، وهو موضع معروف ببنب من جهة المشرق، فأجابوا وأنعموا، وقائدهم يومئذ رابح بن عيسى الكوش. فوصلناها في سبع مراحيل، ونزلنا فيها ضحوة الأربعاء الثامن عشر من الشهر المذكور. ففر منه البرابيش والتوارق وتفرقوا شذر مذر. فبعث لهم بالأمان مراراً متكررة، فلم يجيبوا، حتى بعث لهم القائد علال بن سعيد الحروسي، وهو والي البلد يومئذ، فامتنعوا. وبعض جيشه هم الذين يبعثون لهم أن لا يجيبوا دعوته، لأنه غدار، وقد كان حزن على قتل إبراهيم الرعواني ما زال في قلوبهم ولا يزال.

    ثم إن قائد كاغ جاء في طائفة من الجند، وقد خرجوا جميعاً من المدينة، ثم اختلفوا. فرجع الجل وما رضوا بالمجيء بالمخالفة البينة، حتى كادوا يقتتلون. وزعموا أن القائد رابح وأخاه القائد محمد الكوش ومن كان معهما على نية واحدة، هم الذين مكنوه في الوصول إلى كاغ ويريدون الآن أن يسوقوهم إليه في هذه الصاعة ليفعلوا فيه ما شاء الله. الحاصل تأخروا معه في بنب، وما وجد طريقاً إلى مراده بشيء من الأشياء. وبقوا معه إلى يوم رحيله إلى تنبكت، وهو يوم الاثنين السابع من رجب الفرد. فوادعهم وقرأ لهم الفاتحة، فرجعوا إلى بلدهم. فعزلوا القائد المذكور مع الكاهية الذي جاء معه، وهو من أهل اليمين، وما زال بعضهم في قليبهم إلى الآن.

    وقد مرضت أنا في بنب مرضاً مخوفاً. ثم إن الله تعالى بفضله وكرمه عافاني وشفاني. عظم الله به الكفارة بجاه نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم.

    فتوجهنا لتنبكت ووصلنا مرسى كرنزفي يوم الجمعة الثامن عشر من الشهر المذكور، وبتنا فيها ليلة السبت. وفي غده استأذنته في الوصول لداري لأجل ذلك المرض. فأذن لي، وركبت بعد صلاة العصر. وبت ليلة الأحد في قرية أمظغ لعدم الطاقة على الوصول في تلك الحالة. وفي صبيحة وصلت البلد، ودخلت داري وأدركت عيالي كما أحب، فلله الحمد وله الشكر.

    وتأخر هو في المرسى إلى يوم الخميس الرابع والعشرين من الشهر المذكور. فطلع البلد في بئس الحال، حتى ما طاف البلد في الركوب على العادة القديمة السالفة من أجل الغم والكرب.

    وكيفما تولى بدأ بالشر لأهل جني بلا سبب ولا موجب. فخالفوا عليه ونبذوا أمره وراء ظهورهم حتى انعزل. ورام الوصول اليهم للانتقام منهم، فما يسر الله تعالى له السبيل إلى ذلك.

    ثم عزل القائد محمد شرم من قيادتها، فأمر بمجيئه إليه. فجاء وحاسبه في إخراج ذلك الأرض، فعزل منها، وسجنه في بلاد بر حتى عمي هنالك. ومكث في اللولانة سنتين ونصفاً والله أعلم. وفي أوائل رمضان في العام التاسع والخمسين والألف ولاها عبد الكريم بن العبيد الدرعي قائداً. وفي أيامه توفي الشيخ إبراهيم بن الرعوان الشبلي كما مر، وكذلك القائد علي بن رحمون المنبهي.

    وفي يوم الاثنين آخر يوم من شوال عام أحد وستين وألف عزل الباشا يحيى بن محمد الغرناطي، ومكث في الولاية ثلاث سنين وأربعة وعشرين يوماً. فتولى الباشا أحمد بن الباشا حد بن يوسف الأجناسي في ضحوة الثلاثاء غرة ذي القعدة الحرام في العام المذكور باتفاق الجيش. فكان رفيقاً بالناس معظماً للعلماء والصالحين وأهل الفضل كلهم، ولكن ليس له معالي الهمة. وأخرج الجيش بيت المال من يده وجعلوه في يد الحاكم ناصر ابن عبد الله الأعمش، ليكون قائداً أميناً في فور ولاية الباشا أحمد المذكور في المشور السعيد، فتكفل لهم القيام بحقوقهم. وعزلوا القائد بلقاسم التملي من المتلمين [التأمين] الناقض الذي هو فيه.

    ومن مات في أيامه من الأعيان القائد محمد العرب بن محمد بن عبد القادر الشرقي الراشدي، توفي في أواسط الصفر في العام الثاني والستين والألف.

    وفي السابع وعشرين منه توفي أخونا ومحبنا الأمين القائد بلقاسم المذكور، رحمه الله تعالى وغفر له بمنه.

    وفي ظهر الأربعاء الثاني من الربيع الثاني عام الثاني والستين والألف توفي القاضي محمد بن محمد بن محمد كري، رحمه الله وعفى عنه بمنه. فتولى القضاء، وعمره خمسون سنة. ولبث فيها سبعة عشر سنة.

    وفي ضحوة الخميس العاشر منه في العام المذكور قلد القضاء الفقيه أبا زيد عبد الرحمن بن الفقيه أحمد معيا في المشور السعيد، سدده الله تعالى ووفقه، وعمره يومئذ ثلاثة وسبعون سنة.

    وفي عشية الجمعة غرة الربيع النبوي عام الثالث والستين والألف توفي الباشا محمد بن محمد بن عثمان.

    وفي يوم الأحد سابع ذي الحجة الحرام مكمل عام الاثنين والستين والألف عزل القائد عبد الكريم بن العبيد من القيادة في جني. وولي القائد علي بن عبد العزيز الفرجي تلك القيادة يوم الخميس السابع عشر من المحرم الحرام فاتح عام الثالث والستين والألف.

    وفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من الصفر عام اثنين والستين والألف وصل عُلي ماء البحر معدك، وهو ثان وعشرون يوماً من فبرائر، ولكن ما وصل الموضع المعهود الذي ينتهي إليه عادة، بل وقف عند مرمس يند، هذا أمر غريب الذي لم نره ولم نسمع به أنه جرى قبل، وهو من حوادث الزمان وغرائبه.

    وفي أيامه انفتح أبواب الفتنة من كل جهة ومكان-كتب الله لنا وللمسلمين فيها السلامة والنجاة بمنه.

    وفي أواخر ذي القعدة الحرام من العام الثاني والستين والألف خالف الشيخ عُعل الدومسي على أهل كاغ، وهرب منهم إلى سغي عند أسكيا داوود بجميع ما هنالك من أرباب المواشي من العرب والتوارق والفلان وغيرهم. وفي أواسط المحرم الحرام فاتح عام الثالث والستين والألف حرك إليهم القائد منصور بن مبارك السواف قائد كاغ بجيشه. فتبعهم للإغاثة من أهل تنبكت خمسون رامياً مع المعزول الكاهية أحمد بن سعيد المداسني. وفصلوا إلى بلاد أسكيا، وهرب منهم وترك البلد خالياً. وأما أُعل فما نالوا منه نيلاً، فولوا راجعين. وتبعهم أعل المذكور يرميهم الكفار الذين معه بالنشاب كل ليلة إلى كوكيا، ففارقهم.

    ثم أتى بغزوه إلى أرض أشر فغار على جميع من كان هنالك من العرب والتوارق، وسارق أموالهم. فتبعوه قليلاً، ثم خافوا من شره فرجعوا، وذلك في شهر رمضان في العام المذكور. وفي هذا الشهر خالف جنكي أنكبعلي على أهل جني، ومكث في بلد شو عند ماتنك شم، جعل الله عاقبة الجميع خيراً.

    وفي يوم الجمعة السابع من الربيع الثاني في هذا العام رسى أخونا الفقيه محمد سعدي بن الوالد عبد الله بن عمران مرسى كبر، قد جاء من جني لقدح عينيه عند مجيء الطبيب إبراهيم السوس. وطلع البلد ليلة السبت، وأنزله الباشا أحمد بن الباشا حد في داره فأكرمه وأبر به غياة المبرة والإكرام. فتسبب له الطبيب المذكور، ففرج الله تعالى عنه، وأخرجه من ظلمة البصر. ولبث في تنبكت ثلاثة أشهر وأربعة أيام، فأعطى الباشا أحمد الطبيب من عنده ثلاثة وثلاثين مثقالاً وثلثاً ذهباً. ثم أعطاه هو عند رجوعه لوطنه جني أربعين حجرة ملحاً وكساه كسوة فاخرة. فخرج من تنبكت بعد صلاة الفجر من يوم الاثنين الثالث عشر من رجب الفرد في العام المذكور. وما تأخرت والدته في الحياة بعد ذهابه إلا شهرين وثلاثة وعشرين يوماً.

