محمد بلو بن عثمان بن فودي

إنفاق الميسور
في تأريخ بلاد التكرور

  1. الفصل الأول: في تحقيق اسم "التكرور"
  2. الفصل الثاني: في تحديد بلاد "التكرور"
  3. الفصل الثالث: في تراجم بعض علماء "باغرم"
  4. الفصل الرابع: في وصف "برنو" وسكانها
  5. الفصل الخامس: في ترجمة الشيخ البكري
  6. الفصل السادس: في بلاد أهير وسكانها، وبعض علمائها
  7. الفصل السابع: في بلاد حوس، وإقليمها وساكنيها
  8. الفصل الثامن: في الأقاليم السبعة التي تقرب من كاشنة وغوبر، وسكانيها
  9. الفصل التاسع: في تراجم بعض علماء الأقاليم السبعة
  10. الفصل العاشر: في ترجمة والد المؤلف
  11. كلامه في لواقح الأنوار
  12. شمائله الكريمة وآدابه العلية وأخلاقه السنية التي يتأدب بها في المجالس
  13. الإشارة إلى مدار ما يحدث الناس به في مجالسه
  14. ذكر ما يستفتح به كلامه في مجلسه ذكر ما يحدث الناس به في فن أصول الدين
  15. أدلة العقائد
  16. في ذكرى ما يحدث الناس به في الفقه
  17. الوضوء وصفته
  18. الغسل
  19. التيمم
  20. الصلاة
  21. قضاء الفوائت
  22. السهو
  23. الزكاة
  24. زكاة الفطر
  25. الصوم
  26. الحج
  27. الذكاة
  28. اليمين
  29. النذر
  30. النكاح
  31. البيع
  32. حفظ الأعضاء الظاهرة من المعاصي
  33. ذكر ما يحدث الناس به في فن التصوف
  34. ذكر ما يذكر به من آيات الترهيب وذكر النار
  35. آيات الترغيب وصفات الجنة
  36. خاتمة: تذكر فيها أقسام الوعظ والتذكير وشروط الإنتساب لإرشاد الناس إستطراداً
  37. علو شأنه وابتداء حسد الملوك له
  38. ذكر وقعة كن [Konni]
  39. ذكر وقعة كتو
  40. تمام الخبر عن واقعة كتو
  41. ذكر الطلب بعد الهزيمة والفل
  42. ذكر غزوة مني
  43. تمام الخبر في مقامنا بغد
  44. تمام الخبر من اتنقالنا من غد
  45. رجوع الشيخ إلى أرض العدو من أهل غوبر
  46. ذكر غزوة "دن غد" افثانية
  47. ذكر غزوة بور
  48. ذكر غزوة القضاو الأولى
  1. ذكر المقام بجرو
  2. ذكر غزوة دباو
  3. ذكر انتقالنا إلى نزفر
  4. ذكر غزوة كب
  5. غزوة فاقت
  6. غزوة كنوما
  7. غزوة بنغ
  8. غزوة صيلام
  9. غزوة جاتو الأولاى
  10. غزوة بين
  11. تلخيص ما وقع في كاشنة مع جماعة المسلمين هناك
  12. تلخيص ماوقع في كنوا
  13. انتقال الشيخ من سابنغرة إلى غواند
  14. ذكر غزو كروفي
  15. ذكر غزوة جات الثانية
  16. ذكر غزوة زورار
  17. ذكر غزوة أوغ
  18. ذكر وقعة ألوس
  19. فتح سوّ
  20. عزوة جاندوت
  21. غزوة ياور
  22. غزوة بنا الأولى
  23. غزوة باس
  24. غزوة فافر
  25. غزوة برغ
  26. غزوة دفو
  27. غزوة القضاو الثانية
  28. ذكر بناء غواند
  29. ذكر غزوة كنو
  30. ذكر غزوات ارغنغ
  31. غزوة فتح القاضوا الثلثة
  32. غزوة بنا الثانية وما يتصل بها من غزو تند
  33. ذكر ما كان من أخبار آدر
  34. ذكر غزوة كنب
  35. ذكرى غزوة غوار
  36. غزوة نف
  37. تلخيص ما وقع بأرض برنوا مع جماعة المسلمين هناك على ما بلغنا
  38. ذكر قدوم امير المؤمنين محمد كما
  39. ذكر ورود وثائق السلطان مولانا سليمان سلطان المغربة
  40. تذنيب
  41. تتتمة
  42. فصل في الإشارة إلى مصنفاته الشريفة ومؤلفاته المنيفة
  43. فصل في كرامات الشيخ رض الله عنه
  44. فصل في الإشارة إلى أولاد الشيخ رضي الله عنه
  45. فصل في الإشارة إلى وزرائه
  46. فصل في الإشارة إلى خدامه
  47. فصل في الإشارة إلى عماله
  48. فصل
  49. فصل
  50. ورد الطريقة القادرية وفوائده
  51. ورد الشيخ
  52. فصل

عونك يا الله
وصلا الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

قال الفقير إلى مولاه الغني محمد بلو بن عثمان بن فودي. تغمدهم الله برحمته آمين:

الحمد لله الذي خلق الجن والإنس لعبادته، وشكر نعمه وأياديه وآلائه، وهو المنعم الشكور، وفتق من حكمته السموات السبع ومد الأرض ليدبر الأمر "ألا إلى الله تصير الأمور" [الشورى 53] وملأ أركان العالم بدائع حكمته مدى الأيام والدهور "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير" [الملك 1] وبعث الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلى الخلق، بالزبر والكتاب المنير، ليعلموهم شرائع الديانات ويخرجوهم من الظلمات إلى النور. وخص سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بفضائل لا تعد ولا تحصى "يؤفك عنه من أفك" [الذاريات 9] وهدى إلى سبله من سلك في جميع الأقاليم وجزائر البحور.

صلى الله عليه وسلم، وعلى السابقين الأولين من المهاجرين الأنصار والصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان مدى الأعصار والدهور.

أما بعد، فلما من الله علينا في هذا الزمان بظهور هذا الإمام الخليفة، مجدد هذا الدين للبرية، محيي سنة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، ناشر العلوم، وكاشف الغموم، والدي عثمان بن محمد العالم الرباني، والغوث الصمداني، قطب الزمان، وحجة الأوان، وعلامة الدنيا، وطالق المرتبة العليا، ينبوع المعارف، ودوحة القواطف واللطائف-فالعلماء من بحر علومه يغترفون، والحكماء من مشكاة نوره يقتبسون، والأولياء بكعبة سره طائفون، والعارفون على عرفات حضرته وافقون، إلى مثله تشد الرحال، وبمثله تضرب الأمثال، وفي وصفه تفني الآجال، وعن بابه تقضي الآمان، أطال الله حياته، وجعل العقبة خيراً، وأنعم المولى علينا بالجهاد ببركاته في هذه البلاد، وأمدنا بجنوده، وأيدنا بنصره، حتى شاهدنا من سلطان قهره، وشديد انتقامه لأعدائه، وانتصاره لأوليائه، عجائب وغرائب وكرامات لأوليائه وأصفيائه، مما يزيد المؤمنين إيماناً، ويكسب الكافرين ذلاً وخيبة خسراناً-بقيت النفس تتشوف إلى تأريخ ما وقع في هذا الزمان من الخير، خصوصاً مع إضافة ما وقع قبل في هذا القطر من العجائب والغرائب، وأخبار الملوك والعلماء، وما ينخرط في ذلك من ذكر النوادر في هذا القطر، مما يستعذبه الفهم والعقل، وتستلذ عند سماعه الأسماع في النقل. فجعلت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، علماً مني بأنه لم يستصبح أحد قبلي في هذا الظلام. فأقتبس من سراجه في هذا المرام، مع ما أنا بصدده من الأشغال وضيق الزمان، مع تحمل الأثقال.

ثم بدا لي بعد الاستخارة أن أرمي في هذا المرمى بسهم، لعل الله ينفعني به ومن وقف عليه من المسلمين. أعانني الله على تحريره وتهذيبه وترتيبه، ووفقني لإكماه، إنه خير معين.

وسميته "إنفاق الميسور، في تأريخ بلاد التكرور"

والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الفصل الأول
في تحقيق اسم "التكرور"

واعلم أن هذا الاسم الذي هو التكرور، علم على الإقليم الغربي من الجنوب السوداني، على ما فهمنا من تعبيرهم في التواريخ والنقول. وهذا الاسم شائع في الحرمين ومصر والحبشة، ومندرس في محله، حتى لا يعرفه أهل هذه البلاد أصلاً، وإنما يتلقونه من الحجاج الذين سموه بالحرمين ومصر.

ورأيت لمجد الدين الفيروزبادي في القاموس أنه بلد بالغرب، ورأينا لبعضهم أنه عبر عن كنو وكاشنا وما والاهما ببلاد السودان، وعبر عن تنكيت وما والاها ببلاد التكرور. والله أعلم.

وقال ابن خلدون في التأريخ الكبير له حيث تكلم في أخبار ملوك السودان المجاورين للمغرب: شعوب السودان تاجرنت، ويليهم الكانم، ويليهم من غربيهم كوكو، وبعدهم التكرور.

ولكن القصد تأريخ هذا القطر كله، من بلد فور إلى بلد فوت وما وراءها، وما والاها، كما مر، بحسب المكنة، إذ قدمنا أن تسجيل التواريخ في هذه البلاد مهجور [=مجهول] أصلاً.

هذا وقد قال الحسن اليوسي في المحاضرات: كان شيخ مشايخنا أبو عبد الله محمد بن العربي ابن أبي المحاسن يوسف الفاسي، من دأبه أنه متى لقي إنساناً يسأله: من أي بلد هو؟ فإذا أخبره قال: من عندكم من أهل العلم والصلاح؟ فإذا أخبره بشء من ذلك سجله، وهذا الاعتناء بالأخبار والوقائع والمسانيد ضعيف جدً في المغاربة، فغلب عليهم في باب العلم الاتعناء بالدراية دون الرواية. وفيما سوى ذلك لا همة لهم.

وكان أبو عبد الله المذكور يذكر في كتابه "مرآة المحاسن" أنه كم في المغرب من فاضل قد مات وضاع، من قلة اعتنائهم بالتأريخ! وهو كذلك.

وقد سألت شيخنا الأستاذ أبا عبد الله بن ناصر، رحمه الله ورضي عنه، يوماً عن السند في بعض ما كنت آخذه عنه. فقال لي: أنا لم تكن لنا رواية في هذا، وما كنا نعتني في ذلك، قال: وقد قضيت العجب من المشارقة واعتنائهم بمثل هذا، حتى أني لما دخلت مصر كان كل من يأخذ عنه عهد الشاذلية يكتب الورد والرواية والزمان والمكان الواقع فيه ذلك. إلخ.

وهذا حيث العلم والدين والعقل.

فأي شيء نقول ونحن في طرف العمارة، وفي بلاج السودان التي غلب على أهلها العجمة، وظلمات الجهل والهوى والكفر! كما قال المغيلي: والغالب على أهل تلك البلاد الجهل والهوى والكفر، وأصلهم كان ذلك. إلخ.

لكن نأخذ ما سنح وما ورد علينا من الأخبار حسب ما تيسر، وندع ما تعسر.

الفصل الثاني
في تحديد بلاد "التكرور"

وأول هذه البلاد من جهة المشرق، على تعبيرهم، بلد فور، ويليه من جهة المغرب بلد وداي وبلد باغرم:

فأما بلد فور فبلد واسع ذو أشجار وأنهار ومزارع، قوت أهله الدخن والذرة والدجر، وفيه رعاة كثيرون، ويعمره عجم متعربون، وعرب متعجمون، وقد فشا فيه الإسلام كثيراً، وأكثر أهل هذا القطر حجاج، وزعموا أنهم يكرمون الحجاج، ولا يتعرضون للطريق.

ويقرب من هذا الوصف أهل وداي وباغرم، ولكن خربت باغرم، وسبب خرابها-على ما معموا-أن سلطانها أكثر من الفسق إكثاراً فظيعاً، حتى تزوج بابنته من صلبه! فسلط الله عليه أمير وداي صابور، فخرب دياره وقتله "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا" [النمل 52].

وأما ما حاذا هذه البلاد من جهة الشمال، فقفار ورمال معاطيش لا يعمرها إلا الرعاة في فصل الربيع من البرابرة والعرب المذكورين.

وأما ما والاها من جهة الجنوب، فبلاد كثيرة يعمرها أجلاف السودان على اختلاف ألسنتهم، لم ينتشر فيها الإسلام كثيراً ، ولم يتفق لي من أخبار هذه البلاد، ونوادر الأمور وأخبار ملوكها وعلمائها ورجالها-ما يحق لنا ذكره وإيراده على ما شرطنا قبل.

الفصل الثالث
في تراجم بعض علماء "باغرم"

من شيوخ باغرم العالم العلامة سليمان، وابنه النجيب، أعجوبة الزمان، وطريفة الأوان، العالم العلامة، الزاهد الورع الفهامة، محمد الوالي، لطف الله بهما. وزعموا أن الشيخ سليمان ذهب من بلدنا هذا إلى أهل باغرم، واستوطنها، وهو من قبيلتنا هذه.

وقد ألف ولده النجيب محمد الوالي تآليف تدل على وفور علمه، وكثرة إحاطته وتضلعه بالعلوم، منها: المنهل في علم التوحيد، ومنها نظمهه على النقاية [للسيوطي]، ومنها قصائد وأشعار.

وكان قراء هذه البلاد وما قرب منها معتنين بعلم الأوفاق والحروف وعلم النجوم، مستغرقين في طلبها، حريصين على ذلك، حتى هجروا علم الكتاب والسنة والشريعة أصلاً، رغبة في الدنيا، فقال الشيخ فيهم:
من عذيري من أناس نجموا أفسدوا الدين وأبدوا كل ضر
تركوا علم الكتاب المنزل وحديث جا به هادي البشر
وعلوم الشرع والفقه التي تنفع المرء وتحميه الخطر
صرفوا اللهم إلى مكسبهم لحطام زائل لا يستقر
آثروا الدنيا على أخراهم لم يبالوا ما يؤديهم لضر
وعلى وفق ورووه حيلة لاكتساب المال والجاه المضر
جعلوه وصلة تدنيهم لبني الدنيا وآبوا بضرر
لقبوه علم سر كذبوا ماله والسر لكن علم شر
إنما السر علوم بثها أولياء الله أصحاب النظر
سلهم هل يعرفون حكمها قد تعاظوه لدي أهل البصر
ولعمري هو دهليز الردى ولكفر قد يؤدي في العبر
ما ترى فيمن تقضي عمره لارتصاد في شميس وقمر؟
يرتجي السؤل ودفع الضير من هذه الأشيا لبئس المنتظر
يا عباد الله يأهل التقى أبغضوهم واهجروهم بالهجر
أفسدوا الدين وأطفوا نوره هم عداة الدين في هذا العصر
صل يا رب وسلم دائماً للنبي المصطفى هادي البشر

وأخذ الشيخ عن الشيخ البكري:

وممن استوطنها قبل هذين الشيخين الشيخ ولولو. وزعموا أنه استوطن كُلُنبَرد-بضم الكاف واللام وفتح الباء المدغم فيها النون وتسكين الراء-من ناحية برن يو منجهة الشكال، هو والشيخ الولي ابن الجرمي التاركي، وجعلا يجيئان الطريق، ويقرران للناس الحق، فتراسل الناس إلى الاقتداء بهما، حتى تاب على أيديهما بعض عمال أمير برنو أمير عمر، فسعى بهما إلى السلطان سي عمر فاستحضرهما في ناديه، وسألهما عن شأنهما، فأخبره الولي ابن الجرمي، فقال: إنا ما أردنا أن نشتتت لك الرعية، وإنما نرشد الناس إلى الطريق، فقتله! فجرى دمه على كلمة الشهادة. وسرح الشيخ ولوند، فهرب إلى باغرم واستوطنها، حتى توفي بها.

وزعموا أنه ولد بطريق الحج، ذهبت أمه وهي حبلى، فضلت عن الرفقة حتى عطشت، فولدته، فماتت عطشاً! وبقي ثلاثة أيام، حتى مرت به رفقة أخرى، فحملوه إلى بلادهم حتى شب، فتعلم القرآن، ثم رحل في طلب العلم إلى أكدز، وإلى تنبكتو. ثم رجع إلى محله، حتى كان من أمره ما كان.

وتوفي هذا الشيخ بعد كمال الألف بقليل. والله أعلم.

وزعموا أنه قال لجماعته: قد أظلكم زمان ولي من أولياء الله، يظهر في هذه البلاد، يجدد الدين، ويحيي السنة، ويقيم الملة، فمن أدركه فليتبعه، فعلامته أنه يجاهد أولاً باللسان، حتى يتبعه أكثر الموقنين، ثم يجاهد بالسنان، ويملك هذه البلاد، وليخرجن أمير برنوا من داره، كما أخرجنا من ديارنا، ويملكها.

والحمد لله قد ظهر، واتبعناه ووازرناه. جعلنا الله ممن اهتدى، وأحسن عواقب أمورنا، وأطال حياته، وجعل العاقبة خيراً.

الفصل الرابع
في وصف "برنو" وسكانها

ويليه من جهة المغرب بلد برنو-بفتح الباء وإسكان الراء وضم النون، بعدها واو-وهي بلدة ذات أنهار وأشجار ورمال واسعة، عامرة بالسكنى قبل هذا الجهاد، ولم تكن بلدة في هذا القطر أوسع منها وأكثرها عمارة، ويسكنها البربر والعرب المذكورون والفلاتيون وفيها مماليك البربر كثيراً.

وهؤلاء البربر من بقايا البابرة الذين بين الزنج والحبوش، وهم الذين طردهم حمير من اليمن بعد إفريقيس التبع.

وسبب مقامهم باليمن-على ما زعموا-أن إفريقيس تبع استغاث به أهل الشام حين أكثر البربر الفساد فيها، واستنصروه عليهم، فغزاهم وشتت جموعهم، وسبى منهم ذراريهم. ولما رأى نخوتهم استبقى ذراريهم عنده مماليك يستعين بهم.

فلما مات ومضى برهة قاموا على حمير، فاقتتلوا، فطردهم حمير من اليمن، واستوطنوا قريباً من أرض الحبشة، ثم وافوا كانم واستوطنوها، ووجدوا في هذا البلد عجماً تحت حكم إخوانهم التوارك، يقال لهم أمكيتا. وغلبوهم على البلد، وأقبلت دولتهم أيام استيطانهم البلد، حتى ملكوا أقاصي البلد من هذا القطر.

* * *

وكانت وداي وباغرم قبل هذا تحت سلطانهم، وكذلك بلاد حوس-بفتح الحاء-وما والاها من بلاد بوش-بفتح الباء وإسكان الواو-ثم ضعفت شوكتهم.

وقد حج من سلاطينهم كثيرون، وتظاهروا بالخير والإسلام وإقامة الحدود والشريعة في أوائك أمرهم جداً، وبقيت آثار الإسلام فيها كثيراً.

وقد انتشر الإسلام فيها انتشاراً بين سلاطينهم ووزرائهم وعامتهم. بل لا يوجد في هذه البلاد عامة إلا معتنون بقراءة القرآن وتجويده وحفظه وكتابته.وثم تزل العامة هكذا حتى قام هذا الجهاد.

لكن حدثونا أن لسلاطينهم وأمرائهم مواطن يركبون إليها، ويذبحون بها، ويرشون بالدماء على أبواب قريتهم، ولهم بيوت معظمة فيها حيات وأشياء يذبحون لها، ويفعلون للبحر كما كانت تفعل القبط للنيل أيام الجاهلية. ولهم في ذلك أعياد يجتمعون فيها هم وقراؤهم وسلاطينهم وعامتهم، ولا يحضرها غيرهم، ويسمون ذلك عادة البلد، ويزعمون أن ذلك صدقات يستعينون بها على جلب المصالح، ودرء المفاسد، وإذا لم تفعل تلك العادة بطلت معايشهم، وقلت أرزاقهم، وضعفت شوكتهم. وتوارثوا هذه العوائد كابراً عن كابر.

ولم يبلغنا عن أحد من سلاطينهم وعلماءهم-بالغاً ما بلغوا-أنهم أبطلوا تلك العوائد، إلا ما كان من الموفقين ممن لا يشاركهم في أمورهم من العرب والفلاة، فإنهم لم يزالوا ينكرون عليهم فعلها ويكفرونهم. ولا شك في كفرهم، وإن كان علماؤهم يدعون أنهم لا يريدون بذلك الإشراك، ولا يعتقدون التأثير. فهم كفار، لأن هذه الأصنام من الأشجار والمياه والأماكن التي يذبحون لها كانت أصنام أجدادهم الذين لم يسلموا قبل، فهم في ذلك مقلدون لهم، وإن تظاهروا بالإسلام والخير بعد ذلك، لأن الإسلام في هذه البلاد إنما ورد به التجار والمسافرون، فأخذه من أخذه منهم.

فمن الناس من خلص دينه كما ينبغي، ومن الناس من خلطه بما يناقضه. وكان غالب ملوك هذه البلاد من هذا القبيل، لأنهم أخذوا بالإسلام وهم يقرون بالتوحيد، ويصلون ويصومون، ولكنهم لم يفارقوا أحوال أجدادهم الأولين، ولم يتركوا من عوائدهم شيئاً، فكل من خالطهم علم بالضرورة أنهم متلبسون بما لا يصدر إلا من كافر.

فبعضهم من قبل التقليد، وبعضهم من عمل نفسه.

قال شهاب الدين في نسيم الرياض شرح الشفاء: "من أهل السودان قوم مسلمون، ومنهم قوم كفار يعبدون الأشجار، ومنهم كفار يعبدون المياه.

قال سيدنا المختار بن أحمد الكنتي في النصيحة الكافي:بلد السودان بلد قد غلب على أكثر أهله الكفر، ومن فيه من المسلمين تحت قهر الكفرة، قد اتخذوهم أخراء، والناس يعملون بعمل أميرهم غالباً، وهم قد غلبت عليهم ظلمات الجهل والهوى والكفر، ولهذا نهى عن السفر إلى أرض العدو وبلاد السودان. إلخ.

وسيأتي لهذا مزيد بيان.

وإذا فهمت ما قررناه علمت أنهم لا يعذرون بما أظهروا من مقاصد أخرى-كمن سجد لصنم بمائة ألف درهم-وإن كانوا ينطقون بالشهادتين ويصلون يوصومون ويحجون ويعملون أعمال البر، لأن واحدة من خصال الكفر يحبط ألفً من خصال إلإمان إجماعاً.

* * *

ومن عوائد هذا البلد-على ما حدثونا-انتشار الفاحشة في قراها وخيارها، ولا ينكر بعضهم على بعض البتة.

ومن أخلاقهم النخوة والكبر في الفراء والعام، فالسلاطين من باب أحرى، والحدة، والمكر، والذل، وعمد المواساة، وسفك الدماء، والظلم الكثير، والفجور.

وفيهم يقول الأستاذ الطاهر بن إبراهيم في قصيدة:
إن كانورين كانوا أهل قهر واعتلاء
فالأراجيف لديهم كأراجيز الثناء
والأساطير إليهم ذو أساطين البناء
والأكاذيب إليهم من أكاذيب الجناء
والأساطير أراجيز بساتي الغناء
يا بني كانور هذا من فنون الأزدراء

الفصل الخامس
في ترجمة الشيخ البكري

من علماء هذا البلد الإمام العالم العلامة المتفنن الفهامة شيخ الشيوم ذو الفهم والرسوخ، الشيخ البكري، أخذ العربية والبلاغة في جاندوت، وصدر منها عالماً متفنناً، ثم رحل لبلاده، ولقي الشيخ النجيب التكداوي الأنصمني، وتتلمذ له حتى صدر منه عالماً متفنناً فرجع لبلاده، وتصدر للتدريس، وأقام بها حتى توفي.

ومنهم العالم العلامة الفقيه الفهامة أبو بكر الباركوم، المعريف بابن آجروم، أخذ عن الشيخ البكري، له تآليف تدل على وفور علمه، منها: العقيدة المعروفة بشرب الزلال.

ومنهم العالم العلامة الفقيه الفهامة أبو بكر الباركوم، المعروف الشيخ الطاهر بن إبراهيم الفلاتي، كان نسيج وحده، عالماً بالمنقول والمعقول، صالحاً تقياً بارعاً والحاصل أنه بلغ مبلغ الرجال.

نشأ بموضع يقال له "ذات البقر" بارعاً وأخذ العلم عن الشيخ البكري، ثم رجع لموضعه، وتصدر للتدريس، ثم حمله السلطان إلى حصن برنو، وأسكنه فيها، وابنتى له داراً، وولاه خطة [=خطبة]. له تآليف وأشعار: منها نظمه على الكبرى وشرحه، ونظمه على الحكم، ونظمه الدرر اللوامع، ومنار الجامع، فيعل التصريف.

كان رحمه الله كثير الحساد في ذلك البلد، فقي من جفاء أهل البلد وجفاء السلطان أمراً فظيعا، لإظهاره النصح لهم، مع أن الظالمين لا يحبون الناصحين لهم. وأتى يوماً باب السلطان يريد الدخول عليه، فأمر السلطان البوال أن يصده ويمنعه من الدخول، فأغلق عليه البواب الباب وكر راجعاً، وأنشأ يقول:
أتركت بابا لا يحد مسافة وأأتيت بابا سده البواب
باب يقول: فلا تلج، وتول من بخل وكل ضم هذا الباب

وله قصيدة في النصح للسلطان من سماع أقوال الوضاة والسعاية، وقد مر منها أبيات.

وكان رحمه الله ممن يبشر بظهور هذا الإمام الخليفة، مجدد هذا الذين في رأس هذا القرن للبرية، والذي روي عنه الثقاة بسنده إلى اشيخ ولوند أنه قال: قد أظلكم زمان ولي من أولياء الله يظهر في هذه البلاد، يجدد الذين للبرية، ويفشي العلم، وينصر السنة.

ومنهم غير هؤلاء، ضاعت آثارهم لما قدمنا من عدم تسجيل التواريخ في هذه البلاد.

الفصل السادس
في بلاد أهير وسكانها، وبعض علمائها

ويلي هذا البلد من جهة الشمال بلدة أهير، وهي بلا واسعة، وقيعان ممتدة يعمرها التوارك، وبقايا صنهاجة، وبقايا السودان.

وكان هذا الإقليم قبل في يد السودانيين، من أهل غوبر-بضم الغين وكسر الباء-فاستولى عليها التوارك: قبائل خمسة وافوا من الأوجل، يقال لهم: أمكيتا، وتمكك، وسندار، وأكدالا وأجدارنين. فتغلبوا على البلد ومكثوا فيها، ثم اتفق رأيهم في تأمير الأمير عليهم، ليقيم لهم أمرهم، ويرد قويهم عن ضعيفهم، فأمروا رجلاً من أهل أستفي، ثم تنازعوا بعد ذلك وعزلوه، ثم طلبوا آخر، ولم يزالوا هكذا: كلما لم يوافقوهم أميرهم عزلوه.

وكان هؤلاء التوارك من بقايا البربر الذين انتشروا أيام فتح إفريقية.

والبربر: امة من ولد إبراهيم.

وقيل: من ولد يافث.

وقيل: من يأجوج ومأجوج الذين سدهم ذو القرنين، وقد خرجت منهم طائفة يغيرون فسد من دونهم، فبغوا وتناكحوا مع الترك والتتار.

وقيل: هم من ولد الجان. ذهبت رفقة إلى بيت المقدس، فباتوا في قاع، فأصبحوا وقد حملت نساؤهم من جان تلك البقعة، فولدتهم، وهم أمة جبلوا على سفك الدماء ونهب الأموال والحرابة.

وقيل: إنهم هم الذين قتلوا النبي حنظلة، عليه الصلاة والسلام.

وقيل: إنهم الذين قتلوا النبيين: زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام. وهم الذين بغوا على بني إسرائيل، فأخرجوهم من ديارهم، حتى قاتلهم طالوت، فقتل داود أميرهم جالوت، حتى كان من أمرهم ما كان. وكانوا إذ ذاك بفلسطين، فخرجوا منها متوجهين إلى المغرب، حتى انتهوا إلى ألوبية ومراقبة، وهما كورتان من كور مصر الغربية، مما تشرب من ماء السماء، ولا ينالوها ماء النيل، فتفرقوا هنالك، فتقدمت زناتة ومغيلة إلى المغرب، وسكنوا الجبال، وتقدمت لواته، فسكنت أرش أنطايلس وهي برقة وتفرقت في هذا المغرب، وانتشروا حتى بلغوا السوس.

ونزلت هوارة مدينة البدوة، ونزلت نفوسة مدينة صبرة، وجلا من كان بها من الروم من أجل ذلك.

وأقام الأفارق-وكانوا خدماء الروم-على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم، وهم بنو فارق بن ينصر بن حام.

ولنرجع إلى تقرير هذا الإقليم.

وزعما أنه لما افتتحت إفريقية انتشر من فيها من البربر، وساروا إلى المغرب، واستوطنوا تونس، وانتشر من تونس قبائلهم إلى المغرب، وسار بعضهم إلى الغرب الجنوبي، الضارب في بلاد السودان، فاستوطنوا الأوجل وفزان وغدامس وغات.

هذه القبائل الخمس المذكورة، وافوا من الأوجل، واستوطنوا هذا الإقليم ونفوا من بها من السودانيين.

وكان الإسلام انتشر في هذا الإقليم كثيراً، وظهر في أهله البركة والخير كثيراً، وكان منهم العلماء والأولياء ممن لا يحصيهم إلا الله، وضاعوا لعدم تسجيل التأريخ في هذه البلاد، كما قدمنا، ولكن نذكر طرف في الإشارة إليهم:

فمنهم الأستاذ الفقيه العاقب بن عبد الله الأنصمني المسوفي، قال أحمد بن بابا في "كفاية المحتاج في معرفة من ليس في الديباج": العاقب بن عبد الله الأنصمني المسوفي من أهل تكدة قرية عمرها صنهاجة، قرب السودان، فقيه نبيه، ذكي الفهم، وقاد الذهن، مشتغل بالعلم، في لسانه ذرابة، له تعاليق، من أحسنها كلامه على قول خليل: "وخصصت نية الحالف"، وهو حسن مفيد، لخصته مع كلام غيره في جزء سميته "تنبيه الواقف على تحرير: وخصصت نية الخالف".

وله جزء في جواب الجمعة في قرية أنصمن. خالفه فيه غيره، والصواب معه، والجواب المحدود عن أسئلة القاضي محمد بن محمود، وأجوبة الفقير، عن أجوبة الأمير، أجاب فيها أسكيا الحاج محمد. وله غيرها.

أخذ عن المغيلي والجلال السيوطي، وغيرهما.

وقع له نزاع مع مخلوف البلبالي في مسائل.

كان حياً قرب الخمسين وتسعمائة.

ومنهم الأستاذ النجيب بن محمد شمس الدين التكداوي الأنصمني. قال أحمد بابا في الكتاب المذكور: هو من شيوخ العصر، معه فقه وصلاح، شرح مختصر خليل بشرحين: كبير في أربعة أسفار، وآخر في سفرين.

وله تعليق على تخميس عشرينيات الفازازي لابن مهيب في مدحه صلى الله عليه وسلم.

أخذ عن أحمد سحولية، وهو الآن بالحياة، كبير السن.

ومنهم الشيخ الإمام العالم الرباني سيدي محمود البغدادي، ذو المناقب الكثيرة، والكرامة الأثيرة، فريد الدهر، ووحيد العصر، القطب، محيي السنة، وقامع البدعة، والداعي إلى الحق، المتكلم بكلام الأولياء، سلطان الطريقة، وبرهان الشريعة، مستغرق الوقت في العبادة والأذكار.

دخل بلاد آهير، مسرجاً بالنور والهداية، وهرع إليه للاقتباس من نوره وهدايته من يرى اضطراره وافتقاره إلى من ينقذه من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلم إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن التشاغل لغير الله إلى التشاغل بالله، ومن الهوا إلى التقوى، رحمهم الله وغفر لهم.

وأخذ عنه أصحابه، وتمشيخ [تمشى؟] على يده خلائق، واقتبس من نوره شيوخ جلة [جيله؟]، وبقي آثار بركاته وبركاتهم.

وكان أصحابه يجلونه، ويعظمونه تعظيماً، ويدعون له أن [أنه] المهدي المنتظر، ويروون فيه أحاديث، كلها قريب من الوضع، والله أعلم.

بيد أنه عالم رباني، وغوث صمداني، بشر به أولياء الله قبل ظهوره.

فكان من أخلاق أهل هذا البلد التجمد على العوائد الردية، وتقديمها على الكتاب والسنة، وأقبح ما يكون منها أنه إذا ظهر فيهم عالم أو ولي، ثم توفي، أقاموا من ذريته أحداً مقامه، واقتدوا به كما كانوا يقتدون بذلك العالم والولي وأشد، وإن كان جاهلاً لا يعرف شيئاً، وربما كان كافراً. ولا يستطيع أحد أن يبطل هذه العادة فيهم، لشدة رسوخها فيهم، فصدق ما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسألوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".

وكانت هذه العادة حقيقاً إزالتها.

ومن أقبحها أن طائفة منهم لا يتوارثون على مقتضى الكتاب والسنة، وإنما يرث عندهم ابن الأخت.

ومن عوائدهم القبيحة المخالفة للشريعة عدم القصاص على مقتضى الكتاب والسنة، فإذا قتل منهم قتيل قتلوا من قبيلة القاتل نفساً، كما كان الأولون يفعلون.

ومن عوائدهم الذميمة عزل السلطان بغير موجب شرعي، حتى أدى إلى ضعف سلطنتهم، وانتشار الحرابة في بلدتهم، حتى لا يكاد تنضبط أمورهم البتة. ومنها غير ذلك مما لا يعد ولا يحصى.

الفصل السابع
في بلاد حوس، وإقليمها وساكنيها

ويلي هذا البلد من جهة اليمين، وغربي برنو بلد حوس، وهو سبعة أقاليم، لسانهم واحد، وعلى كل إقليم أمير نظير للآخر قبل هذا الجهاد. وأوسطها كاشنة، وأوسعها زكزك، وأجدبها غوبر، وأبركها كنوا.

وهي بلاد ذات أنهار وأشجار ورمال وجبال وأودية وغياض، يعمرها السودانيون من مماليك البربر، من أهل برنوا، والفلاتيون، والتواركيون.

نزعموا أن عبداً لسلطان برنوا يقال له باو، هو الذي ولد السودانيين من أهل هذا البلد، ولذلك قلنا: إنهم من مماليك البربر، من أهل برنوا.

وحدثني الأخ أمير المؤمنين محمد الباقري بن السلطان محمد العادل، أن كاشنه وكنوا وزكزك ودورونه وبربم، كلهم من ولد باو الذي هو مملوك سلطان برنوا. وأما أهل غوبر فهم أحرار من أصلهم، خرجوا من مصر، وهم من بقايا القبط، وتوجهوا إلى المغرب، هكذا وجدت في التأريخ عندهم.

وهذه الأقاليم السبعة قد كان فيها من العجائب والغرائب أمور كثيرة. وأول من استقرت له الدولة فيها-على ما زعموا-آمنة بنت أمير زكزك. غزت هذه البلاد واستولت عليها قهراً، حتى أدى إليها الخراج من كاشنة وكنوا، وغزت في بلاد باوش حتى وصلت البحر المحيط، من جانب اليمن والغرب، وتوفيت بألتاغر-بفتح الهمزة والتاء مع التشديد وفتح الغين.

ولهذا كانت زكزك أوسع بلاد حوس، إذ فيها أقاليم باوش كثير، وهو أقاليم يعمرها أجلاف السودان، فمن تلك الأقاليم إقليم غوار-بضم الغين وفتح الواو. وهي سبعة أقاليم، لسانهم واحد، وهم من أجلاف السودان ولم ينتشر فيهم الإسلام.

ومن تلك الأقاليم إقليم أتاغر، وهو إقليم واسع، وبجنبهم مرسى ويروى-بكسر الياء وضم الواو، ودوم-بضم الدال، ويسكوا-بفتح الياء وإسكان السين وضم الكاف، وكتوا-بضم الكاف والتاء على لإشمام، وأدام-بفتح الهمزة والدال، وكتوا آخرو بها معدن الصفر والشبه، وكرنرف-بضم الكاف والراء وإسكان النون مع ضم الراء.

وههذا الأقاليم يشتمل على نحو عشرين إقليماً، سلطانهم واحد، وهو سلطان كرنرف، وهبت له الدولة فيما مضى، حتى ملك هذه الأقاليم التي هي نحو عشرين.

وغزا كتوا وبرنوا، فخرب كثيراً.

وفي هذا البلد معدن الكحل والذهب والملح، وفي جنبهم مرسى سفن النصارى من ملكان الذين يتجرون في السودان.

ومن تلك الأقاليم إقليم أتاغر، وهو إقليم واسع، وبجنبهم مرسى السفن من هؤلاء النصارى المذكورين، وهذا البلد والذي قبله على شاطئ البحر المحيط، وهذه الأقاليم المذكورة كلها في إقليم زكزك، ولم ينتشر فيها الإسلام قبل هذا الجهاد.

الفصل الثامن
في الأقاليم السبعة التي تقرب من كاشنة وغوبر، وسكانيها

وبقرب كاشنة وغوبر سبعة أقاليم كلها مندرجة في الأقاليم السبعة المذكورة آنفاً التي هي حوس، وهي بلد زنفر، وكب، وياور، ونفي، ويرب، وبرغ، وغرم. وعلى كل بلد أمير نظير للآخر.

فأما بلد زنفر-بفتح الزاي وإسكان النون وفتح الفاء-فأصل أهلها-على ما زعموا-أن أباهم كشناوي وأمهم غوبوية، هبت له الدولة بعد ضعف شوكة أهل كب، فقام منهم سلطان يقال له يعقوب بن بب-بفتح الباء، فخرب ديار كب، واستولى على أكثر بلاد كب، وقام على كاشنة، واستولى على بعضها، ثم ضعفت شوكتهم، وقام عليهم سلطان غوبر باباري، فخرب ديارهم، وعقبها لبنيه خمسين سنة، فقام عليهم هذا الجهاد.

وأما بلد كب-بفتح الكاف-فأصل أهلها، على ما زعموا، أن أمهم كشناوية، وأبوهم من أهل سنفي، وهي بلاد واسعة ذال أنهار وأشجار ورمال، هبت لهم دولة أيام كنب-بفتح الكاف وسكون النون وفتح التاء، ويقال إنه عبد للفلاتيين، قام وقهر البلاد وملك الأقاصي منها والدواني. ويقال إنه ملك كاشنة، وكنو، وغوبر، وزكزك، وبلاد آهير، وبعض سنفي، وغزا برنوا.

وسبب غزوه لأرض برنوا، على ما قيل، أن أمير برنوا ميعلي استغاث به أمير آهير على سلطان كب، لأجل ما شدد عليهم، فخرج ميعلي من برنوا غازيا، فسلك طريق سو سوباد حتى سلك شمال دور وكاشنة، ويمين غوبر، ودخل بلاد كب، حتى وصل إلى حصن سورام-بضم السين. فتلقاه سلطان كب صباح العيد، فاقتتلا ساعة، فهزم سلطان كب للغرب، وبقي سلطان برنوا هناك ليقاتل الحصن، فاستصعب عليه الحصن، فكر راجعاً. فسلك اليمين حتى وصل غند-بفتح الغين وإسكان النون، ومر راجعاً إلى بلده. ثم أنشأ كنت جيشاً واقتفى آثاره حتى وصل أنغر-بضم الهمزة وسكون النون وضم الغين. فتلقاه البراون، وهزم من جنودهم نحو سبعة، وغنم فيهم كثيراً، ثم كر راجعاً حتى وصل إلى موضع يقال له دغل-بضم الدال والغين وإسكان اللام-من ناحية كاشنة، وبها طائفة باغية عليه، فقاتلهم أشد قتال، حتى رموه بسهم. فكر راجعاً حتى وصل إلى موضع يقال له جرو-بكسر الجيم وإسكان الراء-فتوفي بها، وحمله قومه ودفنوه بدار سورام.