    الباب السادس والثلاثون

    ذكر الوفيات والتواريخ من عام فاثاني والأربعين والألف إلى آخر العام الثالث والستين والألف

    من ذلك الباشا علي بن عبد القادر، توفي في عشية الخميس السادس من المحرم فاتح عام الثاني والأربعين والألف، والقائد محمد بن سمعود. ضرب عنقهما في الر، وأمر بذلك الباشا علي بن مبارك الماسي باتفاق الجيش كلهم.

    وفي ليلة عاشوراء منه ليلة الاثنين توفي محمد ابن موسى السباعي في بلد جني، قتله القائد ملوك بن زرقون والكواهي الخمسة.

    وفي حدود هذا العام توفيت عمتنا أم حفصة بنت عمران، رحمها الله تعالى.

    وفيها توفي الفقيه العام الصالح التقى الخير الفاضل الشيخ بوب كار الفلاني من قبيلة سفنتير، رحمه الله ونفعنا به أمين.

    وفي أواسط الصفر منه توفي القائد أحمد بن سعدون الشاكمي، ودفن في مقابر الجامع الكبير.

    وفي عشية الخميس الثالث عشر من جمادي الأولى توفي جنكي أبو بكر بن عبد الله، قتله القائد ملوك بن زورقون في القصبة صبراً بحضور الكواهي الخمسة. ثم غسل ليلة الجمعة وصلي عليه ودفن في الجامع الكبير في مدينة جني.

    وفي أواخر جمادي الآخرة منه توفي أخونا ومحبنا بابير كري بن أبي زيان التواتي في جني، رحمه الله تعالى وغفر له.

    وفي آخر رمضان منه توفي أخونا وصديقنا من حين الطفولية حبيب بن عبد الله بن بلقاسم التواتي، رحمه الله تعالى وعفى عنه بمنه.

    وفي أوائل ذي الحجة الحرام مكمل العام المذكور توفي الجار المحب الشريف محمد بغيغ بن عبد الله رس بن الإمام سيد علي الجزولي، رحمه الله تعالى.

    وفي أواسط رجب في العام الثالث والأربعين والألف توفي أخونا ومحبنا محمود بن عمر الحرار. وفي ثاني يوم وفاته توفي أخونا ومحبنا الفع أبكر الفلاني، كلاهما في مدينة جني، ودفنا في مقابر الجامع الكبير رحمخهما الله تعالى وغفر لهما وعفى عنهما.

    وفي أوائل الربيع النبوةي في العام الرابع والأربعين والألف توفي الباشا سعود بن أحمد عجرود الشرقي، ودفن في جامع محمد نض.

    وفي أوائل ذي القعدة الحرام توفيت أختي أم كلثوم بنت الوالد عبد الله بن عمران في مدينة جني بعد صلاة العشاء الآخرة في النفاس بعد الولادة بيومين أو ثلاثة، ودفنت ليلتئذ في الجامع الكبير، رحمها الله وغفر لها أمين.

    وفي ضحوة الجمعة الثالث عشر من المحرم الحرام الفاتح للعام الخامس والأربعين والألف توفي الفقيه العالم العلامة أبو العباس القاضي سيد أحمد بن أند غمحمد بن أحمد بُي ابن أحمد بن القاضي أند غمحمد، رحمه الله تعالى ونفعنا به أمين.

    وفي أوائل الصفر توفي الباشا عبد الرحمن بن القائد أحمد ابن سعدون الشاظمي، ودفن في مقابر الجامع الكبير في جوار أبيه.

    وفيه توفي الشيخ الفاضل الفقيه عبد الرحمن المعروف بافق كُم بن ولي الله تعالى الفقيه أبي بكر بن عبد الرحمن الغدامسي وصلي عليه بعد صلاة المغرب ودفن.

    وفي يوم الخميس بعد الزوال الرابع عشر من رمضان في العام الخامس والأربعين والألف توفي مولانا الأمير الوليد بن مولانا الأمير زيدان في مراكش.

    وفي يوم الأحد عند صلاة العصر الثاني من رجب في العام السادس والأربعين والألف توفي الفقيه العالم محمود بن الفقيه صالح ونكرب، ودفن في مقابر سنكري، رحمه الله تعالى بمنه وغفر له وعفى عنه.

    وفي ليلة الأربعاء الثالثة والعشرين من صفر في العام السابع والأربعين والألف توفي أخونا وصديقنا الفقيه عمر كري بن يُمزغر الوداني، رحمه الله تعالى وغفر له وعفى عنه وجمع شملنا وشمله في ظل العرش وفي الفردوس الأعلى بلا عقوبة ولا محنة أمين.

    وفي شهر الربيع الثاني توفي السيد المبارك المحب الناسك الشريف فائز بن الشريف أحمد في أكرز، رحمه الله تعالى ونفعنا به في الدارين أمين.

    وفي يوم الخميس الثامن من الربيع الثاني في العام الثامن والأربعين والألف توفي الشيخ الفقيه العالم الفاضل البارع الكامل النافع أبو إسحاق إبراهيم ابن الفقيه أحمد بغيغ الونكري، رحمه الله تعالى ونفعنا به في الدارين أمين.

    وفي أوائل شعبان توفي أخونا سليمن المعروف بسن جينو بن بلقاسم تنفن التواتي في مدينة جني، ودفن في الجامع الكبير، رحمه الله تعالى وعفى عنه بمنه.

    وفي ليلة الخميس الخامس عشر من رمضان توفي أخونا ومحبنا النافع كلشع محمد أسر بن هيكي محمد ناي في بلد كنتي. ولما احتضر بعث إلى أهله في بينا وأنا فيه حينئذ لسرد كتاب الشفاء طلب منه ذلك أهل ذلك البلد في هذا العام. فوصل إلي مرسول بعد هدو من الليل لكي أحضر عنده حتى يقضي الله تعالى فيه ما يقضي. فركبت ساعتئذ بعد التكلف لأجل الإخوة والمحبة بيننا وبينه، وما وصلتهم إلا بعد طلوع الفجر، فوجدناه قد توفي. وفرغوا من تجهيزه تلك الليلة، رحمه الله تعالى وغفر له وعفى عنه بمنه وكرمه. نعم الأخ النافع هو. ورجعت إلى بينا صبيحة لأجل قراءة الكتاب المبارك.

    وفي يوم السبت السابع عشر منه توفي أخونا علي بن الوالد عبد الله ابن عمران في جني ودفن في الجامع الكبير، رحمه الله تعالى وعفى عنه أمين.

    وفي صبيحة السبت الرابع والعشرين منه توفي الأخ الفاضل الشقيق عبد الله بن الفقيه أحمد معيا بعد ما خرج من داره وركب فرسه وقصد القصبة لسرد الجامع الصحيح للبخاري في دار السلطنة. غلبه الحال في الطريق ورجع لداره وتوفي ساعتئذ، وهو يوم ختم الجامع المبارك. فختمه أخوه الفقيه عبد الرحمن رحمه الله تعالى برحمة واسعة أمين.

    وفي شهر شوال والله أعلم توفي أخونا مرزوق بن حمدون الوجلي في جني، رحمه الله أمين.

    وفي أواخر ذي الحجة الحرام المكمل للعام الثامن والأربعين والألف توفي القائد محمد بن الحسن التارزي، قتله الباشا مسعود كما.

    مر وفيه توفي الأمين القائد أحمد بن يحيى، قتله أيضاً الباشا مسعود كما مر.

    وفي أوائل الصفر في العام التاسع والأربعين والألف توفي القائد ملوك بن زرقون، ودفن في مقابر الجامع الكبير.

    وفي ليلة الأربعاء السابعة منه توفي القائد أحمد بن القائد حم بن علي الدرعي، قتله الباشا مسعود كما مر.

    وفي شهر ذي القعدة منه توفي أسكيا علي سنب المعزول في بلد كير جينو، قتله أصحاب غزوة شنان بن إبراهيم العروسي. وقتلوا كثيراً من خيار الصنهاجين الساكنين هنالك وأفسدوا فيها فساداً عظيماً.

    وفي يوم الخميس عند الزوال في شهر جمادي الآخرة توفيت محبتنا الشريفة نانا كُم بنت بوي الشريف بن المزوار. فخرج روحها متبسمة ورأسها على ركبتي. وصليت عليها بعد صلاة الظهر، ودفنت في الجامع الكبير في جني، رحمها الله تعالى ونفعنا بها في الدارين أمين، وذلك في العام الخمسين بعد الألف.

    وفي ضحوة السبت الرابع من ذي القعدة الحرام في هذا العام توفي أخونا الأمين بن علي بن زياد، رحمه الله تعالى وعفى عنه بمنه.

    وفي صبيحة الجمعة من عيد الفطر من العام الحادي والخمسين والألف توفي جنكي عبد الله ابن جنكي أبيبكر، وصلي عليه في المصلى، ودفن في الجامع الكبير في جني.