وكانت له ثلاثة أمصار، أقدمها بلد غنغ-بضم الغين وإسكان النون، ثم سورام، ثم بيك-بكسر اللام. وتمكنت دولتهم فيها، بل لا يوجد بهذه البلاد دولة أعظم منها فيما مضى. وهذه آثارهم ما رؤي مثلها في هذه البلاد، وقد مضى من خرابها نحو من مائة عام.

وقد بقيت دولتهم بعد كنت نحواً من مائة عام، ولم تضعف شوكتهم حتى قام عليهم سلطان غوبر محمد بن شروم، وأغب-بفتح الهمزة والغين-ابن محمد بن المبارك، سلطان آهير، وأمير زنفر. واستولى على معظم البلد أمير زنفر، والستولى كل على ما يلي بلده، وهو الذي خرب هذه الأمصار الثلاثة، كما ذكرنا قبل.

وأما ياور فبلدة ذات جبال وأودية على شاطئ البحر الذي يقال له النيل، ويعمرها أجلاف السودان الذين هم ضعاف العقول. وقد تولى عليهم السلطان العادل المعروف بسوت، وردهم عن الكفر إلى دين اللإسلام وعن العبناد إلى الرشاد، فانتشر بسببه الإسلام فيها. هكذا وجدت في كتاب الأستاذ محمد الوالي "النصائح" الذي ألفه لأجله.

وأما بلد نوف، فبلد ذو أنهار وأشجار، ورمال وجبال، من جانبه الأيمن والأيسر، يعمرها أجلاف السودان، ويقال أنهم من كاشنة أصلهم، والصحيح أنهم أخلاط من كاشنة وزكزك وكنوا وغيرهم، ولهم لسان غير لسان أهل حوس.

وكان أهل البلد محترفين جداً وفيهم الصنائع العجيبة، وفي بلادهم الأمور البديعة، ويجلب من بلدهم الطرائف الغريبة، وكأن بلدهم إنما اقتطعت من بلاد الريف، وتولى عليهم فيما مضى السلطان العادل جبريل، وانتشر الإسلام بسببه، فأبغضوه لشدة رسوخه في أمر الدين، وعزلوه وولوا عليهم من يناسبهم في جنونهم ومجونهم.

وأما بلد يرب فبلدة واسعة ذات أنهار وأشجار، ورمال وجبال، فمنها الأخبار العجيبة، والأمور الغريبة. بجنبهم مرسى السفن للنصارى المذكورين.

وأهل هذا البلد، على ما يقال، إنهم من بقايا بني كنعان الذين هم عشيرة نمرود.

وسبب مقامهم بالمغرب' على ما قيل، أن يعرب بن قحطان هو الذي طردهم من العراق إلى المغرب. فسلكوا بين مصر والحبشة، حتى وصلوا إلى يرب، وكانوا يخلفون في كل بلد طائفة منهم، ويقال أن أجلاف السودان الذين يعمرون جوف الجبال، كلهم منهم، وكذا أهل باوور. وهذا البلد يقرب وصف أهله بأهل نفي.

ومن بلادهم يجلب هذا الطير الأخضر الذي هو ببغاء ناظق، وفي هذا البلد أخبار عجيبة ذكرها محمد مسنة، صاحب النفحة العنبرية في "أزهار الربا، في أخبار يريي".

وكان أهل هذا البلد يجلب لهم العبيد من بلادنا هذه، ويبيعونهم للنصارى المذكورين. وإنما ذكرت لك هذه القضية، لئلا تبيع عبداً مسلماً لمن يجلبه إليها، وقد عمت البلوى بذلك.

وأما بلد برغ، فبلدة ذات أشجار ورمال، يعمرها أجلاف السودان، ويقال أنهم من عبيد الفلاتيين الذين خلفوا وراء النهر، حين جاوزوا البحر وانتشروا في هذه البلاد، وهؤلاء السودانيون عتاة مردة فيهم السحر الكثير.

ويقال أن الأمير العادل الحاج محمد أسكيا حين استولى على هذه البلاد، غزاهم ولم ينجع فيهم شيئاً، واستصعبوا عليه.

وأما بلد غرم، فهي بلدة واسعة ذات أنهار وأشجار ورمال وجبال، يقرب وصفهم من وصف أهل برغ، بيد أنهم سراق فجار، وبلدهم أوسع من بلد برغ.

وبجنبهم بلد يقال له موش-بضم الميم، بلدة واسعة ذات أنهار وأشجار، يعمرها أجلاف السودان، وفيها معدن الذهب.

الفصل التاسع
في تراجم بعض علماء الأقاليم السبعة

من علماء هذه الأقاليم السبعة المذكورة آنفاً التي هي: دور، وكاشنة، وكنو، وغوبر، وزكزك-الشيخ الإمام العالم العلامة، التحرير الفهامة، فريد دهره، ووحيد عصره، عبد الله سك، الفلاتي البغاوي، رحل في طلب العل إلى أقدر، وإلى فزان، وأخذ عن ابن غانم، ثم أخذ عن الشيخ البكري، ثم رجع لبلاده، وتصدى للإقراء. وأخذ عنه محمد البغاوي، والقاضي موسى غبر السوداني.

وله مع شيخه البكري جزء يسير في مجاوبته، حيث كفر الشيخ الفلاتيين، من أجل العادة التي يفعلونها في الصحارى قبل ظهور الشيخ، وهي أن يجتمعوا ويخرجوا مع أولادهم الصغار، حتى ينتهوا إلى موضع بعيد من العمارة، ثم يعقدوا على رؤوس أولادهم ما يعقدون، ثم يوقدوا ناراً عظيمة، ويذبحوا البقر ما استطاعوا، ويغرزوا اللحم حول النار. فإذا حان وقت السحر جاء أولادهم الكبار، وهم واقفون، وبأيديهم عصى فيجعلون يضربونهم، حتى ينتهى أولئك الأولاد إلى النار واللحم، ثم يطوفون بالنار هم وأولادهم، وهم يقولون: نحن وداعة الله، ثم وداعتك أيها النار، وأنت أبونا وأمنا، وبعضهم يرقص عليها، وبعضهم يقعد عليها فلا تضره. ثم يأكلون لحومهم، هم وأولادهم الكبار والصغار، ثم إذا أصبحوا قام خطباؤهم وتكلموا بكلام يرونه بليغاً عندهم، وأدبوا أولادهم بما يرونه أدباً.

وكان الشيخ البكري يرى تكفيرهم. وكان هذا الشيخ يرى عدم تكفيرهم، ويرى أن ذلك من المعاصي، لأنهم يقرون بالتوحيد، ولا يعتقدون الإشراك مع الله في شيء، ويصلون ويصومون.

ولكن الصواب مع الشيخ البكري، إذ التكفير في ظاهر الشرع يكون بأدنى من ذلك، والله أعلم.

وفي هذا الشيخ يقول الشاعر:
مدينة العلم عبد الله ذاك سكا وفي التعدد خذ من بعده عسرا

* * *

من علماء هذه البلاد الإمام العالم العلامة محمد الكشناوي الفلاتي، رحل للشرق، وحج وجاور الحرمين، ورجع لمصر، وتوفي بها.

ويقال أنه أقر له بالعلم والفضل علماء الحرمين ومصر.

ومنهم القاضي محمد بن أحمد بن أبي محمد التاذختي. قال أحمد باب، في كفاية المحتاج: عرف بأيد أحمد-بهمزة مفتوحة وياء ساكنة فدال مفتوحة، مضافاً لاسم أحمد، ومعناه: ابن. كان فقيهاً عالماً، فهاماً محدثاً، متفنناً محصلاً، جيد الحفظ، حسن الفهم، كثير المنازعة.

وقرأ ببلده على جده الفقيه الحاج أحمد بن عمر، وعلى خاله الفقيه الصالح علي، ولقي بتكدة الإمام المغيلي وحضر دروسه، ثم رحل للشرق صحبة سيدنا الفقيه محمود، فلقي أجلاء، كشيخ الإسلام زكرياء، والبرهانين: القلقشندي، وابن أبي شريف، وعبد الحق السنباطي وجماعة. فأخذ عنهم علم الحديث، وسمع وروى، وحضر دروس الأخوين اللقانيين، وتصاحب مع أحمد بن عبد الحق السنباطي. وأجازه من مكة أبو البركات التويري، وابن عمه عبد القادر، وعلي بن ناصر الحجازي، وأبو الطيب البستي، وغيرهم.

ثم رجع لبلاد السودان، وتوطن كاشنة، فأكرمه صاحبها، وولاه قضاءها.

وتوفي في حدود ست وثلاثين وتسعمائة، عن نيف وستين سنة.

له تقاييد وطرر على مختصر الشيخ خليل.

* * *

ومنهم الشيخ الأستاذ المكاشف المعروف بابن الصباغ، دهليز العلم، له تآليف: منها شرحه على عشرينيات الفازاري، ولكن لم يشتهر.

ومنهم الشيخ العام العلامة التحرير محمد مسنة، له تواليف تدل على وفور علمه، منها النفح العنبرية في شرح العشرينية، وبزوغ الشمسة في شرح العشماوية، وأزهار البر في أخبار يربي. أخذ عن ابن الصباغ.

ومنهم هاشم وابن تاكم، من جلة زمانهما، وفيهما يقول الأستاذ الطاهر بن إبراهيم، من قصيدة له:
أيدري زماني هاشما وابن تاكما أتاكم بريق هاشما ما أتاكما

ومنهم الشيخ هارون الزكزكي، شيخ الشيوخ الفلاتي، وعنه أخذ الشيخ رمضان. ومنهم الشيخ العلامة رمضان بن أحمد، وكان أصله من فزانن، استوطن زنفر، وله قصائد وتواليف، منها: نظمه على رواة البخاري، أي رواية الفروع عن الأصول. ومنها الجوهرة في ذم علم النجوم.

ومنهم الشيخ العالم العلامة، والتحرير الفهامة، البليغ عمر بن محمد ابن أبي بكر الترودي. وكان أصله من ركب، وله بها آثار. كان فقيهاً جليلاً، عالماً صدراً شهيراً، ماجداً فاضلاً أصيلاً،من بيت علم ودين.

له تقاييد وأشعار: تخميس على الكواكب الدرية للبوصيري، وله نخميس على "بانت سعاد" وله تقاييد وأشعار.

ومن كلامه رحمه الله ما كتبه لبعض الإخوان نصحاً له، وبياناً لما لا يعتمد عليه من الكتب فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد، فالكتب التي لا ينبغي مطالعتها، والاشتغال بها، لكون أكثر ما فيها ضعيفاً وباطلاً، ولكون الأحاديث والآثار التي فيها موضوعات كثيرة في أيدي الناس، منها:
  1. كتاب وصية علي
  2. وكتاب وصية فاطمة
  3. وكتاب وصية أبي هريرة
  4. وكتاب وصية معاذ
  5. وكتاب مرضاة الرب
  6. وكتاب دقائق الأخبار
  7. وكتاب تارك الصلاة
  8. وكتاب غزوة خيبر
  9. وكتاب انشقاق القمر
  10. وكتاب وفاة بلال
  11. وكتاب شفاعة المحمود
  12. وكتاب أهوال القيامة
  13. وكتاب صفة الجنة
  14. وكتاب كلام البهائم
  15. وكتاب الجمعة
  16. وكتاب المعراج الكبير
  17. والصغير معاً
  18. وكتاب المرشد الذي أوله أربعة جواهر في نبي آدم يزيلها أربعة.. إلخ
  19. وكتاب أربعين حديثاً الذي أوله: لكل شيء مهر، ومهر الجنة ترك الدنيا
  20. وكتاب قصة الغلام
  21. وكتاب قصة القاضي مع السارق
  22. وكتاب قصة الجارية مع أبي حازم
  23. وكتاب قصة العصفور
  24. وكتاب العلم النافع الذي أكثر تراجمه: أيش كذا
  25. وكاب آداب العلماء
  26. وكتاب السبعيات في قصص الأنبياء
  27. وكتاب مناجاة موسى
  1. وكتاب بريد من شرح الرسالة
  2. وكتاب الوحشي
  3. وكتاب غريب، كلاهما شرح الشهاب
  4. وكتاب الريح الأحمر
  5. وكتاب شمس المعارف
  6. وكتاب قصة الدعاء المبارك
  7. وكتاب ذكر الخميس
  8. وكتاب الياقوتة
  9. وكتاب النفخ والتسوية
  10. وكتاب الباجي الذي أكثر ما فيها: فإن قيل لك كذا وكذا فقل: كذا وكذا
  11. وكتاب فتح مكة، وهو سفر كبير مجلد
  12. وكتاب غزوة سيسيان
  13. وكتاب فقه الدين
  14. وكتاب إفحام الخصم في إباحة الدخان
  15. وكتاب التبيين في المواعظ
  16. وكتاب سؤالات الراهب
  17. وكتاب من شرح البسملة
  18. وكتاب الطير، وما أبطله
  19. والكتاب المعروف بجامع الكبير
  20. وكتاب المنتقي، ولا أعني شرح الشهاب، بل مجلداً كثير الأسانيد
  21. وكتاب فضائل رمضان
  22. وكتاب فضائل ليلة القدر
  23. وكتاب الفصول
  24. وكتاب نصيحة إبليس
  25. وكتاب صلوات الليالي الفاضلة
  26. وكتاب فضائل سور القرآن، سورة سورة
  27. وكتاب الثعالبي

هذا ما به الفتوى عند العلماء.

رحل من بلده للشرق طلباً للحج، وحبسته الأعذار، وسكن برايازاكي-بفتح الباء وفتح الراء وبعدها ألف، وفتح الياء وبعدها ألف وزاء، والف بعد الزاي وكسر الكاف.

وبها قبره ظاهراً يزار، وقد زرته مراراً.

ومنهم الشيخ علي جب، العلامة المشهور المكاشف، له شرح على الكبرى، وشرح على لامية الأفعال. كان فاضلاً حسن الخلق والخلق، ساعياً في الدعوة إلى الله، مجتهداً فيها، معظماً عند الخاصة والعامة، شيخ الشيوخ. أخذ عنه العلامة النظار المحقق الأصولي المتفنن أحمد بن غار.

وأخذ عنه الأستاذ جبريل بن عمر، وأخذ عنه جلة من العلماء، وحصلت في حضرته بركة عظيمة. وتعزى إليه الكرامات.

توفي بمارنونا-بفحت اميم وألف بعده وراء مفتوحة ونون مضمومة، وبها قبره ظاهر يزار.

ومنهم الأستاذ جبريل بن عمر، شيخ الإسلام العلامة المحقق، القدوة النظار الصالح البركة الحاج، قال الوالد في شفاه الغليل في حل ما أشكل من كلام شيخنا جبريل-وهو يعد فضائله-فقال: "ليعلم أهل بلادنا السودانية هذه، بعض ما أنعم الله عليهم، ليجتهدوا في شكر الله تعالى، على وجود هذا الشيخ في هذا البلد، فيستوجبوا المزيد". فأقول وبالله التوفيق.

ومن فضائله رضي الله عنه أنه كان ممن حمل لواء العلم في زمانه، فشرف بزيارة بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين.

ومن فضائله رضي الله عنه أنه بلغ الغاية في الاشتغال بالكتاب والسنة، وحض الناس عليهما.

ومن فضائله رضي الله عنه، أنه كان أول من قام بهدم العوائد الذميمة في بلادنا السودانية هذه، وكان كمال ذلك ببركته على أيدينا.

ومن فضائله رضي الله عنه أنه بلغ الغاية في العبادة والخلق الحسن، والغيرة على الإسلام. كان حليماً هيناً ليناً، حسن الكلام مع من لقيه، مبتسماً معه، ولا يحقد على أحد، ولا يعبس في وجهه، ويطيب كلامه لجميع الناس على طريق البسطة، حتى تظن أن كل واحد صديقه.

ومن فضائله رضي الله عنه أنه ذو بسط ودعابة، مشرف بلباس الهيبة، وهو من أعجب العجائب في شأنه.

ومن فضائله رضي الله عنه أنه بلغ الغاية في تعظيم المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى أنه قل أن يذكره إلا باسمه: أفضال الخلق.

وفضائله رضي الله عنه كثيرة لا تحصى. وفيما ذكرناه كفاؤة لمن تأمل.

ونحن بالنسبة إلى مقامه نسبة الظالع مع الصليع، ونسبة دوي الزنبور مع نغمة الزبور، فوالله لا ندري هل نهتدي إلى سبيل السنة، وترك العوائد الذميمة، لو لا تنبيه هذا الشيخ المبارك. وكل من أحيا السنة وهدم العوائد الذميمة في بلادنا السودانية هذه، فهو موجة من أمواجه، ولذلك قلت فيه شعراً:
إن قيل في بحسن الظن ما قيلا فموجة أنا من أمواج جبريلا

وهو رضي الله عنه كما قال في مدح شيخه مرتضى:
فريد الدهر فائق كل قرن عجيب شأنه في كل فن
ولو لا لا تزال لقلت لا لا وجود لمثله في كل قرن

وأنا أقول أيضاً:
شيخ الشيوخ بأرضنا جبريل بركاته ما نالها تفصيل
كشفت به ظلم الضلال كأنه في كشفها ببلادنا قنديل

ولأستاذنا العم عبد الله بن محمد:
جبريل من جبر الإله به لنا دينا حنيفا مستقيم المنهج
شمس الضحى بزغت بغرب فانتهت للشرق تشرق للقريش وخزرج

وأخذ عن هذا الشيخ الأستاذ المذكور

وأخذ عنه أيضاً العلامة المشارك، التقي النقي المتفنن الأصولي، المصطفى بن الحاج عثمان.

وأخذ عنه أيضاً العلامة المشارك الراوية محمد الفربري بن محمد، وانتفع به خلائق كثيرون. وآثار بركاته في هذه الديار باقية.

وبالجلمة فهو شيخ الشيوخ، وصاحب التمكين والرسوخ، علم صدر متقن.

وأخذ عن الشيخين النبيلين، الأخوين المتفننين، الأصوليين، العلامتين، النظارين، الفاضلين: أبي بكر وأخيه علي ابني الحاج عثمان، توفي أحدهما بفزان، وقد حج أبو بكر مرتين.

وأخذ أيضاً عن محمد بن الحاج المتفنن حسن الخط، ورحل معه إلى الحج، وتوفي هناك.

وقد لقيا: هو وشيخنا يوسف الحفناوي، وأخذا عنه، وقد أشار إلى موت أحدهما. ومات محمد بن الحاج، ورجع هو لبلده، ثم رجع للحج ثانياً، ولقي الشيخ مرتضى وأخذ عنه، ورجع لبلده، وتوفي بها.

ومنهم شيخ الشيوخ الفقيه المهيب محمد المنقوري. نقل مختصر خليل، ومهر جداً، وتصدر للتدريس، فأخذ عنه جماعة، منهم: قاضي القضاة شعيب، وقاضي القضاة محمد سنب، وقاضي القضاة البركة إبراهيم البرتاوي، والعلامة عياض إسحاق، وقاضي القضاة أبو بكر.

وظهر في طلبته البركة الكثيرة، انتفع بها المسلمون وبهم.

توفي بمرنون-بفتح الميم، وإسكان الراء ونون بعده واو ونون، وبها قبره يزار، وقد زرته مرتين: مرة مع الوالد.

الفصل العاشر
في ترجمة والد المؤلف
رضي الله عنهما

ومنهم شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، العالم الرباني، والغوي الصمداني، علامة الدنيا، وطالع المرتبة العليا، أبو محمد عثمان بن محمد ابن عثمان، المعروف بابن فودي والدي. أطال الله حياته، وجعل العاقبة خيراً له.

بشر به أولياء الله قبل ظهوره. من ذلك ما تقدم عن الشيخ ولديد، والشيخ الطاهر.

ومن ذلك ما روى الثقاة عن أم هانئ الصالحة الولية الفلاتية، أنها قالت: يظهر في هذا القطر السوداني ولي من أولياء الله، يجدد الدين، ويحيي السنة، ويقيم الملة، ويتبعه الموفقون، ويشتهر في الآفاق ذكره، ويقتدي العام والخاص بأمره، ويشتهر المنتسبون إليه بالجماعة. ومن علامتهم أنهم لا يعتنون برعي البقر كعادة الفلاتيين، ومن أدرك ذلك الزمان فليتبعه.

والحاصل أنه قد تفرس فيه أولياء الله كثيراً، وأخبروا بشأنه وأمره قبل ظهوره وحين ظهوره.

واعلم أن هذا الشيخ نشأ من صغره في الدعوة إلى الله، وقد أمده الله تعالى بأنوار الفيض، وجذبه إلى حضرته، وكشف له عن حضرة الأفعال والأسماء والصفات، وأشهده غرائب الذات. فصار بحمد الله بين أولياء الله، يكرع من كأسات القرب، ويكتسي من حلل العرفان والحب. وقلده الحق تعالى تاج العناية والهداية، وأهله للدعوة إليه، وإرشاد العامة والخاصة.

وأخبرني أنه حين حصل له الجذب الإلهي، ببركة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان يواظب عليها من غير ملل ولا كلال ولا فترة، أمده الله بفيض الأنوار، بواسطة الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنه، وجده الرسول صلى الله عليه وسلم، فشاهد من عجائب الملكوت وحصل على غرائب الجبروت، وشاهد أفعال الأسماء والصفات والذات، ووقف على اللوح المحفوظ، وفك رمزه الملحوظ. وكساه الحق تعالى حلة الدعوة إليه، وتوجه تاج الهداية والإرشاد إليه، فنادى منادي الحضرة: يا أيها الناس أجيبوا داعي الله، مرات، ثم قال: "يؤفك عنه من أفك".

ثم رده الحق تعالى إلى محل الإفاقة، ليتأتى له الإرشاد والدعوة، وربما تعاهدته أنوار الجلال فقبضته، أو تفقدته أنوار الجمال فبسطته، مع أنه من أهل التمكين والمقامات، لا من أهل الأحوال والواردات. فقام بما قلده الحق به، وأهله من الدعوة إليه، والدلالة عليه، فجعل يدعو إلى الله ويدل عليه، ويكابد ما هو المعهود من أخلاق الناس من الجفاء والإنكار والاستهزاء، ولم يزل يجتهد ويحدثهم بقدر عقولهم ويلاطفهم. وقد لقي من جفائهم ما لا يستطيع أن يصفه الواصف، حتى أتاح الله له أن صمد إليه الموفقون، واستمع إليه نفر من المؤمنين. فجعل يقرر للناس الحق، ويبين لهم الطريق.

وقد وجد في هذه البلااد من أنواع اكفر والقسوق والعصيان أموراً فظيعة، وأحوالاً شنيعة، طبقت هذه البلاد وملأتها، حتى لا يكاد يوجد في هذه البلاد من صح إيمانه وتعبد إلا النادر القليل، ولا يوجد في غالبهم من يعرف التوحيد، ويحسن الوضوء والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات:

فمنهم كفار يعبدون الأحجار والجن، ويصرحون على أنفسهم بالكفر، ولا يصلون ولا يصومون ولا يزكون، ويسبون الله ويقولون في حقه ما لا يليق في جنابه الأعلى، وهؤلاء غالب عامة السودانيين الذين لهم "ماغنداوا" [Maguzawa] وبعض عتاة الفلاتيين والتوارك.

ومنهم قوم يقرون بالتوحيد، ويصلون ويصومون ويزكون من غير استكمال شروط، بل يأتون في ذلك كله بالرسم والعالامة، مع أنهم يخلطون هذه الأعمال بأعمال الكفر الذي ورثوه من آبائهم وأجدادهم، وبعضهم من قبل نفسه، وعلى هؤلاء يحمل قول الشيخ جبريل بن عمر في قصيدته:
وبعد فاعلم أن ذا تبصرة للناس في السودان بل تذكرة
فلا ترى منهم سوى من يدعي إسلامه بفمه الموسع
مستترا بالصوم والصلاة عن قدحه بأقبح اللعنات
فهو حقا كافر صريح لأنه محرم مبيح
في الخوض دائم ومستمر في عقيدة خالفها الجمع والوفي
عمٍ عن الحديث والكتاب وما له قال ذوو الألباب
راض بحكم الجاهلية التي أزالها الله بوضع الشرعة
حير أفكار صغار العلم فحكموا إسلامهم بالوهم
ما بينهم وبين أهل الشرق [شرك؟] تفرقة لاحت لأهل الحق
وذاك يستبين بالظواهر يدركه فيهم ذوو البصائر
يدرك بالخبرة والتجربة بأفعال تظهر للأبصرة
ما لم يكن بفعله إلا الذي كفر أنه بالإجماع يحتذي
فمن أتاه كافر مرتد كذاك كفرانا بواحا عد

وغالب ملوك هذه البلاد وجنودهم وأطباؤهم وعملاؤهم من هذا القبيل.

ومنهم قوم يقرون بالتوحيد، ويصلون ويصومون ويزكون من غير استكمال شروط كما مر مع أنهم مقيمون على عوائد ردية، وبدع شيطانية.

ومنهم منهمكون في المعاصي الجاهلية متأنسين بها، دارين فيها مجرى المباحات، حتى كأنها لم يرد فيها نهي، وهي خصال كثيرة أقاموا عليها، وهؤلاء أكثر عامة الفلاتيين، وبعض مسلمي السودانيين، إذ قد مر أن غالبه كفار بالأصالة، وبعضهم بالتخليط

ومنهم قوم مؤمنون عارفون بالتوحيد كما ينبغي، محسنون للوضوء والغسل والصلاة والزكاة والصيام، عاملين بذلك كما ينبغي، وهؤلاء النادر القليل كما مر.

ولما قام هذا الشيخ يدعو إلى الله، وينصح لعباده في دين الله، ويهدم العوائد الردية، ويخمد البدع الشيطانية، ويحيي السنة المحمدية، ويعلم الناس فروض الأعيان ويدلهم على الله، ويرشدهم إلى طاعته، ويكشف لهم ظلم الجهالات، ويزيل لهم الإشكالات، وقد وجد هذه الطوائف المذكورة على هذه الحالات، فسارع إليه الموفقون، وصمد إليه السعداء المهتدون، فجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وترادفت إليه الوفود أمواجاً، ويقرر لهم الطريق، ويبين لهم الحق، وفي ذلك يقول الأستاذ أخوه عبد الله:
عثمان من قد جاءنا في ظلمة فأزاح عنا كل أسود دجدج
ودعا إلى دين الإله ولم يخف في ذاك لومة لائم أو فجفج
فأنصات خلق حين صات لصوته وعلا له صيت فويق الأبرج
بشرى لأمة أحمد ببلادنا الســــ ودان في هذا الزمان المبهج
كم سنة أحييتها وضلالة أخمدتها جمرا ذكا بتأجج
وظللت في أرض عوائدها عدت وتخالفت سنن النبي الأبهج
استعظمتها أهلها فاستأسدت وصدت دوين الدين باب الولج
فاستنسرت بغثانها وتنمرت جرذانها ترمي بنصل سلمج
من أراد دين الله يمحو عزه فقمعته قمع القوى الأولج
ولكل فرعون طغى موسى سطا وقضية عاصت على تنفج
فأبيض وجه الدين بعد محاقه وأسود وجه الكفر بعد تبلج
والدين في عز ونهج منهج والكفر في ذل ونهج منهج
والسنة الغراء صبح ينجلي والبعدعة السوداء ليل يدجي
طمست معالمها وأخلق ثوبها والدين في درع يميس مدبج
وتفجرت للدين من بركاته عين الحياة تذل ماء الحشرج
فجرى مذانبب للمشارب أفهقت ماء يقول صفاؤه: هل من يجي
حتى تبرج مثل بدر طالع بليال صحو أو صباح مبلج

ثم إنه لما برز على أهل زمانه في هذا الأسلوب، أنقسم الناس فيه إلى قسمين: قسم معتقد، وقسم منكر منتقد، فأما المنكرون عليه فأشاعوا عليه ما هو المعهود من أبناء الجنس، ونسبوه إلى الأهواء والرياء وغير ذلك.
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدا وبغضا أنه لدميم

وهو في ذلك يصبر على جفاهم، ويتحمل أذاهم، ويعرض عن جهالتهم، ويتصامم عن سوء مقالتهم، قائماً بما هو في صدده من النصح والإرشاد، ودعوة الخلق إلى الله.

قال عبد الوهاب الشعراني في لواقح الأنوار: قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: قد جرت سنة الله تعالى في أنبيائه وأصفيائه أن يسلط عليهم الخلق في مبتدأ أمرهم، وفي حال نهايتهم كلما مالت قلوبهم لغير الله تعالى، ثم تكون الدولة والنصرة لهم آخر الأمر، إذا أقبلوا على الله تعالى كل الإقبال. إخر

ثم قال: وذلك لأن المريد السالك يتعذر عليه الخلوص والمسير إلى حضرة الله تعالى مع ميله إلى الخلق وركونه إلى اعتقادهم فيه، فإذا آذاه الناس وذموه ونقصوه ورموه بالبهتان والزور نفرت نفسه عنهم، ولم يصر عنده ركون إليهم البتة، وهنا يصفو له الوقت مع ربه ويصح له الإقبال عليه، لعدم التفاته إلى وراء. فافهم.

ثم إذا رجعوا بعد انتهاء سيرهم إلى إرشاد الخلق، يرجعون-وعليهم خلعة الحلم والعفو-فتحملوا أذى الخلق، ورضوا على الله تعالى في جميع ما يصدر عن عباده في حقهم، فرفع بذلك قدرهم بين عباده، وكمل بذلك أنوارهم، وحقق بذلك ميراثهم للرسل في تحمل ما يرد عليهم من أذى الخلق، وظهر بذلك تقاوت مراتبهم، فإن الرجل يبتلي على حسب دينه.

وقال الله تعالى: "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا" [الأنعام 34]. وذلك لأن الكمل لا يخلو أحدهم عن هذين الشهودين: إما أن يشهد الحق تعالى بقلبه، فهو مع الحق لا التفات له إلى عباده، وإما أن يشهد الخلق، فيجدهم عباد الله، فيكرمهم لسيدهم. وإن كان مصطلماً فلا كلام لنا معه، لزوال تكليفه حال اصطلامه، فعلم أنه لا بد لمن اقتفى آثار الأنبياء، من الأولياء والعلماء، أن يؤذوا كما أوذوا، ويقال فيهم الزور والبهتان، كما قيل فيهم، ليصبروا على الخلق كما صبروا، ويتخلقوا بالرحمة على الخلق، رضي الله عنهم أجمعين.

وكان سيدي علي الخواص رضي الله عنه يقول: لو كان كمال الدعوة إلى الله موقوفاً على إطباق الخلق على تصديقهم لكان الأولى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأنبياء قبله، وقد صدقنهم قوم هداهم الله بفضله، وحرم آخرون فأشقاهم الله بعدله.

ولما كان الأولياء اوالعلماء على أقدام الرسل، عليهم الصلاة والسلام، في مقام التأسي بهم، أنقسم الناس فيهم فريقين: فريق معتقد مصدق، وفريق منتقد مكذب، كما وقع للرسل عليهم الصلاة والسلام، فحقق الله بذلك ميراثهم.

ولا يصدقهم ويعتقد صحة علومهم إلى الله، إلا من أراد الله عز وجل أن يلحقه بهم، ولو بعد حين.

وأما المكذب لهم والمنكر عليهم، فهو مطرود عن حضرتهم، لا يزيده الله بذلك إلا بعداً. وإنما كان المعترف للأولياء والعلماء، بتخصيص الله تعالى لهم، وعنايته بهم، واصطفائه لهم قليلاً في الناس، لغلبة الجهل بطريقهم، واستيلاء الغفلة وكراهة غالب الناس أن يكون لأحد عليهم شرف بمنزلة أو اختصاص، حسداً من عند أنفسهم.

وقد نطق الكتاب العزيز بذلك في حق نوح عليه الصلاة والسلام، فقال: "وما آمن معه إلا قليل".

وقال تعالى: "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون". "ولكن أكثرا الناس لا يعلمون" [غافر 57-59]. وقال تعالى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً" [الفرقان 44]. وغير ذلك من الآيات. إخر.

كلامه في لواقح الأنوار

وهذا الذي ذكره هؤلاء الأنئمة، هو المعهود من أبناء الجنس من علماء كل عصر، ولذلك أفتى بعض الفقهاء أنه لا تقبل شهادة بعضهم على بعض لهذا المعنى.

ولا شك أنه ليس على العموم، ولكنه شائع معلوم.

ولقي هذا الشيخ من علماء عصره من الجفاء والأذية، ما الله يحصيه ويدريه، فنصره الله وأيده بطائفة من العلماء المهتدين، فصدقوه ونصروه. وفي ذلك يقول أخوه الأستاذ يحرض الإخوان في نصرته ويذكرهم منة الله التي أمتن بها عليهم في ظهوره منهم:
طربت فأشجاني الطيور الكوابح وفرحني منها الغيوث الروائح
وخوفني منها ذئاب بوارح وأمنني منها الظباء السوانح
لقول النبي: لا تزال جماعة على الحق منا أو يجيء المقارح
ألا بلغن عني لحي رسالة تعيها رجال أو نساء صوالح
لعالمهم أو طالب العلم رائم لإظهار دين الله فيه يناصح
أقول له: قم وادع للدين دعوة تجبها عوام أو خواص جحاجح
ولا تخش في إظهار دين محمد بقولة قال تأسيه كناتح
ولا تخش تكذيبا وإنكار جاحد وهزء جهول ضل والحق صابح
وغيبة هماز وضغن مشاحن يساعده من للعوائد راكح
وليس لما تبني يد الله هادم وليس لأمر الله أن جاء ضارح
وبين لهم أن العوائد بهرجت وسنتنا لاحت عليها لوائح
ولهو الشباب اليوم قد بار سوقه وقامت على سوق الصلاح المدائح
وأهل الدنا اليوم قد بار سوقه وسنتنا قد ظللتها الدوائح
ومنكر هذا الدين قد خف وزنه ومظهره ميزانه اليوم راجح
وناصره قد صار في الناس عاليا ومنكره للخاص والعام دانح
وإن إله العشر قد من منة علينا ومن يشكر فذلك رابح
ومن كفر الإنعام واتبع الهوى ففي بدئه بله القيامة طائح
وذاك بأن قد بين الدين في امرئ لنا نسبا نعلو به ونطامح
فإن نحن آويناه ننصر قوله نفز ونحز نعماه والكل فالح
وإن قد أضعناه أفاد بغيرنا مصائب قوم عند قوم مصالح
ولو نفعت قربي فقط فيه ماردي أبو طالب عم النبي، وتارح
وما ضر شمساً إن نفى العين ضوءها وما ضر حوضاً أن أبته القوامح
أطايب أرض تخرج النبت رائعا بإذن ذويها إن أفاضت دوائح
ولو همعت ديما لما أنبتت ولو بسابس نبت في الأراضي البوالح
فلا يمنع الإرشاد عدم قبولهم فمدخلهم مولاهم أنت فاتح
فإنك إن بلغتهم ضاع عذرهم فساقيهم المولى فإنك جادح
مطيع لما قد قاله سيد الورى به بلغوا عني أتته صحائح
وأمر بمعروف ونهى لمنكر على شرطه للناس بالحق قارح
وفهمهمو ما يلزم المرء عقده من الدين مما سهلته القرائح
وغسلا وضوءا أو صلاة زكاتهم وصوما وبيعا ثم كيف يناكح
وواجبها مسنونها مستحبها ومنهيها فالكل في الكتب واضح
وعلم نساء سترهم بأن ترى على غير وجه والأكف القواسح
وعلمهم الإحسان كيف يراقبو ن مولاهمو ذو جدهم والصمادح
وكيف تراعي نية في جميعها ليرعاه ذو فهم يطيعك لائح
وكيف التخلي عن صفات ذميمة وكيف التحلي بالحميدة ناصح
بنفسك فابدأ حائدا عن هوى الهوى لدي سومها ترعى وإنك كابح
أضر عدو من بدارك ساكن مطيع لشيطان وللدين قابح
سلامة عيب النفس عزت لمالها يكون خلال المنكرات المسارح
فلا تستطيع الترك عن شهواتها ولم تحتمل ذلا كذاك السبادح
لجاؤك بالمولى وتقليل مطعم دواء لأداء النفوس مطحطح
وبالأصغرين احفظ، وبالأجوفين والـــ جواسيس صن دوماً تطعك الجوارح
تباع لقرآن النبي وصحبه وتابعهم ترياق من هو صالح
عليه صلاة الله ثم عليهم كذاك سلام بالرياحين فائح
وكتب تراعي سنة مثل مدخل ومستخرجات منه فيها نصائح
كنياتها وكذلك إحياء سنة لباب طريق الصالحين مصالح
غزاليها وكذاك زروقيها عطائيها تشفي بهذا القبائح
بجائيها أو ما حذا حذوها ولا يعاملها معشوق دنياه طالح
يوفقنا المولى بجاه نبيه لسنته حتى تجيء الفوادح
عليه صلاة الله ثم سلامه وأصحابه مارن تال ورائح

شمائله الكريمة
وآدابه العلية وأخلاقه السنية التي يتأدب بها في المجالس

واعلم أنه نشأ عفيفاً متديناً، ذا خلال مرضية، نسيج وحده. انتهت إليه الإمامة، وضربت عليه آباط الإبل شرقاً وغرباً، وهو علم العلماء، ورافع لواء الدين، أحيا السنة وأمات البدعة، ونشر العلوم، وكشف الغموم، بهر علمه العقول، جمع بين الحقيقة والشريعة، فسر القرآن سنين بحضرة أكابر العلماء والصلحاء، عالماً بقراءته وفنونه من بيان وأحكام، وناسخ ومنسوخ، مع إمامته في الحديث وفقهه في غريبه، ورجاله وقنونه وفي أصول الدين، والذب عن السنة ودفع الأشكال، قائماً بالحق صحيح النظر، متدرباً في تعليم الغوامض، إماماً في النقول العقلية، متعبداً ناسكاً، تصدر للتدريس وبث العلم، فملأ القطر المغربي معارف وتلاميذ، يقف أهل زمانه عندما يقول، وكان حامل لواء التحصيل، وعليه مدار الشورى والفتوى، معظماً عند الخاصة والعامة، مجدداً على رأس هذا القرن، خطيباً بليغاً، شاعراً فصيحاً فاضلاً حسن الخلق، جميل العشرة، كريم الصحبة، محققاً شديداً العارضة، مقطوعاً بولايته وقطبانيته، كثير الحياء والشفقة على الخلق، متواضعاً، يرى نفسه كأقل الحشرات، وقافاً على حدود الشريعة، آلفاً بألوفاً، لقي من المحبة والتعظيم من الخلق ما لم يعهد حتى كان أحب الناس إلى أنفسهم، يتزاحمون عليه مع طلاقة وجه، وحسن خلق وبشاشة. وكان حليماً رحيماً بالمؤمنين، وضع له القبول، واتفق على جلالة قدره الثقلان. وبالجملة فالوصف يقصر عن مزاياه، وهو شيخ علماء وقته، بل قطب الأئمة في جميع الأعصار.