    وفي ظهر الأحد السابع عشر منه توفيت زوجتي كاك بنت المختار تمت الونكري، ودفنت في الجامع الكبير في جني، رحمها الله تعالى بمنه.

    وفي ضحوة الاثنين الرابع عشر من المحرم الحرام في العام الثاني والخمسين والألف توفي إمام الجامع الكبير الإمام سيد علي بن عند الله سر بن الإمام سيد علي الجزولي، ودفن في مقابر الجامع الكبير، رحمه اللهتعالى بمنه.

    وبهذا التاريخ تولى الإمام محمد الوديعة بن الإمام محمد سعيد بن الإمام محمد كداد الفلاني إمامة ذلك الجامع.

    وفي يوم الأحد عند الزوال السبع والعشرين من جمادي الأولى توفيت أختي عائشة بنت الوالد عبد الله بن عمران، وصليت عليها بعد صلاة العصر، ودفنت في مقابر الجامع الكبير.

    وفي يوم الجمعة التاسع من جمادي الآخرة توفي الجار النافع المرضي عنه الحاج عبد الله بن علي الإدريسي المعروف بمعكار، رحمه الله تعالى برحمة واسعة وغفر له وعفى عنه ورفع درجته في الفردوس الأعلى أمين.

    وفي ليلة الأحد الحادية والعشرين من رمضان توفي محبنا ونافعنا أسكيا محمد بنكن بن بلمع محمد الصادق بن الأمبين أسكيا داوود رحمه الله تعالى وعفى عنه بمنه.

    وفي ليلة السبت الثانية عشر من شوال توفي المحب النافع والصاحب الفاضل الفقيه أبو عبد الله القاضي محمد سنب بن القاضي محمد جم ابن الفقيه سنب مريم قاضي ماسنة، رحمه الله تعالى وعفى عنه وغفر له وجمع شملنا وشمله في ظل العرش وفي الفردوس الأعلى بمنه أمين.

    وفي ليلة الخميس الخامس عشر من رمضان في العام الثالث والخمسين والألف توفي محبنا شم محمد في بلد جني، ودفن في الجامع الكبير، وهو رأس قياد جنكي رحمه الله وغفر له وعفى عنه بمنه.

    وفي عشية الاثنين السابع من ذي الحجة الحرام المكمل للثالث والخمسين والألف توفي الأخ المحب النافع الفقيه أبو بكر سعنة المعروف بموركيا في بلد شبل في أرض كَل.

    وفي شهر جمادي الآخرة في العام الرابه والخمسين والألف توفيت العامة أم نانا بنت الفقيه المقرئ سيد عبد الرحمن ابن سيد علي بن عبد الرحمن الأنصاري، رحمها الله تعالى بمنه.

    وفي يوم الثلاثاء بعد صلاة الظهر غرة المحرم الحرام في العام الخامس والخمسين والألف توفيت ابنتي في بلد فوتن، دفنتها هنالك، وأنا في حال السير في السفر، تعلي الله بها الميزان.

    وفي نهار السبت الخامس من الصفر توفي أخونا ومحبنا وصهرنا من الجانبين محمد بن الشيخ المختار تمت الونكري في بلد بينا. فغسلته، ودفن في ذلك الوقت، رحمه الهتعالى وغفر له وعفى عنه أمين.

    وفي ليلة الثلاثاء آخر ليلة من شوال توفي الشريف يوسف بن الشريف علي بن الشريف المزوار، رحمه الله ونفعنا به في الدارين أمين.

    وفي ليلة الأحد العاشرة من ذي الحجة الحرام المكملة للخامس والخمسين والألف توفي أخونا محمد بن الأمين بن أبي بكر كعت في بلد بينا. فغسلته، وصلي عليه في المصلى ضحوة العيد، ودفن هنالك ساعتئذ، رحمه الله وغفر له وعفى عنه بمنه.

    وفي ليلة السبت الثامنة من المحرم الحرام الفاتح للعام السادس والخمسين والألف توفي أخونا الإمام بن سنبر الدرجي في بلد بينا. فغسلته ضحوة السبت، وصلينا عليه ساعتئذ، ودفن هنالك، رحمه الله وعفى عنه بمنه.

    وفي يوم الاثنين السادس من الربيع النبوي توفي أخونا ومحبنا سيد الحسن الكاتب بن علي بن سالم الغصنوني، ودفن في مقابر الجامع الكبير، رحمه الله تعالى بمنه.

    وفي شهر رجب والله أعلم توفي أخونا ومحبنا الفقيه صالح بن سعيد سلنكي في بلد تندرم، رحمه الله تعالى وغفر له وعفى عنه بمنه.

    وفي يوم الاثنين السابع عشر من شوال توفي صهري سيد علي بن أحمد الإدريسي في بلد بينا، رحمه الله تعالى بمنه.

    وفي يوم السبت عند الزوال الخامس من ذي الحجة الحرام المكمل للسادس والخمسين والألف توفي المحب النافع الشريف محمد بن الشريف الحاج، وصلي عليه بعد صلاة الظهر، ودفن في مقابر الجامع الكبير رحمه الله تعالى وغفر له وعفى عنه ونفعنا به في الدارين أمين.

    وفي ليلة الخميس بين المغرب والعشاء التاسعة من المحرم الحرام فاتح عام السبع والخمسين والألف توفي الباشا أحمد بن الباشا علي بن عبد الله التلمساني، وصلي عليه ضحوة الخميس، ودفن في جامع محمد نض، رحمه الله تعالى بمنه.

    وفي يوم الجمعة العاشر منه توفي الباشا مسعود بن منصور الزغري في السجن عند كروكي في الحجر.

    وفي أول ليلة من الصفر توفي مغشرن كي عبد الرحمن المعروف بأكنزر، وخلفه في مقامه سبطه أبو بكر بن ورمشت على يد الباشا الحيوني.

    وفي جمادي الأولى توفي ابني محمد الطيب عبد أمه حليمة، ثقل الله به الميزان أمين.

    وفي ليلة السبت العاشرة من ذي القعدة توفي الفقيه محمد سيد بن الفقيه أحمد بابا، ودفن في ضحوته في مقابر سنكري رحمه الله تعالى وغفر له وعفى عنه أمين.

    وفي يوم الاثنين الخامس عشر من المحرم الحرام فاتح عام ثمانية وخمسين وألف توفي أخونا أحمد بن الوالد عبد الله بن عمران في بلد جني، ودفن في الجامع الكبير، رحمه الله وعفى عنه بمنه.

    وفي ليلة الثلاثاء السابع عشر من شوال توفي الأخ العزيز والصاحب المحب الحنين من عهد الطفولية الفاضل الدين الفقيد محمود كعت بن علي بن زياد في بلد بينا، ودفن هنالك، غفر الله له ورحمه وعفى عنه وجمع شملنا وشمله في ظل العرش وفي الفردوس الأعلى بمنه وكرمه أمين.

    وفي ليلة الرابع من عيد النحر مكمل العام التاسع والخمسين والألف توفي الشيخ إبراهيم بن مسعود الرعوان، قتله الباشا يحيى بن محمد الغرناطي، وووري في الرو بلا صلاة ولا غسل.

    وفي شهر رجب عام ستين والأف توفي القائد عبد القادر بن ميمون الشرقي، ودفن في مقابر الجامع الكبير، رحمه الله تعالى بمنه وكرمه أمين.

    وفي ليلة الخميس الحادي عشر من رمضان توفي القائد علي بن رحمون المنبهي في كندم، وأتي بجنازته إلى تنبكت ليلة الجمعة. فصلى عليه السيد الفاضل الفقيه محمد بن أحمد بغيغ الونكري عند جامع الكبير وذلك بوصية منه.

    وفي ضحوة الأرعاء الثاني والعشرين من الربيع النبوي في العام الحادي والستين والألف توفي أخونا عبد المغيث بن الوالد عبد الله بن عمران في بلد جني، ودفن في الجامع الكبير، رحمه الله تعالى وغفر له وعفى عنه بمنه.

    وفي إحدى وعشرين من شوال توفي القاضي أحمد بن القاضي موسى داب في مدينة جني، ومكث في القضاء إحدى وثلاثين سنة. فتولى القاضاء بعده أخوه عبد الرحمن، وهو جاهل لا يعرف شيئاً من مسائل الأحكام.

    وفي أواسط الصفر في العام الثاني والستين والألف توفي القائد محمد العرب بن محمد بن عبد القادر الشرقي الراشدي، ودفن في مقابر الجامع الكبير ضحوة.

    وفي سابع وعشرين منه توفي أخونا ومحبنا الأمين القائد بلقاسم بن علي بن أحمد التملي، وصلي عليه بعد صلاة الظهر، ودفن في جوار شيخنا الولي الفاضل الفقيه الأمين أبي أحمد أخ الفقيه عبد الرحمن، رحمه الله وغفر له وعفى عنه بمنه وكرمه.

    وفي يوم الأربعاء عند الظهر الثاني من الربيع الثاني والستين والألف توفي القاضي محمد بن محمد كري، رحمه الله وغفر له وعفى عنه بمنه.