وهذه أوصافه لا يحتاج لنقلها من معين، ومتى احتاج نور شمس لدليل؟

قطب الوقت في الحال والمقال [والمقام؟]، ناصر الدين بمقاله وبيانه، محيي السنة بفعاله، دائم الإرشاد والهداية، حجة الله على العالم، متمسك بالكتاب والسنة، سيد وقته وإمام عصره، وأعجوبة زمانه، ذو النورين: العلم والعمل، وكان صاحب كرامات ظاهرة ومقامات فاخرة، وأسرار زاهرة، وبصائر باهرة، وأحوال خارقة، وأنفاس صادقة وهمم عالية، ورتب سنية، ومناظر دينينة، وإشارات نورانية، ونفحات روحانية وأسرار ملكوتية، ومحاضرات قدسية.

له معراج الأعلى في المعارف، والمنهاج الأسنى في الحقائق، والطور الأرفع في المعالي، والقدم الراسخة في أحوال النهايات، واليد البيضاء في علوم الموارد، والباع الطويل في التصريف النافذ والكشف الخارق عن حقائق الآيات، والفتح المضاعف في معنى المشاهات، وهو أحد من أظهره الله إلى الوجود، وأبرزه رحمة للخلق، ووضع له القبول التام عند الخاص والعام، وصرفه في العالم، ومكنه في أحكام الولاية، وخرق له العادات، وأنطقه بالمغيبات وأظهر على يديه العجائب والكرامات.

ثم اعلم أني رأيته إذا أراد الخروج إلى الناس، يقف في زاوية الدار هنية، ويتكلم بكلام، ثم ينصرف إلى النس، فسألته عن ذلك، فقال: أجدد النية، وأعاهد الله على الإخلاص فيما أخرج إليه، وأسأله أن يفهم الحاضرين ما أحدث به، ومع ذلك كنت أجدد النية في المجلس، وأتذكر في العهد. وكان إذا وصل إلى المجلس سلم بسلام عام يسمعه جميع الحاضرين، وإذا صعد على الكرسي حياهم بتحية عامة ثلاث مرات، ببشاشة وطلاقة وجه، وحسن خلق. ثم ينصت الناس، فلا يضجر ولا يحقد ولا يسأم مع كونه مبتلى بجماعة من العوام ذوي سوء أدب، إذا استنصتهم لا يسكتون، وإذا منعهم من السؤال لا ينتهون، ثم يحدثهم بصوت عال لا يواجه بخطابه أحداً دون آخر، ولا يستحييي أحداً من الحاضرين، وإن كانوا شويخاً جلة أو علماء حسدة، بل يتكلم على الجميع، ولا يبالي بهم، بما يعم الانتفاع به، وربما ألقى سؤال وهو في أثناء كلام، فيسكت له فيجيبه.

وكان صلباً في الدين، لا تأخذه في الله لومة لائم، يحكم بالقسط والعدل ولو في القربى، لا تأخذه حمية الجاهلية، بل لا يزيغ عن الحق.

وهذا طرف من شمائله الكريمة وأخلاقه السنية، أشرت إليها تعليماً للجاهل، وتذكيراً للعالم الغافل، وتوفية لما شرطنا. ولو أخذنا في ذكر شمائله الكريمة التي خصه الله بها استقصاء لاحتجنا إلى الأسفار وخرجنا عن حد الاقتصار، مع أن الاقتصار واجب في هذه الأعصار، ولا سيما في هذا الزمان الذي تقاصرت همم أهله وتشاغلت بأمر معاشها وأغراضها وأقبلت إلى الدنيا وزخارفها، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. شعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ناموا عن المقصود لم يتيقظوا ستكون يقظتهم لخطب أعظم

وإلى الله المشتكى.

الإشارة إلى مدار ما يحدث الناس به في مجالسه

وأعلم أن مدار ذلك على خمسة أقسام:

القسم الأول في ذكر ما فرضته الشريعة، وهي الأصول والفروع الظاهرة والباطنة، وسيأتي ذكرها إن شاء الله.

القسم الثاني في الحث على إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

القسم الثالث في رد الأوهام التي توهمها الطلبة، إذ وجد في هذه البلاد طائفة مثل الطائفة التي ذكرها الحسن اليوسي، وهم طائفة نظروا في كلام من حض من الأئمة على النظر في علم التوحيد، وحذر من الجهل فيه ومن التقليد، فجعلوا يسألون الناس عما يعتقدون ويكلفونهم الجواب والإبانة عن الصواب. فربما عثروا على قاصر العبارة عما في قلبه، أو ملجلج اللسان لدهش ناله، أو جاهل بشيء مما يقدح في العقيدة، أو يظنونه قادحاً. وإن لم يقدح فيشيعون عليه الجهل والكفر، ثم أشاعوا أن الفساد قد ظهر في عقائد الناس، وجعلوا يقررون العقائد للعوام بعبارات مقررة عندهم، واصطلاحات محررة، وحدود معبرة حسب ما في كتب المتكلمين، فشاع عند الناس أن من لم يشتغل بالتوحيد على النمط الذي يقررون فهو كافر.

وأشاعوا أن عوام المسلمين لا يؤكل ذبائحهم ولا يناكحون، مخافة أن يكونوا لم يعرفوا التوحيد.

ثم لم يقفوا في هذا، بل لما انتهكوا حرمة عوام المسلمين، ابتلاهم الله بانتهاك حرمة خاصتهم أيضاً، فتناولوا فقهاء وقتهم، ووقعوا في أهل العلم والدين، ومن هم على سبيل المهتدين وضللوهم إذ لم يضللوا العامة، وقد اشتعلت فتنتهم، وتراكمت ظلماتهم، حتى كادت تطبق على هذا القطر كله. فطلع هذا الشيخ عليهم، فأطفأ الله به نار فتنتهم، وكشف بنوره ظلماتهم فأبطل مذهبهم، واجتث شجرتهم من فوق الأرض، ولم يبق لها فرار.

وله تآليف في الرد عليهم، تنيف على خمسين تأليفاً، وله معهم وقائع ومشاهد في المناظرة أجاد فيها وكشف عن ساسق الحق والحقيقة، والحمد لله.

ومثل هذا الرد على طائفة من الطلبة، وقفوا على بعض الكتب الفقهية ولم يهتدوا لواضح سبيلها، فجعلوا يفتون بالشواذ والمراجيح. وبعضهم يطالع الكتب الغريبة أربابها، فيفتون بما فيها، وبعضهم يأخذ من كتب المسخوطين.

ومن ذلك الرد على طائفة ظهرت في هذه البلاد بالدعوى والتظاهر بالكشف، مع أنهم لم يخرجوا عن دائرة الشيطان والهوى، ولم يعرفوا بعض ما يجب عليهم من فروض الأعيان، وقفوا على بعض كتب التصوف، وانقبضوا في زي الوقار والتقشف إرصاداً للدينا وحطامها، وغروا من هو على شاكلتهم من الحمقى.

وبعضهم لا يعرف شيئاً، وإنما يتظاهر بذلك اقتناصاً للدينا واختلاساً لحطامها كما قال الحسن البوسي في المحاضرات، حيث يقول:

وقع بسجلماسة أنه شاع في البلد ذات ليلة، أنه قد ظهر رجل في المدينة الخالية، فأصبح الناس يهرولون إليه أفواجاً، فخرجنا مع الناس، فقائل يقول: أنه من أولياء الله، وآخر يقول: أنه صاحب الوقت، فلما بلغنا المدينة وجدنا الخلائق اجتمعوا من كل ناحية على ذلك الرجل، حتى أن أمير البلد-وهو محمد بن اشريف-خرج في موكبه. فلما كثر الناس، واشتد الزحام عليه وتعذرت رؤيته، دخل في قبة هناك في المقابر، فأخرج كفه من طاق في القبة، فجلع الناس يقبلون الكف وينصرفون، وكان كل من قبل الكف اكتفى ورأى أنه قضى الحاجة، وقبلناه وانصرفنا. ثم بعد أيام سمعنا أنه ذهب إلىناحية القرية، وأنه سقط في بئر هناك ومات، فظهر أنه رجل مصاب، وكان يشتغل باستخدام الجان ونحو ذلك فهلك.

وإنما ذكرت هذا ليعلم ويتنبه لمن هذا الحاله، فكم تظاهر بالخير من لا خير فيه، ومن مجنون أو معتوه، أو موسوس أن ملبس، فيقع فيه الاغترار للجهلة الأغمار:
ما أنت أول سار غره قمر ورائد أعجبته خضرة الدمن

وقد يشايعه من هو على شاكلته من الحمقى ومن الفجار، وشبه الشيء منجذب إليه-إن الطيور على أجناسها تقع-فيغتر الأغبياء إلا من عصم الله. وقد صعدت في أعوام الستين وألف إلى جبل من جبال هسكورة، فإذا برجل نزل عليهم من ناحية الغرب، واشتهر بالفقر، وبني خباء له، وأقبل الناس عليه بالهدايا والضيافات، وكان من أهل البلد فتى يختلف إليه ويبيت عنده واستراب من أمره بعض الطلبة، فتلطف مساء ليلة حتى ولج الخباء، فكمن في زاوية منه. فلما عسعس الليل قام المرابط إلى الفتى، فاشتغل معه بالفاحشة-نسأل الله العافية-ثم علم أنهم قد علموا به فهرب، وبلغ الخبرإلى إخوة الفتى فتبعوه، ولم أدر ما كان من أمره، ومثله كثير.

ومن أغرب ما وقع من هذا أيضاً ما وقع بسجلماسة، حدث به أخونا في الله الولي الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي بن طاهر الشريف المعروف بابن علي رضي الله عنه: ما لعب بإخواننا-يعني أشراف سجلمانة-إلى رجل جاءهم بالبلد، واتسم بسم الصلاح، ووقع الإقبال عليه، وكان يأتيه الرجل فيعده بأن يبلغه إلى مكة ويحج به طرفة عين، واستمر على ذلك مدة، ثم قام نفر من الأشراف واتفقوا على اختباره، فكمنوا فريباً منه، وتقدم إليه أحدهم-وعنده خمسون مثقالاً فقال له: يا سيدي إن هذه الصلاة تثقل على نفسه، عسى أن ترفعها عني، وأفرغ تلك الدراهم بين يديه، وكأنه هش لذلك، فبادره الآخرون، قبل أن يستوفي كلامه وأوجعوه ضرباً وطروده [وطردوه]، ثم بعد مدة سافر بعضهم إلى ناحية المغرب، فمر بعين ماء هناك، فإذا الرجل عندها يستقي قربة له منها، وإذا هو يهودي من يهود معروفين هناك-نسأل الله العافية.

فالحذر مطلوب، ولا سيما فيما نحن فيه من آخر الزمان الذي استولى فيه الفساد على الصلاح، والهوى على الحق، والبدعة على السنة، إلا من خصه الله، وقليل ما هم.
هذا الزمان الذي كنا نحاذره في قول كعب، وفي قول ابن مسعود
إن دام هذا ولم يحدث له غير لم يبك ميت، ولم يفرح بمولود

بل نقول: ليته يدوم، فإنه "لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه"، كما في الحديث الكريم.

نعم لا بد للناس من تنفيس، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا تنفيساً نقضي فيه ما بقي من أعمارنا من خير، ونستعتب مما مضى، إنه الكريم المنان.

هذا-ولا بد مع الحذر-من حسن الظن بعباد الله، ولا سيما من ظهر عليه الخير، والتغفل عن عيوب الناس.

وفي الخبر: "خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله، وحسن الظن بالناس، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله، وسيء الظن بالناس".

ومن تتبع عيوب الناس، تتبع الله عيوبه، حتى يفضحه في قعر بيته، فالاعتراض بلا موجب جناية، واتباع كل ناعق غواية.

وفي كلام مولانا علي كرم الله وجهه: الناس ثلاثة: عالم ربناني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق.

فمن ثبتت استقامته، وصح علمه وورعه وجب اتباعه، ومن اتسم بالخير وجب احترامه على قدره والتسليم له في حاله، ومن ألقى جلباب الحياء عن وجهه وجب لومه. وإذا ظهرت البدعة وسكت العالم فعليه لعنة الله، ولا بد من مراعاة السلامة.

وهذا باب واسع لا يكفيه إلا ديوان وحده، وإنما ذكرنا هذه الإشارة استطراداً.

"لله الأمر من قبل ومن بعد".

القسم الرابع-في إخماد البدع الشيطانية، ورد العوائد الردية.

القسم الخامس-في بث العلوم الشرعية، وتحرير المشكلات فيها، ولإفادة بالغرائب النوادر في العلوم.

هذه الأقسام هي حاصل ما يحدث به، وغالب تواليفه نافعة، ومصنفاته الشافية، وفي مجالسه بغية الطالبين، وغبطة الراغبين، من تحرير المشكلات وتهذيبها والتقاط الغرائب والزوائد من مهمات الوقت.

قال الأبسني: كان شيخنا أبو عبد الله يقول في مجالس التدريس، إذا لم يكن في مجلس الدرس التقاط زائدة من الشيخ فلا فائدة من حضور مجلسه.

ومن شعره:
إذا لم يكن في مجلس المرء نكتة بتقرير إيضاح لمشكل صورة
فدع سعيه وانظر لنفسك واجتهد فلا تتركن والترك أقبح خصلة

ومؤلفاته مشتملة على فوائد وغرائب عجائب، من إيضاح المشكلات وتقريب المعضلات، وتسهيل العويصات، وغير ذلك من منافعها الظاهرة، وفوائدها الباهرة.

وكان أبو عبد الله يقول: وإنما تدخل التأليف في ذلك-يعني الاتنفاع بها بعد الممات-إذا اشتملت على فوائد زائدة، وإلا فذلك تخير للكاغد، ونعني بالفائدة الزيادة على الكتب المتقدمة. والله أعلم.

ذكر ما يستفتح به كلامه في مجلسه

كان رضي الله عنه يستفتح كلاه في جلس الوعظ بخطبة إمامه الشيخ عبد القادر الديلي رضي الله عنه، وهؤ:

الحمد لله رب العالمين-ويسكت-ثم يقول: الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، ومنتهى علمه وجميع ماشاء وخلق وذرأ وبرأ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الملك القدوس العزيز الحكيم، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأن محمداً عبدخ ورسوله، أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم أصلح اإمام والأمة، والراعي والرعية، وألف بين قلوبهم لاخيرات، وةادفع شر بعضهم عن بعض، اللهم أنت العالم بسرائرنا بأسرها وأنت العالم بحوائجنا فاقضها، وأنت العالم بذنوبنا فاغفرها، وأنت العالم بعيوبنا فاسترها، لا ترنا حيث نهيتنا، ولا تنقدنا من حيث أمرتنا، أعزنا بالطاعة، ولا تذلنا بالمعصية، واشغلنا بك عمن سواك، واقطع عنا كل قاطع يقطعنا عنك، وألهمنا ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ولزوم طاعتك.

ثم يشير إلى تلقاء وجهه بأصبعه، ويقول: لا إله إلا الله، ما شاء الله، لا قوة إلا باالله العلي العظيم، اللهم لا تحينا في غفلة، ولا تأخذنا على غرة "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربوا ولا تحمل علينا إصاً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وأرحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين" [البقرة 286].

وربما استفتح بخطبته المشهورة في رؤوس تأليفه ورسائله، وهي: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله تعالى عن السادة التابعين والعلماء العاملين، والأئمة الأربعة المجتهدين ومقلديهم إلى يوم الدين.

وربما استفتح بسند حديث الرحمة، المسلسل بالأولية، إذا رآى الأضياف، يسرد أسانيده التي أودعها في كتابه-أسانيد الضعيف-وربما ذكر بعد الخطبة حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، ويقول: وبسندنا المتصل إلى الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن المغيرة بن بردزية البخاري الجعفي قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاره قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.

ثم يقول: أصلحوا نياتكم في أموركم كلها: في العبادات وغيرها، فمن كان يصلي فليصل لله، ومن كان يصوم فليصم لله، وهكذا في سائر العبادات.

ذكر ما يحدث الناس به في فن أصول الدين
[ملتقط من "أصول الدين" له]

واعلم أنه يرتب ذكر تلك الأصول، ويفسرها بلغة الحاضرين، وهو أن يقول:

العالم حادث وصانعه الله تعالى واجب الوجود، قديم لا أول له، مخالف للحوادث، ما هو بجرم ولا صفة للجرم، ولا جهة له ولا مكان، بل هو كما كان في الأزل قبل العالم، غني عن المحل والمخصص، واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، قادر بقدرة، مريد بإرادة، عالم بعلم، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مختار في فعله وتركه، والكمال الإلهي كله واجب له، والنص الذي هو ضد هذا الكمال الإلهي مستحيل عليه.

ورسله كلهم من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم صادقون أمناء، مبلغون ما أمروا بإبلاغه للخلق والكمال البشر كله واجب لهم، والنقص البشري كله مستحيل عليهم.

ويجوز في حقهم الأكل والشرب والنكاح والبيع والشراء والمرض الذي لا يؤدي إلى نقص.

والملائكة كلهم معصومون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، نورانيون، ليسوا بذكور ولا بأناث، ولا يأكلون ولا يشربون.

والكتب المنزلة كلها حق وصدق، والموت بالأجل حق، وسؤال منكر ونكير للمقبور وغيره حق، وعذاب القبر حق، وجمع الناس في ذلك حق، والحساب حق، والصراط حق، والكوثر حق، والنار ودوام النار مع أهلمها حق، والجنة حق، ودوام الجنة مع أهلها حق، ورؤية المؤمنين له تعالى في الآخرة حق، (وأن الصلاة والزكاة والصيام والحج كل منها واجب، وأن النكاح والبيع مباح)، وكل ما جاءت به الرسل حق وصدق. [ما بين القوسين ناقص في "أصول الدين"، ويتبع هذا النص زيادة في التقليد]

أدلة العقائد

ودليل حدوث العالم في العقل ملازمته للصفات الحادثة من حركة أو سكون وغيرهما، وملازم الحادث حادث.

ودليل وجوده في العقل: إخراجه المخلوقات من العدم إلى الوجود، لأن المعدوم لا يفعل.

ودليل قدمه في العقل: قدرته على إيجاد المخلوقات، لأن الحادث عاجز لا يخلق.

ودليل بقائه في العقل: ثبوت قدمه، لأن كل ما ثبت قدمه استحال عدمه.

ودليل مخالفته للمخلوقات في العقل: قدرته على إيجادها، لأن من ماثلها لا يقدر أن يوجدها.

ودليل غناه تعالى بالذات في العقل: وجوب اتصافه بالقدرة والإرادة والعلم والحياة، لأن الصفة لا تتصف بها.

ودليل وحدانيته في العقل: إيجاد المخلوقات، لأنه لو كان معه ثان لوقع التمانع بينهما.

ودليل قدرته في العقل: إيجاد المخلوقات، لأن العاجز لا يوجد.

ودليل إرادته في العقل: اختلاف أنواع المخلوقات.

ودليل علمه في العقل: الإتقان

ودليل حياته في العقل: وجوب اتصافه بالقدرة والإرادة والعلم، لأن الميت لا يتصف بها.

ودليل سمعه وبصره وكلامه في العقل: وجوب اتصافه بالكمال، ولأنه لو لم يتصف بها اتصف بأضدادها، وهي نقائص، والنقص عليه تعالى محال.

ودليل جواز فعله أو تركه في العقل: لزوم قلب الحقائق في فرض وجودها أو استحالتهما، لأنه لو وجب عليه شيء من الممكنات عقلاً، أو استحال عقلاً، لانقلب الممكن واجباً أو مستحيلاً في حقه وذلك لا يعقل.

ودليل أمانة الرسل في العقل: أمر الله تعالى بالاقتداء بهم في أقوالهم وأفعالهم.

ودليل تبليغهم ما أمر الله بتبليغه للخلق: أمانتهم.

ودليل جواز الأعراض عليهم في العقل: وقوعها بهم.

[هنا يستمر "أصول الدين"] وإذا عرفت هذا كله فاعلم أن جميع ما جاءوا به صدق: من عذاب القبر وأهواله والقيامة وأهوالها، من الصراط وجميع المغيبات عنا، وأن الجنة والنار مخلوقتان، وأن الله تعالى يراه المؤمنون ويكلمهم وغير ذلك، مما هو مفصل في الكتاب والسنة. [حتى هنا أصول الدين]

ودليل ذلك كله في العقل: إمكانه، وقد أثبت الله تعالى ذلك في القرآن العظيم.

واعلم أنه تعالى أثبت الإيمان على الإجمال بقوله تعالى: "آمنوا بالله ورسوله" [الحديد 7] وبقوله: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون" [الحجر 15] وبقوله: "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويقعوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" [البقرة 126].

وفصل أركانه بقوله: "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين..." [البقرة 177].

وأثبت أن كل من أسلم لا يكفر، ولا يساء الظن به، ما لم يظهر كفره بالقول وبالفعل، بقوله: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً" [النساء 94].

وأثبت حدوث العالم بقوله: "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده" [الروم 27].

وأثبت كونه قديماً بقوله: "هو الأول".

وأثبت كونه باقياً بقوله: "وتوكل على الحي الذي لا يموت".

وأثبت كونه مخالفاً لخلقه بقوله: "ليس كمثله شيء".

وأثبت كونه غنياً بقوله: "والله الغني".

وأثبت كونه واحداً بقوله: "قل هو الله أحد".

وأثبت كونه قادراً بقوله: "إن الله على كل شيء قدير".

وأثبت كونه مريداً بقوله: "فعال لما يريد".

وأثبت كونه عالماً بقوله: "إن الله بكل شيء عليم".

وأثبت كونه حياً بقوله: "هو الحي".

وأثبت كونه سميعاً بصيراً بقوله: "أسمع وأرى".

وأثبت كونه متكلماً بقوله: "وكلم الله موسى تكليماً".

وأثبت كونه مختاراً بالفعل والترك بقوله: "وربك يخلق ما يشاء ويختار".

وأثبت صدق الرسل بقوله: "وصدق المرسلون".

وأثبت أمانتهم يقوله في حكاية قولهم: "إني لكم رسول أمين".

وأثبت تبليغهم الرسالة بقوله: "الذين يبلغون رسالات الله".

وأثبت كونهم يتزوجون يقوله: "وجعلنا لهم أزواجاً وذرية".

وأثبت كونهم يأكلون الطعام ويبيعون ويشربون بقوله: "يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق".

وأثبت الملائكة بقوله: "الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة".

وأثبت كون الموت بالأجل بقوله: "إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".

وأثبت تثبيت المؤمنين عند سؤال القبر بقوله: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت".

وأثبت عذاب القبر بقوله: "ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون".

وأثبت نعيمه بقوله: "فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم. وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين".

وأثبت البعث بقوله: "وإن الساعة آتية لا ريب فيها وإن الله يبعث من في القبور".

وأثبت الحشر بقوله: "وحشرناهم فلم نغدر منهم أحداً".

وأثبت إيتاء الكتب بقوله: "فأما من أوتي كتابه بيمينه" في حق المؤمنين-"وأما من أوتي كتابه بشماله" في حق الكافرين.

وأثبت وزن الأعمال بقوله: "والوزن يومئذ الحق".

وأثبت الصراط بقوله: "فأهدوهم إلى صراط الجحيم".

وأثبت النار بقوله: "إنا أعتدنا للظالمين ناراً".

وأثبت الكوثر بقوله: "إنا أعطيناك الكوثر".

وأثبت الجنة بقوله: "وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً".

وأثبت الشفاعة بقوله: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" وبقوله: "ولسوف يعطيك ربك فترضى" وبقوله: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى".

وأثبت رؤية المؤمنين له تعالى في الآخرة بقوله: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة".

فهذه أصول الدين إلهياتها، ونبواتها، وسمعياتها، قد أثبتها الله تعالى في القرآن العظيم، فكل ما لم نذكر منها فهو مندرج فيها.

ويجب على كل مكلف أن يعتقدها، كما جاءت، وبالله التوفيق.

في ذكرى ما يحدث الناس به في الفقه
[من رسالة القيرواني]

واعلم أنه يرتب تلك الفروع بلغة الحاضرين، وهو أن يقول: الاستبراء واجب، وهو الاستنجاء، وصفته أن يبدأ بغسل يده، فيغسل مخرج البول، ثم يمسح ما في المخرج من الأذى بمدر أو غيره أو بيده، ثم يحكها بالأرض ويغسلها، ثم يستنجئ بالماء، ويواصل صبه، ويسترخي قليلاً، ويجيد عرك ذلك بيده حتى يتنظف من الأذى، وليس عليه غسل ما بطن من المخرجين، ولا يستنجي من ريح.

الوضوء وصفته

وهو أن يغسل يديه، ثم يدخل يده في الإناء إن كان مفتوحاً، فيأخذ الماء فيمضمض فاه ثلاثاً من غرفة واحدة إن شاء، إو ثلاث غرفات، وإن استاك بأصبعه فحسن، ثم يستنشق بأنفه الماء، ثم يستنثره ثلاثاً: يجعل يده على أنفه كامتخاطه، ويجزئ أقل من ثلاث في المضمضمة والاستنشاق وله جمع ذلك في غرفة واحدة، والنهاية أحسن، ثم يأخذ الماء إن شاء بيديه جميعاً ، وإن شاء بيده اليمنى، فيجعله في يديه جميعاً، ثم ينقله إلى وجهه فيفرغه غاسلاً له بيده من أعلى جبهته، وحده: منابت شعر رأسه إلى طرف ذقنه، ودور وجهه كله من حد عظمي لحييه إلى صدغيه، ويمر يديه على ما غار من ظهر جفانه وأسارير جبهته، وما تحت مارنه من ظاهر أنفه، يغسل وجهه هكذا ثلاثاً، ينقل الماء إليه، ويعرك لحيته في غلسه وجهه بكفيه ليداخلها الماء، وليس عليه تخليلها في الوضوء في قول مالك ويجري عليها يديه إلى آخرها، ثم يغسل يده اليمنى ثلاثاً، أو اثنتين يفيض عليها الماء ويعركهما بيده اليسرى، ويخلل أصابع يديه بعضها ببعض، ثم يغسل يده اليسرى كذلك، ويبلغ فيهما بالغسل إلى المرفقين يدخلهما في غسله-وقد قيل: إليهما حد الغسل، فليس بواجب إدخال فيه، وإدخالهما فيه أحوط، لزوال تكلف التحديد، ثم يأخذ الماء بيده اليمنى، فيفرغه على يده اليسرى، ثم يمسح بهما رأسه، يبدأ من مقدمه من أول منابت شعر رأسه-وقد فرق أطراف أصابع يديه، بعضها ببعض على رأسه، ويجعل إبهاميه في صدغيه، ثم يذهب بيديه ماسحاً إلى آخر شعر رأسه مما يلي قفاه، ثم يردهما إلى حيث بدأ، ويأخذ بإبهاميه خلف أذنيه إلى صدغيه، وكيفما مسح أجزاه، إذا أوعب رأسه، والأول أحسن.

ولو أدخل يديه في الإناء، ثم رفعهما مبلولتين، ومسح بهما رأسه أجزأه، ثم يفرغ الماء على سبابتيه وإبهاميه، وإن شاء غمس ذلك في الماء، ثم يمسح بهما أذنيه ظاهرهما وباطنهما، وتمسح المرأة كما ذكرنا، وتمسح دلاليها، ولا تمسح على الوقاية، وتدخل يديها من تحت عقاص شعرها في رجوع يديها في المسح، ثم يغسل رجليه يصب الماء بيده، ويعركهما بيده اليسرى قليلاً قليلاً، يوعبهما بذلك ثلاثاُ، وإن شاء خلل أصابعه في ذلك، فإن ترك فلا حرج، والتخليل أطيب للنفس، وأحب إلى العلماء ويعرك عقبيه وعرقوبيه وما لا يكاد يداخله الماء بسرعة من جساوة أو شقوق.

الغسل

وصفته: أن يبدأ بغسل ما يفرجه أو جسده من الأذى، ثم يتوضأ وضوء الصلاة، فإن شاء غسل رجليه، وإن شاء أخرهما إلى آخر غسله. ثم يغمس يديه في الإناء، ويرفعهما غير قابض بهما شيئاً، فيخلل بهما أص3ول شعر رأسه، ثم يغرف بهما على رأسه ثلاث غرفات، غاسلاً له بهن، وتفعل ذلك المرأة وتغعث رأسها وليس عليها حل عقاصها، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن، ثم شقه الأيسر ويتدلك بيديه بأثر صب الماء، حتى يعم جسده، وما شك أن يكون الماء أخذه من جسده عاوده به، ودلكه بيده حتى يوعب جميع جسده، ويتتبع عمق سرته وتحت حلقه، ويخلل شعر لحيته، وتحت جناحيه، وبين اليتيه، ورفغيه، وتحت ركبتيه وأسافل رجليه، ويخلل أصابع رجليه، ويغسل رجليه آخر ذلك، يجمع ذلك فيهما لتمام غسله وتمام وضوئه، إن كان أخر غسلهما.

ويحذرأن يمس ذكره في تدليك باطن كفيه، فإن فعل ذلك وقد أوعب ظهره أعاد الوضوء وإن مسه في ابتداء غسله، وبعد أن غسل مواضع الوضوء منه فليمر بعد ذلك بيديه على مواضع الوضوء بالماء-على ما ينبغي من ذلك وينويه.

التيمم

وتيمم المريض والمسافر والصحيح الحاضر الذي عدم الماء، أو لم يقدر على مسه، أو خاف حديث مرض أو زيادته.

وصفته: أن يضرب بيديه الأرض، وإن تعلق بهما شيء نفضهما نفضاً خفيفاً، ثم يمسح بهما وجهه كله مسحاً، ثم يضرب بيديه الأرض فيمسح يمناه بيسراه، ويجعل أصابع يده اليسرى على أطراف أصابع يده اليمنى. ثم يمر أصابهع على ظاهر يده وذراعه. وقد حنا عليه أصابعه حتى يبلغ المرفق، ثم يجعل كفه على باطن ذراعه من طي مرفقه قابضاً عليه، حتى يبلغ الكوع من يده اليمنى، ثم يجره بباطن إبهامه على ظاهر إبهام يده اليمنى، ثم يمسح اليسرى باليمنى هكذا.

ولن مسح اليمنى بكفه اليسرى، واليسرى بكفه اليمنى، كيف شاء وتيسر عليه وقد أوعب المسح لأجزأه. والأول أحسن.

الصلاة

وصفتها أن تنوي أداء الصلاة الحاضرة وتعاونها بلفظة التكبير، وهو أن تقول: الله أكبر، مع حصول النية في القلب، واحذر أن تفعل ما يتعاطاه بعض الجهلة، وهو أن يقول: الله، ثم يسكت للنية، ويقول: أكبر، أو يقول: الله أك، ثم يسكت لذلك، ثم يقول: بر. وترفع يديك حذو منكبيك، أو دون ذلك، ثم تقرأ الفاتحة مع سورة سرأً، إن كان نهارية، أو جهراً إن كانت ليلية، فإذا تمت السورة تكبر في انحطاطك إلى الركوع فتمكن يديك من ركبتيك، وتسوي ظهرك، مستوياً، ولا ترفع رأسك، ولا تطأطئ، وتجافي بضبعيك عن جنبيك، وقل إن شئت: "سبحان ربي العظيم وبحمده"، ثم ترفع رأسك وأنت قائل: "سمع الله لمن حمده"، ثم تقول: "اللهم ربنا لك الحمد"، إن كنت وحدك أو خلف إمام، وتستوي قائماً مطمئناً مترسلاً، ثم تهوي ساجداً لا تجلس، ثم تسجد، وتكبر في انحطاطك للسجود، فتمكن جبهتك وأنفك من الأرض، وتباشر بكفيك الأرض باسطاً يديك، مستويتين إلى القبلة، تجعلهما حذو أذنيك أو دون ذلك، وذلك واسع، غير أنك لا تفرش ذراعيك في الأرض، ولا تضم عضديك إلى جنبيك، ولكن تجنح بهما تجنيحاً وسطاً، وتكون رجلاك في سجودك قائمتين وبطون إبهاميهما إلى الأرض، وليس لطول ذلك وقت.

وأقله أن تطمئن مفاصلك متمكناً، ثم ترفع رأسك بالتكبير، فتجلس فتثني رجلك اليسرى في جلوسك بين السجدتين، وتنصب اليمنى، وتجعل بطون أصابعها إلى الأرض، وترفع يديك عن الأرض على ركبتيك. ثم تسجد الثانية كما فعلت أولا، ثم تقوم من الأرض كما أنت، معتمداً على يديك، لا ترجع جالساً لتقوم من جلوسك، ولكن كما ذكرت لك، وتكبر في حال قيامك، ثم تقرأ كما قرأت في الأولى، أو دون ذلك.

قضاء الفوائت

ومن نشي صلاة فليصلها إذا ذكرها.

السهو

ومن سها عن سنة مؤكدة كسورة، أو جهر، أو تكبيرتين غير الإحرام أو تحميدتين، أو أحد التشهدين، أو جلوس له-سجد قبل السلام، وكذا من نقض وزاد.

وفي الزيادة فقط، كجهر بمحل سر، يسجد بعد السلام.

الزكاة

فمن وجب عليه الزكاة فليخرجها من طيب ماله، مع طيب نفس.

زكاة الفطر

تجب زكاة الفطر على كل كبير وصغير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد من المسلمين، وهي صاع على كل نفس بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أربعة أمداد بمده عليه الصلاة والسلام. وتؤدي من جل عيش أهل ذلك البلد.

الصوم

وصوم شهر رمضان فريضة، يصام لرؤية الهلال، ويفطر لرؤيته، والسنة فيه تعجيل الفطر، وتاخير السحور.

الحج

وحج البيت فريضة على كل من استطاع إليه سبيلاً من المسلمين.

الذكاة

يذبح الرجل والمرأة، والصغير والكبير، والحر والعبد، وهو قطع الحلقوم والأوداج، لا يجزئ أقل من ذلك.

اليمين

ومن حلف بالله ثم حنث، فعليه الكفارة. وهي إطعام عشرة مساكين من المسلمين الأحرار مداً لكل مسكين، بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كساهم، كساهم للرجل قميص، وللمرأة قميص وخمار، أو عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد ذلك ولا إطعاماً، فيصم ثلاثة أيام يتابعهم، فإن فرقهن أجزأه.

النذر

ومن نذر لله نذراً فليوفه.

النكاح

ومن تزوج فليتزوج مثنى مثنى، وثلاث ثلاث، ورباع رباع، فلا يزد على ذلك، فإن لم يستطع فواحدة.

وليعدل بين نسائه، وعليه النفقة والسكنى بقدر وجده، ولا قسم في المبيت لأمته، ولا لأم ولده.

البيع

ومن باع فليتجنب الخلابة والخديعة، وليذكر عيب سلعته.

حفظ الأعضاء الظاهرة من المعاصي

ويجب على كل مسلم أن يحفظ أذنه من استماع كل لغو وباطل، وأن يحفظ عينيه من النظر إلى الحرام والهمز والغمز، وأن يحفظ اللسان من الغيبة وكل ما لا يجوز، والتحدث بالباطل والغش والنميمة، وأن يحفظ يديه من السرقة بهما وغيرها، وأن يحفظ البطن من أكل الحرام، وأن يحفظ العورة من الزنى واللواط، وأن يحفظ رجليه من مشية المختال، ومن المشي إلى المعصية.

ذكر ما يحدث الناس به في فن التصوف

واعلم أنه يقول: اعلموا أن صفات القلب على ضربين: مهلكات ومنجيات، فالمهلكان: هي الكبر والعجب، والحسد، والحقد، والبخل، والرياء، وحب الجاه، وحب المال، والافتخار، والأمل، وإساءة الظن بالمسلمين، فهذه العشر من المهلكات من أصول مذمومات الأخلاق.

ويجب على كب مسلم أن يتخلي عنها، ويتحلي بالمنجيات، وهي: التوبة، والإخلاص، والصبر، الزهد، والتوكل، وتفويض الأمر إلى الله تعالى، وإرضا بقضائه، والتقوى، والخوف، والرجاء. وهذه أيضاً من المنجيات من أصول محمودات الأخلاق، فمن أثبتها أثبت فروعها فيه بإذن الله تعالى. [وانظر "أصول الولاية"، فيها خمس عشر صفات]

ذكر ما يذكر به من آيات الترهيب وذكر النار

واعلم أنه يرتب الآيات، وهو أن يقول:

فمن امتثل أوامر الله واجتنب نواهيه، فقد سلك طريق الجنة، ومن لم يمتثل أوامر الله ولم يجتنب نواهيه، فقد هوى في النار، والتحق بأهلها. "لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش".

وقال تعالى: "لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل"، وقال تعالى: "وخاب كل جبار عنيد، من ورائه جهنم ويسقي من ماء صديد، يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان، وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ"، وقال تعالى: "والذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم، وصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق". وقال تعالى: "أذالك خير نزلاً أم شجرة الزقوم، إنا جعلناها فتنة للظالمين، إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، فإنهم لأكلون منها فمالئون منها البطون، ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم، ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم، إنهم ألفوا آباءهم ضالين، فهم على آثارهم يهرعون". وقال تعالى: "إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم".

ويقال للملائكة: "خذوه"-يعني كل واحد من أهل النار-"فاعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم". "خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه". وقال تعالى: هذا فليذوقوه حميم وغساق. وآخر من شكله أزواج". وقال تعالى: "إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون. في الحميم، ثم في النار يسجرون". وقال تعالى: "إن لدنيا أنكالاً وجحيماً، وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً".

ثم بعد ذلك يذكر محاورة أهل النار، كما في حديث السهقي: "أنه كان لأهل النار خمس دعوات: فيجيبهم الله تعالى في أربعة، فإذا كان في الخامسة لم يتكلموا بعدها أبداً: يقولون ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا، فهل إلى خروج من سبيل؟" فيجيبهم الله تعالى: "ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم به، وإن يشرك به تؤمنوا. فالحكم لله العلي الكبير".

ثم يقولون: "ربنا أبصرنا وسمعنا فرجعنا نعمل صالحاً، إنا موقنون". فيجيبهم الله تعالى: "فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم، وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون".

ثم يقولون: "ربنا أخرنا إلى أجل قريب، نجب دعوتك ونتبع الرسل". فيجيبهم الله تعالى: "أو لم تكونوا أفسمتم من قبل ما لكم فذوقوا فما للظالميم من نصير".

ويقولون: "ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين". فيجيبهم الله تعالى: "اخسئوا فيها ولا تكلمون". فلا يتكلمون بعدها أبداً.

وكثيراً ما ذكر محاورتهم التي في حديث ابن المبارك، قال: بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، وقال الله تعالى: "وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب". فرد عليهم الخزنة: "أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟ قالوا: فادعوا. وما دعاء الكافرين إلا في ضلال". فلما يئسوا من الخزنة نادوا مالكاً-وهو عليهم غضبان، وله مجلس في وسطها، وجسور يمر عليها ملائكة العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها-فقالوا: "يا مالك ليقض علينا ربك". فسألوا الموت، قال: فسكت عنهم، ثم لا يجيبهم ثمانين سنة، قال: والسنة الثلثمائة وستون يوماً والشهر ثلاثون يوما، واليوم كألف سنة مما تعدون. ثم لحظ إليهم بعد الثمانين، فقال: "إنكم ماكثون".

فلما سمعوا منه ما سمعوا، ويئسوا من قبله، قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء، إنه قد نزل من العذاب والبلاء بنا ما قد ترون، فهلم فلنصبر، فلعل الصبر ينفعنا، كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا، وأجمعوا رأيهم على الصبر، فصبروا فطال صبرهم، ثم جزعوا، فنادوا: "سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، ما لنا من محيص". أي من منجى.