    وفي ليلة الأربعاء الثالثة والعشرين منه توفي القاضي عبد الرحمن في جني ومكث في القضاء نحو خمسة أشهر رحمه الله تعالى وغفر له وعفى عنه بمنه. وفي شهر جمادي الأولى منه قلد أهل جني القضاء محمد بن مرزوق مولى الهواري، سدده الله بمنه.

    وفي صبيحة الخميس الثاني من ذي الحجة الحرام المكمل للثاني والستين والألف توفي مولانا شعبان، وصلي عليه ضحوة عند الجامع الكبير، ودفن في مقابره، رحمه الله تعالى وغفر له وعفى عنه بمنه.

    وفي يوم الجمعة بعد صلاة العصر أول يوم من الربيع النبوي في العام الثالث والستين والألف توفي الباشا محمد بن محمد بن عثمان، وتوفي معه ساعتئذ ابنه الصغير. وصلي عليهما عند العشاء بعد ما حفر لهما في مسجد محمد نض. فغلظ محمد بغيغ في الكلام للباشا أحمد بن حد قبل الصلاة عليهما. وقال له كل ساعة ننهاكم عن دفن الأموات في هذا المسجد ولا تسمعون لنا، وذنوب ذلك على رقابكم. والميت نجس والنجس لا يدخل المسجد. ثم صلي عليهما، ودفنا في قبر واحد.

    وفي ليلة الجمعة الرابعة عشر من الربيع الثاني توفيت الشريفة خديجة بنت عمركم، وصليت عليها ضحوة الجمعة، ودفنت في مقابر الجامع الكبير رحمها الله تعالى.

    وفي يوم السبت بين الظهر والعصر السادس من شوال توفيت والدتي فاطمة بنت الحسن الهوصية، وصليت عليها بعد صلاة المغرب عند الجامع الكبير، ودفنت في جوار والدنا، رحمهما الله تعالى وغفر لهما وعفى عنهما ونور ضريحهما وأكرم مثواهما وأسكنهما في الفردوس الأعلى بلا حساب ولا عقاب بجاه نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم.

    وفي ليلة الخميس عند غروب الشمس السابعة من ذي الحجة المكمل الثالث والستين والألف توفيت أختنا حفصة تاع بنت عبد الله بن عمران، وصليت عليها بعد صلاة العشاء ودفنت في جوار الوالد رحمها الله وعفى عنها أمين.

    الباب السابع والثلاثون

    ذكر من تولى أمور البلاد من السودانيين من مجيء الباشا جودر إلى عام 1063

    وهنا انتهى القول بنا فيما أردنا من جمع ما تيسر من أخبار ملوك أهل سغي ونبذة من ذكر قيمغ وأهل ملي وملوك جني ونشأتها ونشأة تنبكت ومن ملكها ودولة الأحمدية الهاشمية المنصورية المللوية فيها، وذكر بعض العلماء والصالحين فيهما، وأنبائهم وقصصهم وسيرهم وغزواتهم وأيامهم وتواريخهم ووفياتهم ووفيات بعض أعيان البلاد والأحبة والإخوان وأهل القرابة، وما يتعلق بذلك من ذكر مولك الفلانيين أهل ماسنة والتوارق من ابتدائهم إلى هذا التاريخ، وهو يوم الاثنين لأربع خلت من ذي الحجة الحرام المكمل للعام اثالث والستين والألف.

    والذي في المقام يومئذ من الباشات الباشا أحمد بن حد بن يوسف الأجناسي. والذي في المقام من ملوك سغي في تنبكت أسكيا الحاج محمد بن أسكيا محمد بنكن بن بلمع محمد الصادق بن أسكيا داوود ابن الأمير أسكيا الحاج محمد ابن أبي برك. والذي في المقام من ملوك السودان أهل جني جنكي أبو بكر، ويقال له أنكبعلي في كلامهم بن جنكي محمد ينب بن جنكي إسماعيل. فخالف على أهل المخزن بمدينة جني وتعلق في البراري، ولا ندري اليوم ما يصير الله عاقبتهم معه-جعل الله السلامة في ذلك. والذي في المقام من الفلانيين أهل ماسنة فندنك حمد أمنة ابن فندنك أبي بكر يام بن فندنك حمد أمنة.

    ولنذكر الآن ترتيب القياد والحكام في مدينة جني، وترتيب القضاة والأئمة وسلاطين التوارق في تنبكت من مجيء المحلة المذكورة إلى هذا التاريم. وما حدث بعد ذلك نقيده غن شاء الله تعالى على منوال ما تقدم ومئى إن كنا في قيد الحياة ونسأل الله تعالى التوفيق والإعانة بمنه وكرمه.

    أما الحاكم الأول في مدينة جني

    1. عند مجيء هذه المحلة فعلي العجمي، وهو بشوط فوقي على اليمين للباشا جودار.
    2. خلفه القائد مامي بن برون على جني حاكماً لما جاء من تنبكت لمطاردة باغن فاري بكر في أواسط العام المكمل الألف. ومكث في تلك الحكومة عامين كاملين. وجمع في خراجها مالاً عظيماً، وقيل أنه حصل في عام واحد ستين ألفاً ذهباً. ثم أمر السلطان مولاي أحمد الذهبي أن يأتي إليه في مراكش، وأن يكون باقاس الدرعي حاكماً في ذلك البلد. فذهب إليه بمال عظيم من الذهب، ومكث باقاس المذكور في الحكومة تسعة أشهر، فمات.
    3. فجعل الباشا جودار بارضوان حاكماً فيه بعد ما قسم السلطان مولاي أحمد أرض السودان بينه وبين القائد منصور بن عبد الرحمن. فولى جودار حكومة الأرض، وولى منصور حكومة الجند.
    4. ثم زمن السلطان أن يتولى حكومتها سيد منصور، فانعزل بارضوان. ولما جاء الباشا سليمن عزل سيد منصور المذكور.
    5. ورد الحكومة لبارضوان، فتولاها مرتين. ثم عزله.
    6. فولاها بن برهم الدرعي، ثم مات.
    7. فولاها العرب والد موم، اسم أمه، وهو مولد تنبكتي ونسبه من جهة أبيه شباني. تبع أهل المخزن وخدمهم فصاب عندهم جاهاً عظيماً. فجعله الباشا سليمن حاكماً في تنبكت. ثم جعله حاكماً في جني، فمكث فيها أربعين يوماً، فمات. قيل سحر وقيل أصيب بالعين، لأنه رجل أسمر اللون جميل الصورة وافي القد غليظ الجسم.
    8. فولاها الظالم الفاسق أحمد البرج إلى أن جاء الباشا محمود لنك فعزله لكثرة ظلمه وجوره فولاها منصور السوسي.
    9. ثم ولاها السلطان مولاي أبو فارس من عنده في مراكش القائد أحمد بن يوسف العلجي. فرجع إلى السودان، وعزله وتولاها. وبقي فيها إلى العام التاسع عشر بعد ألف. جاء القائد علي بن عبد الله التلمساني مدينة جني، فعزله.
    10. وولاها الطالب محمد البلبالي حاكماً، وجعل أحمد بن بو سعيد قائداً، وفي ثلاثة أشهر خرج منها لجنون صابه فيها. وبقي البلبالي حاكماً إلى سبعة أشهر، عُزل.
    11. وتولاها علي بن سنان قائداً. ثم عزل.
    12. ورجع البلبالي حاكماً فيه ثانياً. وتأخر فيها نحو خمسة أعوام في مدة الباشا علي بن عبد الله. فلما تولى الباشا أحمد بن يوسف عزله.
    13. وولاها أحمد بلّ حاكماً، ولم يسعد فيها. فعزله في سبعة أشهر.
    14. وولاها ملوك بن زرقون قائداً. فعزله الباشا حد.
    15. وولاها عبد الله بن عبد الرحمن الهندي قائداً على الجيش وجعل ملوك بن زرقون حاكماً على البلد. وبقيا كذلك إلى ولاية الباشا محمد الماسي. فخالف القائد عبد الله عليه حتى كاد أن تكون فيها فتنة. ثم أطفأ الله تعالى نارها فعزله وعزل ملوك معه.
    16. وولاها علي بن عبيد حاكماً، فوافق بأيام شداد صعاب من بقايا الغلاء الفائتة. فكابد فيها المشقات فجدّ واجتهد إلى ستة أشهر، فتخلص من الرواتب والمونات على التمام والكمال. فطلب الإقالة فأقاله الماسي.
    17. ثم ولاها يوسف بن عمر القصري قائداً، فمكث فيها سنة واحدة وأربعة أشهر وعشرين يوماً، فتولى المرتبة العلية بتنبكت بقدرة الله البارئ سبحانه الذي له القدرة والإرادة.
    18. وفي فور ولايته رد القائد ملوك في جني قائداً فيها، ومكث هنالك عاماً كاملاً، فعزله.
    19. وولاها القائد إبراهيم بن عبد الكريم الجرار عند تمام حول القائد ملوك، وهو شهر الربيع النبوي في العام الرابع والثلاثين والألف. فمكث فيها عامين، ثم عزله في شهر المحرم الحرام الفاتح للعام السادس والثلاثين والألف.
    20. ثم ولاها الحاكم علي بن عبيد أيضاً، فمكث فيها ثمانية أشهر. فانعزل القائد يوسف من المرتبة، وتولاها القائد إبراهيم بن عبد الكريم الجرار في شعبان في العام السادس والثلاثين والألف. فبولايته عزل علي بن عبيد المذكور.
    21. وولاها سيد منصور من الباشا محمود لنك حاكماً. وفي ليلة الثلاثاء الثالث عشر من شعبان في العام السابع والثلاثين والألف توفي الحاكم سيد منصور المذكور. وفي سلخه انعزل الباشا إبراهيم الجرار، فتولى الباشا علي بن عبد القادر.
    22. فرد علي بن عبيد في الحكومة، فمكث فيها سبعة أشهر أيضاّ. عزله لمغضبة وقعت بينهما، وذلك في شهر الربيع النبوي في العام الثامن والثلاثين والألف.
    23. فرد فيها القائد ملوك بن زرقون بهذا التاريخ. ثم عزله.
    24. وولا الباشا إبراهيم بن عبد الكريم الجرار بعد ما رجع من عمالته سفنتير الفلانيين. فعن قليل توفي.
    25. فرد ملوك المذكور فيها، وبقي إلى عزل الباشا علي ووفاته. ثم عزله الباشا سعود.
    26. وولاها القائد أحمد بن حم بن علي الدريع. ثم عزله الباشا سعيد بن علي المحمودي لكثرة شكاية الناس به عنده من الظلم والجور والتعدية.
    27. فولاها القائد محمد بن الحسن التارزي التركي. ثم عزله الباشا مسعود بن منصور الزرعي.
    28. فولاها القائد علي بن رحمون المنبهي. ثم عزله.
    29. فولاها الحاكم عبد الكريم بن العبيد الدرعي. ثم عزله.
    30. فولاها القائد عبد الله بن الباشا أحمد بن يوسف. ثم عزله الباشا محمد بن عثمان.
    31. فولاها القائد محمد بن إبراهيم شمر. ثم عزله الباشا يحيى بن محمد الغرناطي.
    32. فولاها القائد عبد القادر ملوك. وفي سابع ولايته توفي.
    33. فرد فيها عبد الكريم بن العبيد المذكور. ثم عزله الباشا أحمد بن الباشا حد بن يوسف الأجناسي.
    34. فولاها القائد عبي بن عبد العزيز الفرجي. وهو الذي فيها اليوم.