قال إبليس عند ذلك: "إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل". فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم، قال، فتودوا: "لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم"، إلى قوله: "فهل إلى خروج من سبيل؟" قال: فرد عليهم "ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير".

فهذه واحدة. فنادوا الثانية: "ربنا أخرجنا نعمل صالحاً إنا موقنون". قال: فرد الله تعالى عليهم: "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون".

فنادوا الثالثة: "ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل". فرد الله تعالى عليهم: "أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لك من زوال، وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال، وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال". هذه هي الثالثة.

ثم نادوا الرابعة: "ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل". قال الله لهم رداً عليهم: "أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير، فذوقوا فما للظالمين من نصير". ثم مكث عنهم ما شاء الله، ثم ناداهم: "أفلم تكن آياتي تتلى عليهم فكنتم بها تكذبون؟" قال: فلما سمعوا كلامه قالوا: الآن يرحمنا ربنا، فقالوا عند ذلك: "ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون". فقال عند ذلك: "اخسئوا فيها ولا تكلمون".

فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء، وأقبل بعضهم على بعض، ينفخ بعضهم في وجه بعض، وأطبقت عليهم، فذلك قوله تعالى: "هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون".

آيات الترغيب وصفات الجنة

واعلم أنه يرتب الآيات، ويفسرها بلغة الحاضرين، وهو أن يقول: فمن امتثل أوامر الله واجتنب نواهيه، فذلك يدخل الجنة، قال تعالى: "إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (٣١)" [الكهف].

وقال تعالى: "أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٤) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)" [الصفات].

وقال تعالى: "لَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٣)" [الزخرف].

وقال تعالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (٥٣) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (٥٥) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧)" [الدخان].

وقال تعالى: "مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ" [محمد 15].

وقال تعالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٥) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)" [الطور].

وعال تعالى: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٩) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥١) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٥) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٩) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣) مُدْهَامَّتَانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٥) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٧٨)" [الرحمن].

وقال تعالى: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (١٤) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦) عُرُبًا أَتْرَابًا (٣٧) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨)" [الواقعة].

وقال تعالى: "إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (٥) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (٦)" [الإنسان].

وقال تعالى: "وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (١٣) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (١٤) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (١٥) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (١٧) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (١٩) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (٢٠) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (٢١)" [الإنسان].

وقال تعالى: "إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)" [المتففين].

وقال تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (١٠) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (١١) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (١٢) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦)" [الغاشية].

ثم يدعو الشيخ، وينصرف.

خاتمة
تذكر فيها أقسام الوعظ والتذكير
وشروط الإنتساب لإرشاد الناس إستطراداً

واعلم أن الوعظ من حيث هو تذكير الناس أمور الآخرة، بذكر أهوالها، وما يكون في تلك العرصات وغير ذلك، من ذكر أمور الحنة على قسمين: محمود ومذموم.

والمحمود: أن يذكرهم بآيات الله، والحكايات الصحيحة، قال تعالى: "فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥)" [ق]، "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)" [الذاريات].

ومثل الآيات الأحاديث والآثار المتواترة، والأحاديث الصحيحة، كما نبه عليه غير واحد من العلماء.

والمذموم: أن يذكرهم بما ابتدعه جهلة القصاص، من ذكر الأكاذيب والأحاديث الموضوعة.

وأما الوعظ المتعارف في بلادنا السودانية هذه، وهو إرشاد الناس إلى ما ينبغي أن يتعين عليهم تعلمه، وحملهم على المعروف. ففرض على كل فقيه فرغ من فرض. عينه، وتفرغ لفرض الكفاية، ويجب عليه القيام بذلك في كل قرية ومحلة، إن قام بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الباقين في ذلك القطر، وعاد ذلك الأمر عندهم من أفضل القربات، وأجل المقاما. نبه على هذا الغزالي في الإحياء، وأحمد بن حجر الهيثمي في الزواجر.

فإن قلت: قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك.

هذا الحديث وما ضاهاه يدل على تجنب أمور العامة، وطلب السلامة لخويصة النفس لفساد الزمان، ولا شك ولا خلاف أن هذا الزمان الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم كما نبه عليه الحسن اليوسي في المحاضرات.

قلت: إن ذلك محمول على أنه علم أن إرشاده أو أمره ونهيه بالفعل والقول لا يؤثر فيهم شيئاً، أو علم ضرورة أن ذلك مما يهج الهرج، أو يجلب منكراً أكبر، فقد سقط الوجوب عنه في حقهم، ورجع في حق نفسه. وأما في حقهم فمستحب في الصورة الأولى إذا لم يتعذر بالقول، وهو الغالب، فليتكلم في ذلك فيذكر حكمه، وإن سمع الناس منه. ورجعوا حصل المراد، فإن أبوا فقد أقام عذره عند الله، وقام بما وجب عليه، قال تعالى: " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)" [آل عمران]. وقال عليه الصلاة والسلام كما رواه الترمذي وغيره "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن الممكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم". وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا ظهرت الفتن وسكت العالم فعليه لعنة الله".

ثم أعلم أن للانتصاب والتصدر لما ذكر شروطاً:

منها ممارلسة الكتاب والسنة، والتضلع بالعلوم الشرعية، بحيث لا تزلزله المسائل، ولا تدهشه النوازل، بل يجمع بين مفترقها، ويتصرف فيها تصرف الحيتان في لجج البحار. ويتغلب فيها تغلب الطير في جو القفار، ببصيرة نافذة، وهمة عالية.

وأما ما يفعله بعض أهل بلادنا السودانية هذه. وهو أن يتصدر الطالب والعامي للوعظ والصولة إلى نشر العلوم، وإرشاد الناس، فهو المصيبة العظمى، والفتنة الكبرى، فما شئت إن تلقي جاهلاً مسرفاً على نفسه، لم يعرف بعض ما يجب عليه، فضلاً أن يصل إلى ما ذكرنا، إذا نزعته نزعة شيطانية، وهيجته شهوة نفسانية في طلب العلم والدرجة والوجاهة عند الملوك، واقتناص أموال الناس وغير ذلك، وخيلت له نفسه أنه ذو نية حسنة، وهمة صادقة في إرشاد الناس وتعليمهم، وأنه أهلا لذلك، بل إن ذلك متعين عليه ولا بدله من ذلك-ألا رأيته يصول ويقول، وينابذ المنقول والمعقول، حتى إذا استخف قلوب العوام، وأطاعوه، وأحدقوا به من كل جانب، فعند ذلك يهدم الدين ويفسده، ويعتني بما سؤلت له نفسه الخبيثة، وهو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في حديث رفع العلم واتخاذ الناس رؤساء جهالاً، فيسألون، فيفتون بغير علم، إلى أن قال: فضلوا وأضلوا فكل واحد من هؤلاء أضر في الدين على المسلمين من ألف شيطان، وليس الخبر كالعيان، فافهم.

ومن ذلك الانتصاب للتدريس من غير أهلية، قال الشريف جمال الدين السمهودي: يجب عليك ألا تنتصب للتدريس إذا لم تكن أهلاً فه، ولا تذكر في الدرس من علم لا تفرفه، سواء شرطه الواقف أم لم يشرطه، فإن ذلك لعب في الدين، وازدراء بين الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور".

وعن الشبلي: من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه، وعن أبي حنيفة: "من طلب الرئاسة في غير حينها لم يزل في ذل ما بقي، ولبعضهم في تدريس من لا يصلح للتدريس:
تصدر للتدرس كل مهوس جهول ليسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس

والواجب في حق العامة ومن في معنامم الإرشاد والإنكار، فيما استوى في إدراكه العام والخاص، من غير تصدر ولا انتصاب اتفاقاً.

ومنها الإمكان، كما نبه عليه غير واحد من العلماء.

ومنها حسن السير، قال تعالى: " وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" [آل عمران 159]. وهذه الشروط الثلاثة لا بد منها.

وأما الشروط الباقية فغير لازمة في حق الإرشاد، وإنما هي راجعة في حق المرشد، كحسن النية، وموافقة القول العمل، فهي شروط كمال لا شروط فعل، وغير ذلك.

علو شأنه وابتداء حسد الملوك له

ثم إنه لم يزل هذا الشيخ يقرر فروض الأعيان هكذا للعامة، يبث فنون العلم للخاصة، ويربي المريدين والسالكين، ويرشدهم إلى آداب الحضرة، حتى صدر عوام أوانه عارفين بفروض أعيانهم عاملين، وصار طلبة زمانه علماء مهتدين، وكان أولئك المريدون والسالكون واصلين.

وكان يخرج في كل ليلة جمعة يعظ الناس بما تقدم، ويحضر مجلسه خلق كثير، لا يحصى عددهم إلا الله، ويخرج في سائر الليالي بعد العشاء لبث العلوم والإجادة بالغرائب. وكان يخرج بعد صلاة العصر للتدريس، يفسر القرآن، ويدرس الحديث والفقه والتصوف. وله تآليف يدرسها في بعض الأحيان. وكان يخرج إلى الآفاق والبلدان للإفادة والوعظ، ثم يرجع لمحله "دغل" [Degel].

وفدت عليه وفود الإسلام شرقاً وغرباً، وقدم عليه سائر العلماء في وقته متبركين به، مستنيرين بنوره، فأفاد الكل، فعم النعم في هذه البلدان، وانتشرت بركاته فيها، فاستبان الدين، وعمل بالحق.

ثم إنه لما برز هذكا، وكثر أتباعه من العلماء والعوام، وتراسل الخلق إلى الاقتداء به، وكفاه الله من ناوأه من علماء وقته، وشيده بالطائفة الصادقة من علماء كل قطر، حتى نشر أعلام الدين، وأحيا السنة الغراء، فتمكنت في البلد أي تمكين، نصب أهل الدنيا له العداوة من ملوك هذه البلاد، بعد ما كانوا له مجلين معظمين، وبدعواته متبركين، مع أنه يداريهم ويلاطفهن، ولا يحول بينهم وبين ما يشتهون، بل لا يعترض عليهم، وإنما غاظهم ما يرون من ظهور الدين وقيام ما درس من معالم اليقين، وذهاب بهاء ما هم فيه من الضلال والباطل والتخمين، مع أن سلطنتهم مؤسسة على قواعد مخالفة للشريعة، وغالب سياساتهم خارجة عن الطريقة. فلما أوضح الشيخ الطريق، واهتدى إليه أهل التوفيق، وسلك السالكون، وبقي أهل الدنيا من علماء السوء والملوك في طغيانهم يعمهون، فخف ميزانهم، وبار سوقهم، وسقطوا عن أعين المهتدين، فجعل أولئك الملوك والعلماء يؤذون الجماعة، وينهبون أموالهم، ويغرون بهم سفهاؤهم، ويقطعون طرقهم، ويعترضون لكل من ينتسب إلى الشيخ، وهو وجماعته لا يعترضون لهم، ولا يجري على خاطرهم أنهم يطيقون ذلك البتة، إذ غالب أولئك الأتباع ضعاف الناس، لا يعرفون الغزو قط.

ولم يزل كل من تولى من ملوك بلادنا مجتهداً في إطفاء ذلك النور، ويكيد بالشيخ وبجماعته ويمكر بهم ويحتال في استئصالهم، وفي ذلك قلت:
ألا بلغن عني وإن كنت نائيا ولاة يروح الجور منهم ويرجع
فإن تنتهوا عن غيكم قد رشدتم وإلا فحرب بيننا متوقع
وإن نحن أوذينا نفر بديننا إلى الله إن الأمر لله راجع

وأيضاً:
أراقبهم في كل وقت علمته أراقبهم في وقت كل شروق
وإن فجأونا بالعقيرة في الضحى نجالدهم حتى تقوم بسوق
ولكن يتيح الله لهم الصوت فيموتون عن قريب

ثم إنه لما رأوا الشيخ لا ينتهي عما هو فيه، ولا يزداد إلا حسناً وابتهاجاً، ولا يزال عوام الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، خافوه على أمرهم، لأن أمرهم مخالف لما هو بصدده، بل مضاد لغالبه. فلا جرم أن سلطنتهم لا يوافقها الشريعة، لأنهم أخذوا من العبادات قدر ما يتنظفون به ويستترون، فيأتون بصورة الصلاة والصيام والزكاة، ويتلفظون بكلمتي الشهادة من غير مراعاة لشروط ما ذكر.

وأما الأحكام فهم متجمدون على ما وجدوا آباءهم الأسلاف الذين لم يقروا بالإسلام، ولم يدعوه لأتنفسهم، وغالب أحكامهم مصادم للكتاب والسنة وإجماع الأمة، كما هو معلوم مشهور مع أنهم مغترون بأقوال وأفعال لا تصدر إلا من كافر.

فلا جرم أن ظهور الدين، وقيام الشرع لا يوافقهم، فلذلك أجمعوا كيدهم على نصب القتال بينهم وبين الشيخ وجماعته، ولا يشكون أن الدولة لهم، لما يرون من ضعف أتباعه عن المقاتلة. فاجتمع مشورتهم على زجر الدعاة إلى الله، ومنعهم من الوعظ، وأمر كل أحد أن يرجع إلى ما وجد عليه آباءه وأجداده، فلم يرعنا إلا إنذار أمير غوبر نافانا، بثلاثة أمور:

  1. أنه لم يرض لأحد أن يعظ الناس إلا الشيخ وحده،
  2. ولم يرض لأحد بالإسلام إلا وارثه من آبائه، ومن لم يرث الإسلام فليعد إلى ما وجد عليه آباءه وأجداده،
  3. وألا يتعمم أحد بعد اليوم، ولا تضرب امرأة بخمارها على جيبها.

وهذا إنذاره في الأسواق، كل ذلك سعى منه في مكيدتنا، فكفانا الله كيده ومكره، فأتاح الله له الموت بعد لك عن قريب.

ولما ولي ابنه-ثينف-شمر عن ساق الجد والاجتهاد على ذلك، حتى غزا قرية عظيمة من قرى الإسلام، على حين غفلة من أهلها، فقتلوا ما شاء الله من فقهائها وقرائها في نهار رمضان، وهم صائمون، ونهبوا أموالهم، وأسروا ذراريهم، وجعلوا يفترشون الكتب والمصاحف، ويحتطبون الألواح فيوقدون بها، ويستهزئون بأهل الإسلام، ويقولون لهم: "إيتونا بما تعدوننا إن كنتم صادقين".

ثم جلموا يعرضون لقرية الشيخ، حتى أرسل أميرهم إلى الشيخ أن ينحاز بأهله وإخوانه وأبنائه فإنه يريد أن يهجم على القرية. فأبى عليه الشيخ إلا أن يهاجر بجماعته،-ثم إنه أظهر الندامة فيما قال، وطلب من الشيخ المقام وترك الاتنقال، مع أن قرائن الأحوال مؤذنة بعدم الأمانة منه، وشواهد الأدلة ناطقة بذلك. فاعتذر إليه الشيخ فهاجر من وسط بلادهم عام شريج في شهر ذي القدعة، لعشر مضت منه. [1213 = 15 إبريل 1799م، ولكن اقرأ "ح" عوض "ج" فتجد 1218 = 21 فربرائر 1804م]

وقام الفقيه النبيه، الزكي الرضا المعروف بأغال التاركي [Agali]، صاحب الشيخ، وندم التوارك إلى معاونة الشيخ في الهجرة، وحمايته مما يتوقع من أعدائه. فأعان الشيخ هو وكل من استمع له وأطاع منهم، حتى وصل الشيخ إلى غد [Gudu]، ثم رجع واجتهد في إخراج المسلمين من وسط الكفار، وأعان كثيراً منهم.

وكنت عنده بعد غزو الكفار قرية المسلمين، من أهل غينا المذكورة آنفاً، ورأيته حزن لذلك جداً، ولحقه الحمية الإسلامية، ولما خرجت من عنده، وهو يريد القدوم على الشيخ وقد سمعت أن أمير غوبر أرسل إلى الشيخ أن ينحاز بأهله وإخوانه، فإنه يريد أن يهجم على القرية، كتبت مع صاحب لي كتاباً، أنقذته مع الفقيه أغال، فمن جملة ما فيه:
هلا غرضت إلى شيوخي حسبة مني رسولا فزت بالآمال
أن يهجروا البلد القبيح فعاله ويبادروا التحويل في استعجال
إنا سنوقع فيه غارات لها نقع يثير قتامها كالآل
فالحزم شأني والمقام وركنه والبيت والعرفات ذي الأجبال
كلا ولست من الدناءة حاملا إن الدناءة حمل ذي الأثقال
وإذا أذيت ببلدة ودعتها أنا لا أقيم بغير دار حلال
إن الإقامة في مقام مذلة عجز ولوم غير فعل كمال
ولقد هممت وقد ينجز وعده فيفوز بالفوز الوفى أمثالي
إن أوقع الحرب العوان لغوبر أو يرد منها أعجل الآجال

فكتب إلى الوالد أن أقدم إلينا بما قدرت به من العون على الهجرة، فإنا إن شاء الله على جناح الهجرة، فسرت إلى كب. فبثثت الوثائق، وناديت بالجموع، فسرت حتى دخلت دغل، ووجدتهم في الهجرة، فهاجرنا من وسع بلادهم سالمين، وأعاننا الفقيه أغال، والشيخ محمود غردم، وعلي جيد قائد الجيوش، وغيرهم، فنزلنا بغد، فجعل المنتسبون إلى الشيخ من أهل الأطراف، يهاجرون إليه إرسالاً للشهرين، ثم حجروا الناس عن الهجرة في المحرم بأمر الأمير، فجعلوا يقطعون على المهاجرين الطرق، ويأخذون أموالهم، وأعانهم على ذلك موالوهم التوارك.

فلم نزل هكذا، يلتحق بنا طائفة مع عيالهم وأموالهم، وطائفة بعيالهم دون أموالهم، وطائفة بأنفسهم دون عيال وأموال.

ثم إن الأمير لما رأى أن الناس لا ينتهون عن الهجرة، كتب إلى الشيخ يأمره بالرجوع إلى موضعه دغل، يلتمس ذلك منه. فكتب إليه الشيخ أنه لا يرجع هناك حتى يتوب الأمير، ويخلص دينه كما ينبغي ويتفق هو والمسلمون على دين واحد، ويبسط القسط والعلد، ويرد جميع ما سلبوا من الجماعة وما أسروا منهم، ليأمن الناس منه، فحينئذ يرجع إلى محلته دغل. فسار بهذه الوثيقة بريده، ورد مع وزير الأمير القادم علينا بكتابه. فلما وصل إليه وقرأ عليه الكتاب وقد استحضر جميع وزرائه وعلمائه، جعل يسب الشيخ والجماعة، ويوغد عليهم. واستفتى من حضر من علمائه في أمر الشيخ وجماعته، فقالوا له: أنت على الحق، والشيخ وجماعته على الضلال. فكان كما قالت علماء اليهود، حين سألهم المشركون: من أهدى سبيلاً، يا معشر أهل الكتاب، نحن أم محمد؟ فقال ابن صوريا: أعرضوا علينا دينكم،. فقالوا: نحن ننحر الكوماء، ونسقي الحجيج، ونفك العناة، ونحفظ بيت ربنا، ونعبد ما يعبد آباؤنا، ونصل الأرحام. فقال: وما دين محمد؟ قالوا: صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه السراق الحجيج، بنو غفار. قال: لأنتم خير منه وأهدى سبيلاً. فأنزل الله: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (٥١) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٥٤)" [النساء]. -أورد هذه الرواية هكذا أحمد بن حنبل وابن جرير والن المنذر وغيرهم.

حدثني الأخ المشارك التقي العابد المتفنن، أبو الحسن بن أحمد، أنه حضر الواقعة. فكان ما حدثني أن الذي تولى القراءة-أعني قراءة كتاب الشيخ على الأمير-زور وحرف كما شاء، وذكر أموراً لا تطابق الحال، كل ذلك إغراء للأمير على غزو الشيخ وجاعته. ووافقه على ما زخرف واخترع وزور من حضر من علمائهم السوء.