    أما أول القضاة الذين تولوا على أيديهم في تنبكت

    1. فالقاضي محمد بن أحمد بن القاضي عبد الرحمن، ولاه الباشا محمود بن علي بن زرقون بعد ما قبض أولاد سيد محمود رحمه الله تعالى. فتولى وهو ابن خمسين سنة. وتوفي وهو ابن خمس وستين سنة. فمكث في القضاء خمس عشرة سنة.
    2. ثم القاضي محمد بن أند غمحمد بن أحمد بري بن أحمد بن القاضي أند غمحمد، ولاه الباشا محمود لنك. فتولى وهو ابن ستين سنة، وتوفي وعمره أربعة وستون سنة، فمكث في القضاء أربع سنين.
    3. ثم أخوه القاضي سيد بن أحمد أند غمحمد، ولاه الباشا محمود لنك أيضاً. فتولى وهو ابن خمسين سنة، فتوفي وعمره سبعة وسبعون سنة، ومكث في القضاء سبعة وعشرين سنة.
    4. ثم القاضي محمد بن محمد بن محمد كري، ولاه الباشا عبد الرحمن بن القائد أحمد بن سعدون الشاظمي. فتولى وهو ابن خمسين سنة، فتوفي وهو ابن سبعة وستين سنة، ومكث في القضاء سبعة عشر سنة.
    5. ثم القاضي عبد الرحمن بن الفقيه أحمد معيا، ولاه الباشا أحمد بن الباشا حد. فتولى وعمره ثلاثة وسبعون سنة، وهو الذي فيها اليوم.

    وأما أول القضاة الذين تولوا على أيديهم في حني

    1. فالقاضي أحمد الفلالي.
    2. ثم القاضي مؤدب موسى داب.
    3. ثم القاضي العدل أحمد تروري.
    4. ثم القاضي سعيد ثم القاضي أحمد.
    5. ثم أخوه عبد الرحمن داب.
    6. ثم القاضي محمد بن مرزوق مولى الهواري، وهو الذي فيه اليوم.

    وأما أول الأئمة الذين تولوا على أيديهم للجامع الكبير في تنبكت

    1. فالإمام محمود بن الإمام صديق، ولاه القاضي محمد بن أحمد بن القاضي عبد الرحمن بعد وفاة أخيه الإمام أحمد في يوم اللاثنين الخامس والعشرين من رمضان في العام الخامس بعد ألف. فكتب بذلك للباشا جودار، وهو في المحلة في أسفي. فكمل له، وعمره يومئذ سبعون سنة، ومكث في الإمامة ستة وعشرين سنة، وتوفي وعمره ست وتسعون سنة.
    2. ثم الإمام عبد اسلام بن محمد دك الفلاني، فتولى في العام الثاني واثلاثين والألف، ومكث فيها أربع سنين في أيام القائد يوسف بن عمر، والقاضي سيد أحمد، فتوفي.
    3. وتولى بعده الإمام سيد علي بن عبد الله سر بن لإمام سيد علي الجزولي في شهر رحجب والله أعلم في العام الخامس والثلاثين والألف، فمكث فيها ستة عشر سنة وسبعة أشهر، فتوفي ضحوة الاثنين الرابع عشر من المحرم الحرام في العام الثاني والخمسين والألف.
    4. فتولى بعده بهذا التاريخ الإمام محمد الوديعة بن الإمام محمد سعيد بن الإمام محمد كداد، الفلاني وهو الذي فيها اليوم.

    وأما أول الأساكي وكبرائهم الذين تولوا على أيديه في تنبكت

    1. فأسكيا سليمن ابن أسكيا داوود، وذلك لما هرب بكر كيشاع بن الفودنك بن فرن عمر كمزاغ من أهل سغي إلى الباشا محمود بن زرقون، وهو أول من هرب إليهم منهم. قال له الباشا محمود: نجعلك أسكيا. قال لست أهلاً له. فلما جاء سليمن إليه هارباً. قال: هذا هو أسكيا. ثم سمع الباشا محمود ببكر كنرو بن يعقوب في سجنه، فسرحه. فلما جاء قال: هذا هو كرمن فاري، وأما إنه فبنك فرم. فولي الثلاثة أولئك المراتب.
    2. ثم بعد أسكيا سليمن أسكيا هرون بن أسكيا الحاج.
    3. ثم أسكيا بكر بن يعقوب.
    4. ثم أسكيا الحاج بن بكر كيشاع.
    5. ثم أسكيا محمد بنكن بن بلمع محمد الصادق.
    6. ثم أسكيا علي زليل بن بكر كيشاع، فعزل.
    7. ورجع فيها أسكيا محمد بنكن المذكور إلى أن توفي.
    8. ثم ابنه أسكيا الحاج محمد.

    وأما كرمن فاري

    1. الأول فبكر المذكور، مكث فيها نحو سبعة عشر عاماً.
    2. ثم الحاج بن بكر كيشاع، مكث فيها اثني عشر عاماً.
    3. ثم محمد بنكن بن بلمع محمد الصادق، ومكث فيها ثلاث سنين غير شهر واحد.
    4. ثم عبد الرحمن بن بكر كيشاع، مكث فيها إلى أن توفي.
    5. ثم عمر، توفي فيها.
    6. ثم داوود بن أسكيا بكر بن يعقوب، فعزل لرذاته.
    7. ثم داوود بن أسكيا هرون، وهو الذي فيها اليوم.

    وأما بلمع

    1. الأول فهارون ابن أسكيا الحاج، مكث فيها حياة أسكيا سليمن.
    2. ثم محمد بان بن محمد هيك ابن فرن عمر كمزاع، مكث فيها نحو ست سنين. فقبضه أهل سغي في غزوة دند فاري، وذهب به إلى عند أسكيا هارون دنكيا في لولامي. فبقي هنالك إلى أن توفي.
    3. ثم مارنك.
    4. ثم بكر ولد فامع، فعزل لرذاته.
    5. ثم محمد بنكن بن محمد الصادق.
    6. ثم عبد الرحمن بن بكر كيشاع.
    7. ثم أخوه علي زليل.
    8. ثم ابن أخيه عمر بن الحاج، فمات في غزوة لولامي.
    9. ثم الحاج بن أسكيا هارون، قتله التوارق في الغزوة عند دنكي.
    10. ثم إسحاق ابن أسكيا بكر، وهو الذي فيها اليوم.

    وأما بنك فرم

    1. الأول فبكر كيشاع المذكور، ولم يتأخر فيها.
    2. ثم ابنه الحاج، فمكث فيها نحو خمسة عشر سنة.
    3. ثم زاد بن يعقوب بن الأمير أسكيا الحاج محمد، مكث فيها أكثر من عشرين سنة.
    4. ثم محمد بن الهادي بن أسكيا داوود.
    5. ثم الحاج محمد بن أسكيا محمد بنكن.
    6. ثم داوود بن أسكيا هارون.
    7. ثم بان ثم محمد الصادق بن أسكيا محمد بنكن، وهو الذي فيها اليوم.

    وأما الأساكي بعد قدوم المحلة في دند

    1. فأولهم أسكيا نوح، فلبث في السلطنة سبع سنين، وما صاب راحة ولو شهراً واحداً إلا الاشتغال بالحرب والقتال، حتى مل منه أهل سغي لأجل غيبتهم الطويلة عن أهلهم وعيالهم فعزلوه.
    2. وولوا أخاه أسكيا المصطفى بن أسكيا داوود. فأمر أخاه محمد سرك أجي بن أسكيا داوود أن يتبع نوح ويخرجه من أرض ملكهم، ومشى معه في ذلك خيار جيشهم. فخلف على المصطفى وعزله.
    3. فكان أسكيا ولم يمكث فيها إلا قليلاً. فسمع في ليلة واحدة أصوات الأطفال يلعبون، فظن أن أهل سغي هم الذين خالفوا عليه. فخرج وهرب.
    4. فولوا أخاه أسكيا هارون دنكتيا بن أسكيا داوود. وفي أيامه جاء دند فاري بار إلى بلاد جني، فقاتل مع أهل المخزن عند جبل كر. ومات في السلطنة.
    5. فبايعوا أسكيا الأمين بن أسكيا داوود فكان سلطاناً مباركاً مسعوداً عليهم، فقام بهم أحسن قيام أيامه. غر منعمون بالهنأ والخير والبسط. فطرأت غلاء في أيامه، ودامت ستة أشهر. فقام على الضعفاء والمساكين وأنفق عليهم حتى جازت العلاء، يذبح كل يوم ثمانية دواس [دواب] أربعة في الصباح وأربعة في المساء، يقسم لحمها مع مائتين ألفاً ودعاً. وقام لهم ألف بقرات حلابات، يقسم ألبانها لهم أيضاً حتى فرج الله عنهم. وعمل الغزوات، ففتح الله تعالى له فيها أرزاقاً كثيراً. فمكث في السلطنة سبع سنين، فتوفي.
    6. وخلفه ابن أخيه أسكيا داوود بن محمد بان بن أسكيا داوود، فمكث في السلطنة اثنين وعشرين سنة. فكان ظالماً فاسقاً سفاكاً للدماء. وقتل من أقربائه وكبراء جيشه ما لا يحصيه إلا الله، ولا يجوز عليه يوم إلا ويقتل فيه روحاً، وما تحرك للغزو ولو مرة واحدة، حتى أضعف قومه وكاد أن يفنيهم، وحتى عزم على قتل أخيه إسماعيل. ففطن لذلك وهرب إلى تنبكت، واستعان بأهل المخزن على قتاله. فكتب الباشا سعيد ابن علي لأهل كاغ أن يمدوه بما يقويه من الرماة. فذهب إليه، وطرده.
    7. ودخل في السلطنة. ثم عزله الباشا مسعود بن منصور في المحملة بنفسه، فهرب.
    8. وولى أسكيا محمد بن أنس بن أسكيا داوود. ولما رجع عزله أهل سغي.
    9. وجعلوا أسكيا داوود بن محمد سرك أجي بن أسكيا داوود. ثم عزلوه، فهرب إلى تنبكت.
    10. وولاوا [أسكيا داوود فرجع] أسكيا محمد بري ابن هارون دنكتيا ابن أسكيا داوود. فرجع أسكيا إسماعيل بجيش عظيم لقتاله، فهرب إلى كاغ في طلب الإغاثة.
    11. وبادر أهل سغي، وولوا أسكيا مار شندن بن فاري منذ حماد بن بلمع حامد بن أسكيا داوود. ورجع بري من كاغ مع الجيش وعال الدومسي في جيشه. فتقاتلوا مع إسماعيل. ومات فيها بري المذكور. وقتلوا إسماعيل وخسروا جيشه. ثم عزل أهل سغي مار شندن.
    12. وولوا أسكيا نوح بن المصطفى ابن أسكيا داوود. ثم عزلوه.
    13. وولوا أسكيا محمد البرك ابن داوود بن محمد بان.
    14. ثم أخاه أسكيا الحاج.
    15. ثم جاء إسماعيل بن محمد سرك أجي-ومشى مع أخيه أسكيا داوود إلى تنبكت-فعزله وتولى السلطنة.
    16. ثم جاء أخوه المذكور مع تنبكت فعزله وتولى، وهو الذي فيها اليوم.

    وأما أول سلطين توارق مغشرن الذين تولوا على أيديهم

    1. فأوسنب بن محمد بن أليم بن أكلنقي، وهم أربعة ذكور: الحاج محمود بير زوج بت، ومحمد، وأبو بكر، وأوسنب-أولاد محمد أليم بن أكلنقي. فنشأوا في تنبكت حتى صاروا كأهله. فحج محمود بير، وخدم أبو بكر العلم. وأما أوسنب فنشأ في ديار أولاد سيد محمود من صغره لأجل قراءة العلم، ثم صار إلى ما صار من سوء الخاتمة، والعياذ بالله. فخرج لهم عدواً مبيناً وقاتلهم في فتنة القائد المصطفى التركي، وخرق بيوتهم في بيع آخرته بالدنيا. فولوه على قبيلته بعد ما امتنع مغشرن كي أكمظل من طاعتهم. ثم أتى الباشا محمود بن زرقون في بنك، وذكر له أنه يريد أن يولي ابنه أكنزر على من كان في رأس الماء من قبيلته، ويتولى هو الذين كانوا في ناحية القبلة. فرضي له بذلك، فقسم مطلبهم الذي هو ألف مثقال، فجعل خمسمائة مثقال على كل واحد من الفريقين.
    2. ولما توفي أوسنب المذكور خلفه ابن أخته مود
    3. ثم محمود كين
    4. ثم أرمشت
    5. ثم المختار.
    6. ثم محمود بن محمد بن وسطفن، وهو الذي فيه اليوم.

    وأما أكنزر فهو فيها إلى العام التاسع بعد الألف، عزله الباشا سليمن لما سجن حد بن يوسف الأجناسي، وهو المقدم يومئذ. فولى أخاه بنجك السلطنة، ومكث فيها عاماً واحداً. ثم لعجزه عن القيام بتلك السلطنة، ورد أكنزر المذكور فيها. وسبب سجن حد المذكور توليته على العمال بأمر الباشا جودار فجعله عامل العمال، وهم أحد عشر عاملاً، وهو الذي يتولى قبض خراج الأرض منهم، لأنه عزيز عند جودار ويحبه كثيراً. فسعى به الوشاة عند الباشا وذكوره أن خراج الأرض كلها بيد حد سبع سنين، يفعل فيها ما يشاء، ما حاسبه جودار فيها ولو مرة واحدة. فانضره سليمان وسأله عما عند العمال. وقال دفع الجميع تحت نظره وتبرأ. وجعل ذلك لئلا ينالهم سليمن بمضرته. ولما رجع حد لداره بعث له ستمائة مثقال هدية وأربع جوار عاليات اشتراهم بمائتين مثقالاً وأربع شقوق برنبال اشتراهم بمائة وستين مثقالاً. فقويت التهمة فيه، وسجنه. ولم يخرج من السجن إلا أعطاه خمسة آلاف مثقالاً ذهباً. وبقي أكنزر في السلطنة إلى أيام الباشا محمد الماسي. فقبضه القائد أنبارك وعزله وأكل جميع أمواله. وولى تدكمرت. ولما توفي أنبارك المذكور، رده الباشا محمد في السلطنة في شهر الربيع النبوي الذي مات فيه. وبقي فيها إلى العام السابع والخمسين الذي مات فيه، ومكث فيها نحو أربع وخمسين سنة. وفيها أيام بنجك وتدكمرت.

    فولى الباشا حميد الحيوني سبطه أبو بكر بن ورمشت، وهو الذي فيه اليوم.

    وهنا انتهت المجموعة بحمد الله وحسن عونه بتاريخ نهار الثلاثاء الخمس خلون من ذي الحجة الحرام تمام العام الثالث والستين والألف، والحمد لله رب العلمين وهو حسبي ونعم الوكيل.

    الباب الثامن والثلاثون

    تاريخ السودان من عام 1063 إلى عام 1065

    الحمد لله وحده. ومما حدث بعد ما مضى من التاريخ رجوع جنكي محمد كنبر في السلطنة لما أيس أهل جني من أخيه المخالف. وكان ذلك في يوم السبت التاسع من ذي الححة المكمل للعام الثالث والستين والألف.

    وفي يوم الثلاثاء الثاني عشر منه جاء بشوطان فوقيان من أصحاب اليمين وأصحال الشمال إلى تنبكت بالصرخة على المخالف جنكي، بعثهما أهل حني لطلب الإغاثة في قتله. وفي الاثنين السابع عشر من المحمر عام الرابع والستين والألف بعث صاحب الأمر الباشا أحمد بن الباشا حد المحلة لهم في تلك الإغاثة، وجعل عليهم الكاهيين التحتين الكاهية محمد العرب بن الباشا علي بن عبد الله والكاهية سعيد ابن أحمد أصح. فتوحهوا إليهم في القوارب بالتاريخ المذكور في حال امتلاء البحر.

    وفي ليلة الخميس الحادية عشر من صفر في العام المذكور وصل ماء البحر معدك، وهو ثان وعشرون من دجنبر، في ولاية الباشا أحمد بن حد.

    وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين من الربيع النبوي في هذا العام ورد البريد من عند أهل جني بكتابهم إلى الباشا أحمد، وأخبروه أنهم مع الإغاثة من أهل تنبكت اقتتلوا مع جنكي بكر المذكور ثماني مرات ليلاً ونهاراً، ما نالوا منه نيلاً، ومات في المعركة بينهم أربع رماة. فطلبوا منه ثانياً أن يمدهم بالمحلة. ورجع المقاتلون جميعاُ إلى مدينة جني ينتظرونها. والقتال بينهم في بلد شو، قد بنى عليهم ثلاث حصون، وهو في داخلها مع جيشه.

    وفي يوم الثلاثاء عند طلوع الفجر الثاني والعشرين من الشهر المذكور توفي القائد مولود بن الحاج سلام الغرياني في حاضرة تنبكت، وصلى عله الفقيه محمد بغيغ الونكري عند مسجد محمد نض، ودفن في مقابر الجامع الكبير، رحمه الله وعفى عنه بمنه.

    وفي يوم الأربعاء العشرين من جمادي الأولى ورد كتاب القائد علي بن عبد العزيز الفرجي والكواهي من جني وأخبروا فيها أن الباغي جنكي بعث كتابه لحمد أمنة صاحب ماسنة أنه دخل في حرمة السلطان، وجميع خدامه من القياد والكواهي وغيرهم في طلب العفو منهم، وأن يكون وسلة له في ذلك. فكتب لأهل جني بذلك وبعهث لهم مع كتاب جنكي. فصرفوهما مع كتابهم للباشا أحمد بن حد.

    وفي غرة جمادي الآخرة يوم الأحد ورد كتاب من أهل كاغ، وأخبروا أن جميع التوارق الذين هربوا مع أعال الدومسي رجعوا إليهم طائعين، وبقي وحده في أرض أسكيا، رد الله كيده في نحره.

    وفي يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادي الآخرة ورد كتاب أهل جني صحبة مرسولهم، وأخبروا فيه أن جنكي رد صلح صاحب ماسنة ولم يقبله.

    وفي يوم الاثنين الرابع عشر من شعبان ورد كتاب من أهل جني للباشا أحمد بن حد وأخبروه أن جنكي أبو بكر خرج من شو وجاز إلى بينا، فلما وصل ثمة أرسل يوسر محمد بن عثمان لهم كتاباً، وأخبر أن جنكي يريد المصالحة معهم. ثم أرسل لهم ثانياً أنه قال لا يقبل ذلك الصلح، وأنه لا يدخل جني أبداً.

    وفي يوم الجمعة التاسع من رمضان عزل الكاهية محمد بن رح، وزعم أصحابه أنه سبب الفتنة بينهم وبين جنكي أبو بكر حتى خالف. ووصل الحال بينهم وبينه موصلاً سوءاً، وهو قبل صاحب رأي وتدبير للجيش بحاضرة جني بحيث لا يخطئ رأيه الصواب، وهو الذي طرأ أمر سماوي [مساوئ] لا مرد له. وفي يوم الاثنين الثاني عشر منه توفي وصار إلى دار الآخرة.

    وفي يوم الأحد الثامن عشر منه ورد طائفة من السرية الشراقية من جني إلى تنبكت لأجل الاختلاف والتنازع التي وقعت بينهم. فأعزلوا من أجلها كاهيتهم محمد العرب وأخلفوه الكاهية مؤمن بن عبد الكريم العرب. ثم عزلوه بعد أربعة أشهر، وأخلفوه الكاهية أحمد بن سليمن. فبطلوعه ظهر فيه الميل إلى المعزول محمد العرب. فنفروا عنه نفرة شديدة حتى خرجت هذه الطائفة من جني عامدين إلى تنبكت، فوصلوه بالتاريخ المذكور.

    وفي هذا اليوم أيضاً ورد الكتاب من عند القائد علي بجني، وأخبر أن جنكي قطع عنهم الطريق ومنع السالكين إليهم من كل جهة ومكان. ثم كتب أنه صار قائماً وقام معه جميع الخلق السودانيين كافة أجمع، وما بقي لهم أحد لا من يمين ولا شمال ولا إمام ولا وراء.

    وفي يوم الاثنين السادس والعشرين منه ورد كتاب من عند محمد كاغ ولد هنبركي الهادي لأسكيا الحاج محمد، وأخبر أن أسكيا داوود توفي على سريره في بلده في شهر رجب، وأن ابنه إبراهيم هو الذي خلفه في السلطنة.

    وفي يوم الاثنين الرابع من شوال خلع الباشا أحمد بن حد، بعد ما مكث في السلكنة ثلاث سنين غير ستة وعشرين يوماً. فاتفق الجيش على المشاور محمد بن موسى، فجعلوه باشا ساعتئذ. وفي غده سرح المعزول الباشا يحيى بعد ما لبث في السجن ثلاث سنين.

    وفي عشية الجمعة عند دنو الشمس للغروب توفي الشيخ المبارك بابا أحمد الشريف، وصلى عليه الفقيه محمد بغيغ الونكري عند مسجد محمد نض بعد صلاة العشاء، ودفن في مقابر الجامع الكبير، رحمه الله تعالى ورضي عنه وأعلى درجته في أعلى عليين، وهو ثامن يوم من الشهر المذكور.

    وفي سلخ هذا الشهر وردت الطائفة الأخرى من أهل الشراقة الباقية في جني ونزلوا في جزيرة توى مع الكاهية محمد العرب، بعد ما كتب لهم الباشا أحمد بن حد أن لا يأتي زمعهم إلى تنبكت لأنه رأس الفتنة وسببها. ثم كتب لهم بذلك الباشا محمد بن موسى، فأبوا وكتب لهم مراراً متكررة لما سمع أنه معتهم، وبعث لهم مراسيلاً بعد مراسيل أن لا يأتوا به معهم لتنبكت، فخالفوا وأبوا. فلما قربوا قامت الطائفة السابقة وبقوا بالحرام حتى قاربوا البلد وهو معهم. فجرى بينهم قتال حتى يتفانوا عن آخرهم. فنزلوا في تلك الجزيرة وهم فيها إلى الآن. ورام الناس كيف أن يصالحوهم، فما وجدوا السبيل إلى ذلك.

    وفي يوم السبت الرابع عشر من ذي القعدة جاء كتاب من عند القائد علي في جني، وذكر فيه أن الكاهية موسى ذهب إلى عند جنكي في بينا لما أتاهم كتاب يوسر أن يأتي لأخذ الصلح من جنكي. فتلكم معه في ذلك وقبله، وأمره أن يدخل إلى جني أو إلى كنبع ليسكن فيها، فلم يرض بهما ساعتئذ، وقال: سأفعل إن شاء الله. وأطلق الطريق المسدود. فجاء الونكريون إلى جني، وبقي الناس يذهبون ويرجعون.

    وفي يوم السبت السابع من الربيع النبوي عام الخامس والستين والألف ارتحل الكاهية محمد العرب وطائفته الذين معه من مرسى كبر بعد ما ارتحلوا من توى. ونزلوا فيها ومكثوا هنالك نحو خمسة أشهر، فرجعوا إلى تندرم. فمنعهم الرماة الذين كانوا فيها من دخول قصبتها بأمر صاحب الأمر الباشا محمد بن موسى. ثم ارتحلوا منها إلى أرض بر ونزلوا فيها.

    وفي يوم الخميس التاسع عشر منه توفي القائد عبد الكريم بن العبيد في مدينة كاغ. صرفه هنالك الباشا محمد بن موسى ليحضر حتى يتفاصل أهلها مع وكيل القائد ناصر بن عبد الله في ثلاث رواتب التي اجتمعت عليه وتداخل بعضها في بعض حتى لم يدروا كيف المفاصلة فيها.

    وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من الربيع الثاني توفي الباشا يحيى. فصلى عليه القاضي عبد الرحمن في الضحراء في مصلى الجنائز عند الظهر، ودفن في مقابر سنكري.

    وفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين من جمادي الآخرة جاء البشوطان من جني بكتاب القائد علي بن عبد العزيز الفرجي، فأخبر فيه أن أصحاب جنكي طاحوا على قارب ملح في الطريق وقتلوا فيها خمسة أنفس، ثلاثة دراوي الأصل وواحد تواتي والخامس عبد أهل تنبكت، ونهبوا منها مالاً كثيراً. فطلب أهل جني الإغاثة من أهل تنبكت في ذلك الكتاب.

    فاغتم الجيش الذين بتنبكت لذلك غماً شديداً وكادوا أن يتميزوا من الغيظ. فعزموا أن يسيروا إليهم بالمحلة الجامعة الكاملة الوافرة. وجعل كبارهم يجرون الحال ويطولونها حتى أدت إلى قطع الرجال. فقطعوا ثمانين رجلاً، فجهزوهم، وأخرجوهم. فلما وصلوا المرسى نفروا فيما بينهم، فظهر لهم أن كبارهم لا يعجبهم المشي. فخالفوا عليهم وأجابهم إلى ذلك الذين بقوا في المدينة، وذلك يوم السبت التاسع من رجب الفرد. فعزلوا الباشا محمد بن موسى، ومكث في السلطنة تسعة أشهر وخمسة أيام، وعزلوا الكاهية عبد الكريم والكاهية محمد الجسيم وبشوطاتهما الثمانية والهملاجيين [؟].

    وجعلوا أبدالهم في ذلك اليوم، فاتفقوا على القائد محمد بن أحمد بن سعدون الشاظمي وولوه باشا، لأن الباشا محمد بن موسى بعثه اليهم يومئذ ليصلح بينهم، فأخذوه وولوه عليهم كرهاً يومئذ. وهو رجل مبارك إن شاء الله تعالى، وفقه الله بالخير والصواب، وأصلحه به وأصلح به وعلى يديه.

    وكتب في فور ولايته للسراقة الذين هربوا إلى أرض بر، وأمرهم أن يرجعوا إلى تنبكت ويتركوا المعزول العرب بن علي في تندرم. فأجابوا دعوته وامتثلوا أمره.

    وفي هذه الأيام جاء توارق الحجر إلى عند الباشا محمد بن أحمد بن سعدون بأولادهم وعيالهم وأموالهم، فأخبروه أنهم يريدون أن يدخلوا في طاعته ويسكنوا في أرضه رغبة في سكنى جوار تنبكت، ولكن سب خروجهم من أرضهم في الساعة خوف إخوانهم توارق أُلمدن. فقبلهم الباشا محمد المذكور، ورضي بهم، منهم بابا أما رئيس تدمكت، وبابا أكمني رئيس أدورفن، وأملوس، وابن أخت وندك محمد أكُعوي، وتسلوف. هو وبابا أما المذكور من أولاد أشركان، جعل الله أقدامه علينا رحمة وعافية بمحمد وآله صلى الله عليه وسلم.

    وفي يوم الاثنين الخامس عشر من رمضان توفي الكاهية محمد العرب بن علي في أرض بر في بلد كيم. وتأخروا فيها لأجل يبس ماء البحر.

    وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شوال قدم الكاهية أحمد بن سليمن وأصحابه تنبكت فأصلح الباشا محمد بن أحمد بن سعدون بينهم وبين الطائفة السابقة في تنبكت. فأعزل الكاهية أحمد المذكور والكاهية محمد بن عبد القادر الشرقي الذي على أهل تنبكت، وجمعهم على الكاهية عمار بن أحمد عجرود، فتوافقوا واصطلحوا.

    وفي يوم الاثنين الثاني عشر من ذي القعدة ورد كتاب من عند الكاهية منصور بن عبد الله العلجي في بلد أروان، وأخبر فيه أن مولاي محمد الشيخ بن مولاي زيدان توفي في بلد مراكش، وتولى ابنه مولاي العباس، رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل ابنه خليفة مباركاً ونصره نصراً عزيزاً وفتح له فتحاً مبيناً.

    وفي يوم الأربعاء الحادي عشر من المحرم الحرام فاتح عام السادس والستين والألف توفيت محبتنا وجارتنا الشريفة أم بنت زيدان الشريف بن علي المزوار الحسني، وصليت عليها عند الجامع الكبير، ودفنت في جوار والدها في مقابر ذلك الجامع ضحوة تلك الأربعاء، رحمها الله تعالى وبرد ضريحها.

    وفي ليلة الأحد بين المغرب والعشاء السادس من صفر توفي شيخنا ومحبنا وصاحب والدنا الفقيه الإمام محمد كورد بن الفقيه القاضي محمد ساج الفلاني عن أربعة وثمانين سنة، وصلى عليه القاضي عبد الرحمن في الصحراء في مصلى الكبراء والصلحاء ضحوة الأحد، ودفن في جوار والده في مقابر سنكري. ورحل لتنبكت في شبابه عن نحو ثلاثة وعشرين سنة، ودخلها عند استهلال شعبان في الخامس بعد الألف، فصاحب والدنا حينئذ. فقبله قبول مبرّة وإكرام ونصح ومواساة إلى الممات. فبعدما مهر وبهر في اقتباس العلم قدم والده من بلده يريد ارتحاله معه، فنهاه والدنا عن ذلك. فاستمع لكلامه وعمل به فتركه. ثم رجع لتنبكت ثانياً فقدر الله له وفاته فيها. واشتغل هو في أخذ العلم عند علماء البلد وهو حافل بهم يومئذ. فأخذ عن أشياخ والده [والدي] عدة، منهم الفقيه القاضي محمد ابن أحمد بن القاضي عبد الرحمن، وشيخ الشيوخ الإمام محمد بن محمد كري، والقاضي محمد بن أند غمحمد، والفقيه عمر بن محمد بن عمر، والعلامة الفقيه بابا بن الفقيه الأمين، والفقيه القاضي سيد أحمد بن أند غمحمد وغيرهم. وحضرمجلس العلامة الفقيه أحمد بابا بعد مجيئه من مراكش. فحصل عدة فنون من العلم كالفقه والحديث والأصول والبيان والنحو والمنطق والعروض والحساب وغيرهم، رحمه الله تعالى وغفر عنه ورفع درجته في أعلى عليين بمنه.

    وفي لية الخميس العاشر من الصفر توفي سيد الوقت وبركته شيخنا شيخ الإسلام ومفيد الأنام الفقيه محمد بن الفقيه أحمد ابن الفقيه القاضي محمود بغيغ الونكري. وصلى عليه ابن أخيه محمد بن المصطفى ضحوة الخميس في الصحراء في مصلى الكبراء والصلحاء. ودفن في جوار آبائه وأقاربه وأهل بيته في مقابر سنكري. وهو عالم عامل فاضل تقي ورع ناسك ولي، وهو خاتمة الأشياخ وآخرهم موتاً، وبه تم انقراضهم. إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه وعفى عنه ورضي عنه ورفع درجته في أعلى عليين ونفعنا ببركته في الدارين أمين.

    وفي ليلة السبت الحادية عشر من الربيع النبوي توفي أخونا أحمد بن الحاج محمد بن الأمين كانوا. وصلى عليه ضحوة في الصحراء القاضي عبد الرحمن، ودفن في جوار أهل بيته في مقابر سنكري، رحمه الله تعالى وغفر له وعلى عنه بمنه.

    وفي يوم الأحد السادس عشر من الربيع الثاني ورد كتاب من مراكش من عند القائد يحيى بن يحيى الحياني للباشا محمد بن أحمد بن سعدون، وأخبر فيه أن السلطان مولاي محمد الشيخ توفي في الثاني والعشرين من الربيع النبوي عام خمسة وستين وألف، وبايعوا ابنه السلطان مولاي العباس ساعتئذ. فجاء على وفق المراد وظهرت منه البركة في الساعة والحين.

    وفي السادس عشر من جمادي الأولى ورد كتاب من عند القائد علي بن عبد العزيز الفرجي في جني ومن عند سريا الكمال بن سريا بكر صاحب كنبع، وأخبروا أن الأبعد الخاسر الخارجي جنكي بكر جهز جيشاً إلى كنبع يريد قتل سريا المذكور والتغلب على ذلك البلد لقطع الطريق على السالكين. ووجد أن هنالك الكاهية عبد الله الماسي مع نحو ثلاثين رماة حراسة البلد. فوصل الجيش إلى سور البلد فتقاتلوا. فنصر الله الكاهية المذكور وسريا عليه، فهزموه مع جيشه الأرذلين الخاسرين، وكسروهم وطردوهم. وقتلوا منهم ثلاثمائة رجالاً وزيادة بعون الله وقوته. فولوا مدبرين خائبين. أهلكه الله ودمره تدميراً وتبره تتبيراً وأراح العباد والبلاد منه بمنه وكرمه.

    تم وكمل بحمد الله تعالى وحسن عونه.