والأخ التقي الصالح المعروف، بهداه حاضر-وكان قبل ممن ينصح الأمير ويوازره-وهو ساكت لا يقول شيئاً. ثم إن قال الأمير لبريد الشيخ: انفذ ولا أجد لك دليلاً، وإذا بلغك الله إلى الشيخ، فأخبره بأني على التهئ والجهاز في المسير، فليتأهب للقائي.

فخرج البريد هائماً، لا يدري أين يتوجه، ولم يجد من يشيعه، مع أن السودانيين يقتلون كل من رأوه فلاتياً. ولما خرج من عنده سلك الشمال حتى وصل إلى الطبل اغنبل، فجعل له دليلاً إلى بلدة آزر. فلما وصلها تلطف حتى وصل إلى الشيخ، فأخبره بجميع ما كان، وسائر وزرائه حاضرون.

ثم إنه لما علمنا بالضرورة انقطاع حبال الأمانة بيننا وبينهم، وقد أعانهم على عداوتنا جميع من هو على شاكلتهم من السودانيين والتوارك، ولم يبق لنا ملاذ أو ملجأ في ملوك هذه البلاد لتظافرهم على عداوتنا، وتعاقدهم على ذلك، روماً منهم لاستئصالنا، اجتمعنا وشاورنا في أمرنا، وقلنا إنه لا يتأتي للناس أن يكونوا هملاً من غير وال. فبايعنا الشيخ على السمع والطاعة في المنشط والمكره، فبايع هو على إتباع الكتاب والسنة ليلة الخميس.

وأول ما بايعه أخوه الوزير عبد الله، ثم بايعته، ثم بايعه الوزير عمر الكموني، ثم بايعه الكافة. ثم إنه لما أصبحنا عقدت الرايات، ونفذنا إلى حفر الخندق، ونحن نتمثل بقوله:
والله لو لا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
وأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام أن لاقينا
إن الأولى لقد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا

حتى حفرنا قدر استطاعنا. ثم إنه كان قبل مسير البريد إلى القاضاو، مع وزير الأمير، حين أكثر السودانيون قطع الطرق للمهاجرين، هاج الجماعة يوم الخميس على السودانيين الذين في تلك الجهة، فمالوا عليهم بالقتل والأسر والنهب. فلما أصبح يوم الجمعة قام الشيخ فخطب الناس فأمر بإطلاق الأسارى ورد المنهوب، فأطلقوا ورد المنهوب إليهم.

ثم إنه كان قبل مسير البريد، كان يغزونا من عمال الأمير، يستلبون النفر ويأسرون والشيخ يعرض عن ذلك. فغزا خيل مراداوس، وغزاخيل-منتكر بزاغ ورمز-فقتلوا ونهبوا الأموال. والبريج إذ ذاك عند أميرهم. ثم إنه لما رجع البريد وأخبرنا بما جرى هناك أمرنا أميرنا وحفرنا الخندق، أنفذنا جيشنا إلى أطراف بلدهم، إلى موضع يقال له غنغ-بكسر الغين والنون-فلقي الجيش كيداً ونصراً، فقتلوا، وأسروا ما شاء الله. ثم إنه أنشأنا جيشاً آخر في اثنين من شهر الربيع الأول، وفخرجت بالرايات إلى المعسكر. فلم يفجأني إلا صائح: السلاح السلاح، واصباحاه. فغرزت الرايات حتى يأخذها أمير الجيش قائد الجيوش، فخرجت صامداً إلى الصارخ، حتى وصلنا إليه، فوجدنا الخيل التي أغارت قد ولت راجعة، فاقتفينا آثارها من الضحى، فلحقنا بهم بعد صلاة العصر بثرم-بفتح المثلثة وإسكان الراء-ونحن خمسة. فلم نلق كيداً، فرجعنا من ورائهم بعد صلاة المغرب. وقد عطشنا وعطش خيلنا. فذبحنا من البقر التي يخلفون، فمصصنا الفرش-الكرش وذهبنا راجعين، ولقينا بالجيش ناهضاً، فسار الجيش حتى غزاهم في صباح تلك الليلة.

وحدثني من حضر الواقعة أن الكفار لما سمعوا بحسهم تأهبوا واستلأموا. ولقوهم فهزمهم المسلمون حتى وصلوا إلى ديارهم، فأسروا ونهبوا. ثم مالوا إلى الماء فنزلوا فسقوا واستقوا حتى رووا. ثم راحوا واستشهد في هذا الغزو مؤذن الشيخ أحمد السوداني، والرجل الصالح بركند. والحاصل أنه لم يزل يجري بيننا وبينهم وقائع منذ قدم البريد وقبل قدومه، ولم يزالوا يرسلون إلينا بالسرايا مثل كرفيا-بضم الكاف وإسكان اراء-ونرسل إليهم بالسرايا، حتى كانت هذه الوقعة المتقدم ذكرها.

ذكر وقعة كن [Konni]
-بضم الكاف وتشديد النون-

وهي قرية جيل من السودانيين. ويقال أن أباهم غوبري، وأمهم من مماليك التورد. قبيلتنا هذه. ويقال أن قبيلتنا هذه ساكنوهم أول دخولهم في هذه البلاد مدة طويلة، ثم تسلط عليهم أمير كن، محمد دمك-بفتح الدال وإسكان الميم-فأغار عليهم غدراً، وذبح من القراء والعلماء نحو أربعين نفساً في مساجدهم، وأسر الذراري، ونهب الأموال، فجلا من ذلك الرجل الصالح محمد بن سعد، مع من التحق به، ونزل بمرت-بفتح الميم والراء وتشديد التاء-في بلد غلم-بفتح الغين وإسكان اللام-ووال أمير غوبر، ونزل بنوعال، بقلب-بضم القاف واللام-والتحق بنو تحند-بفتح التاء وإسكان الحاء وضم النون-مع من معهم بأرض زنفر، واستوطنوا تواغام-بفتح التاء والواو والغين.

ومنهم الأستاذ الأديب، العلامة التحرير، الفهامة المعروف بشيخ، أخذ عن قاضي العسكر يكنو، الفقيه المحدث موسى غير، وهو عن الإمام اعلامة محمد البعاوي، وهو عن عند الله اثقة. ثم رحل لأكدز، وأخذ عن العلامتين: الشيخ والدرفان، وسعيد باش. وأخذ أيضاً عن الشريفة آمنة، وعنه أخذ أخوه الأديب المتفنن المحدث المعروف ببل سميح، والد الأديب النبيه الجهيذ، العلامة المحدث إبراهيم بل. ثم إنه تخلف آخرون في غربي آذر، وخلو أرض كن.

ولنرجع إلى ما نحن بصدده من ذكر وقعة كن. وكان من حديثها أنه لما رجع غزو متنكر-بفتح الميم والتاء وإسكان النون وفتح الكاف-اجتمعنا للتخميس وقسم الأربعة الأخماس على الغنمين عسر علينا وتعذر، لانشار الأمور وعدم ضبطها، وكثرة الخلائق، حتى لا يمكن كتبهم في ديوان، مع انتشارهم حين رجوعهم، أخذ كل فريق إلى ناحيتهم وجمعنا ما قدرنا عليه، ووضعناه عند الخازن، عمر الكمون، وفكرنا في قسمه، فلم يتفق لنا. ثم خمسناه، ورددنا إلى الغنمين الذين قدرنا عليهم ما بقي، فصالحوا فيما بينهم، ولما انفصلنا من هذا الأمر أنشأنا جيشاَ، فخرج يوم الاثنين في الربيع الأول، وقد سمعنا بخبر مسير أمير غوقبر إلينا، وأنه بالمعسكر، فشاورنا في أمر الغزو فاتفق رأينا بمسيره وتعجيله، فخرج الجيش وعليه من أصحال الشيخ، محمد غير-بفتح الغين-فسار به عشية الأربعاء وليلة الخميس، فصبح الحصن صبح الخميس، فقاتلوه أشد قتال. واستشهد من المسلمين خلق كثير. ثم فتح الله عليهم الحصن في العصر من اليوم، فقتلوا رجاله وسبوا نساءهم وذراريهم، واحترق أكثر عيالهم في النار التي رموها، وقتلوا أمير البلد. ثم إنهم لما فرغوا من الخصن أتاهم تاركي، فقال لهم: أدركوا عيالكم، فقد خلفكم فيهم أمير غوبر، فإنه خرج من معسكره يوم الثلاثاء، وبات ببور-بضم الباء-ثم رحل وحل بغنب-بفتح الغين وإسكان النون-فنهض بالجيش محمد غير بغنب-فتح الغين-ورجعوا يومهم. ثم إنه قمنا غاية جهدنا ذلك اليوم وطلبنا القسم نكما ينبغي، فتعسر لأجل ما ذكرنا قبل، مع ضيق الوقت.

ذكر وقعة كتو
-بضم الكاف والتاء-

وهي أعظم وقعة بيننا وبينهم، وهي بمثابة يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان.

وكان من حديثها أنه لما خرح بريدنا من عند أمير غوبر، أخذ الأمير في التأهب والجهاز وأرسل إلى أطراف بلاده، وكانت إخوانه أمير كاشنة، وأمير كنو، وأمير زكزك، وأمير دور وأمير أزبن، فأجابوه كلهم بما التمس منهم من مساعدته ومعاونته على كل من انتسب إلى الشيخ. وأذنوا له في الغزو، وأخذ كل واحد منهم يتأهب لغزو من انتسب إلى الشيخ في بلده.

ثم إنه لما أجابوه وأذنوا له في المسير ، وعاهدوه على المعاونة، خرج يوم الأحد إلى معسكر له من داخل الحصن، وبات ليلتين أو تسع ليال، ثم خرج وسلك اليمين، وبات بنور، ثم رحل ونزل بغنب، كما تقدم، ثم رحل وحل بمكد-بفتح الميم والكال-ثم رحل ونزل بشار، ثم رحل ونزل بجان سرك-بفتح الجيم وإسكان النون وفتح السين وإسكان الراء-وبات ليلتين ينتظر بعض جنوده. وأقبل بجنود لا يحصى دععهم إلا الله، وانضاف إليه أكثر التوارك مشمرين. ثم إنه لما بلغنا مسيرهم إلينا بالتواتر، خرجنا صباح السبت، فعسكرنا قريباً من ديارنا، وعلينا الوزير الأكبر، أخو الشيخ عبد الله، فنزل بنا قريباً. وظللنا يومنا ولم نسمع عن خبرهم شيئاً، فرحنا إلى ديارنا فبتنا فيها. ثم إنه غدونا صباح الأحد إلى حيث ظللنا أمس، فإذا خيل من إخواننا الفلانيين خرجوا من عسكر الجيش مهاجرين، وقد خلفوا عيالهم في ديار الكفار، وهم أبو بكر قائد الخيل الآن، ودمي-بضم الدال وكسر الميم-ويدمام-بكسر الياء والدال-وابن يمي-بكسر الياء الأولى وتشديد اياء الثانية.

وأخبرونا أن الجيش لما نهض من جان سرك، نزل ميداج-بفتح الميم وإسكان الياء-وأنه نهض من ميداج إلى أغ-بفتح الهمزة والغين مع التشديد-أو إلى أيامي، يلدتان. فرجعنا إلى الديار فوجدنا الشيخ خارجاً. فدعا لنا وبشرنا بالنصر على الكفار، وشجع قلوبنا. ثم إنه أمرنا بالخروج ليلاً لما سمعنا بنزولهم أيامي. وكانت أيامي فريباً منا مسيرة نصف يوم. فخرجنا ليلاً وبتنا قريباً من ديارنا، وانتظرناهم يومنا متأهبين، بين جبلين بموضع يقال له ملب-بفتح الميم وكسر اللآم. فظللنا كلما طار أعصار طرنا إلى مراكزنا، وكلما رأينا دخاناً حتى أمسينا، فرجعنا إلى رحالنا. وفي هذا اليوم التحق بنا جموع المسلمين الذين في آدر مع الفقيه، آغال، ومحمد بن الأستاذ جبريل، وجود بن محمد وغيرهم، وفرحنا بقدومهم.

ثم إنه لما نزلوا أيامي ليلتهم، باتوا متعبئين. ثم لما أصبحوا نهضوا إلينا، فتلقاهم جموع الأعراب بجنبهم، فاقتتلوا ساعة. ثم هاجت سحابة فأمطرت فرجعوا إلى معسكرهم واستكنوا، ولما انكشف السحاب نهضوا إلى جموع الأعراب فاقتتلوا هم وإياهم أشد قتال. فهزموا الأعراب. ولكن لم يكن يومئذ بأس، وهؤلاء الأعراب رغبوا عن الدخول فينا وأخذوا جانبهم، فساق الله الجيش حتى نزل بساحتهم، وهم في عيال، فجرى ما جرى. ثم إنهم لما أصبحوا، وقد انحاز الأعراب وهربوا بعيالهم وبقرهم وسلكوا الغرب، ولم يتوجهوا إلى الشمال حيث كنا نهض الجيش. واتبع آثارهم فجعلوا يقتلون ويأسرون يومهم، حتى نزلوا بعد الغروب بكتوا وهوما، ليلة الخميس.

ثم إنه لما خرجنا يوم الأربعاء، وانتظرناهم إلى الزوال، فلم نسمع بحسهم، فخرجت في خيل فضربت حتى وصلت معسكرهم، فوجدت بعض الأعراب الذين اختفوا في الغيال، فخبروني بأن الجيش نهض وتبع آثار الأعراب، وهو الآن بقرب عيالكم. فكررت راجعاً، فلقيت بالوزير وقد نهض بالجيش، ونزل ببراغم-بفتح الباء والراء مع الغيا المعجمة-فخبرته بما جرى فكر راجعاً ومعه ما لا يحصيه إلا الله، فرجعنا إلى ديارنا فعسكرنا يقرب الديار، وبات أكثر الجند في ديارهم. ثم إنه لما أصبح انتظر قليلاً، حتى تلاحق الناس، فنهض بالجيش إلى كنو، ونحن بديارنا نشاهد الدخان، فسرنا إليهم صباح الخميس، وعبأنا في السير حتى وصلنا غردم-بضم الغين وإسكان الراء وفتح الدال. ثم ضربنا حتى نزلنا بقريب من مائهم الذي هو كتو، والجيش عليه فاستقينا من حياض، ثم نهضنا إليهم، وقد سمعوا بحسنا، ورأى خيلهم جمعنا، وسبق الفقيه أغال في خيل، فذاد جموعهم عن الحوض، واستلب منهم خيلاً. ثم إنه لما قربنا منهم أخذنا في التعبئة، وجعلنا نسير زحفاً زحفاً، وهم متعبئون واقفون على مراكزهم، قد استلاموا في جلائهم نحو مائة، وصفوا الدرق والمجن وتهيئوا، فبارزناهم فتراءينا، واكتحلت الأحداق باالأحداق، فكبرنا ثلاثاً، ثم نهضنا إليهم، وقد أنطقوا طبولهم، ونهضوا إلينا فالتقينا ساعة فحملت ميمنتهم على ميسرتنا حتى خالطوهم وألجأوهم إلى القلب. وحملت ميسرتهم على ميمنتنا كذلك، فثبت القلب منا، فرموا ورمينا، وكان قتالنا إذ ذاك بالرمي، فالخيل لا تعدو عشرين ومعهم من الجياد ما لا يحصيه إلا الله. فلما ثبت قلبنا تلاحق به الميمنة والميسر، وقامت الحرب على ساق، وتخالط الصفان، وهزم الله الكفار، فولوا هاربين، وتفرقوا أبابيد وحل المسلمون على أكتافهم يقتلون وينهبون فقتل منهم ما لا يحصيه إلا الله تعالى، فهرب أميرهم، وقتل صديقه، بيد ومتاج وغيرهم.

ثم إنه لما منح الله المسلمين أكتافهم تبعوهم ليلهم ويومهم، ورجع أميرنا الوزير على الماء فنزل فاستقينا، ثم رجعنا إلى معسكرهم فنزلنا حتى صلينا العصر، ثم رحلنا إلى ديارنا فبتنا، "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين". وفي ذلك يقول الوزير عبد الله:
بدأت ببسم الله والشكر يتبع على قمع كفار علينا تجمعوا
ليستأصلوا الإسلام والمسلمين من بلادهم والله في الفضل أوسع
توارك مع غوبر ونيف سفيههم محزبهم والله يرأى ويسمع
فلما أتوا غنغنغ ما فيه أفسدوا بحرق وتخريب وأشياء تقطع
وجاسوا غياضا في نجوى فقتلوا جموعا من اعراب والمال يجمع
فزادهم كفرا وزادوا تكبرا عليهم جلال والقوانس ترفع
ولبس شفوف يزدهيهم وخيلهم لها خيلاء والزوابل شرع
فقلت وفألي مثل أمر محقق لدي سينفي نيف بالذل يرجع
وكنا انتظرناهم موضع بيننا ثلاث ليل ثم أخرى نربع
ولما رأينا جبنهم عن جموعنا رحلنا إليهم واللواء مرفع
فقيل لنا: ساروا إلى كت غربكم لكي يرجعوكم نحو شرق فتجمع
فقلت: النجا لا يسبقونا لجمعنا بعشر ربيع بدرها يتطلع
وصلنا لأهلينا فجاوزت منزلي بغير دخول فيه والناس هجع
وليس معي إلا قليل أطاعني على السير بعد الأين والجوع يلذع
ولما رأينا الفجر ضاء عموده نزلنا فصلينا إلى أن تجمعوا
فسرنا إلى غردم وقد تم جمعنا قبيل زوال اليوم والجمع يوزع
فذدنا جموع الكفر عن حوضه وقد رأوا جمعهم مثلي جماعتنا فعوا
فظنوا محل الغيل ينصر جمعنا وأن الربا من ناصريهم ستنفع
ففروا إليها ثم صفوا وأنطقوا طبولهم والجمع يدنو ويتبع
إلى أن تراءينا وزاد اقترابنا رموا فرميناهم فولوا وأقشعوا
فلم يك إلا أن رأيت جهامهم قد انكشفت عن شمس الإسلام تلمع
بنصر الذي نصر النبي على العدا ببدر بجمع بلملائك يجامع
وكم من كمي جدلته أسهامنا وأسيافنا وأراه طير وأضبع
وكم ذي جلال صرعته أكفنا فجزّت فئوس رأسه يتقطع
طردناهم وسط النهار فلم يكن لهم غير غيل في دجى الليل مفزع
فجمع ظهري مع عشائيه ينفهم بريم على الإيماء والشمس تطلع
لكل الجهات قد تفرق جمعه بداداً ليوم الجمع لا يتجمع
فخلوا لنا أموالهم ونساءهم على رغمهم والله يعطي ويمنع
ونحن علىالإسلام جمع تناصروا ولسنا بشيء غيره نترفع
قبائل إسلام فتورب قبيلنا فلاتينا حوسينا الكل مجمع
وفينا سواهم من قبائل جمعت على نصر دين الله كان التجمع
بنو تور أخوال الفلاتين إخوة لعرب فمن روح ابن عيص تفرعوا
وعقبة جد للفلاتين من عرب ومن تورب كانت أمهم هي يجمع
فسل عنهم من حاربوا بمتنكر وكن وريم نص الأخبار يسمع
فيا أمة الإسلام جدوا وجاهدوا ولا تنهوا فالصبر للنصر مرجع
فقتلاكم في جنة الخلد دائما وراجعكم بالعز والمال يرجع
فليس لما تبنى يد الله هادم وليس لأمر الله إنجاء مدفع

وله أيضاً قصيدة أخرى:
ألا من مبلغ عني لدادي وزيد وكل ثاو في بلادي
ولاة الكفر خوف فوات مال وطمع سلامة من ذي فساد
بأن لم يبق بين المسلمين وبينكم علامات الوداد
خذلتم جمع إسلام جهارا رضا منكم موالاة الأعادي
نسيتم ما قرأتم في الكتاب لذا أخطأتم سبل الرشاد
ألما يكفكم أن يثفقوكم ولا يألونكم في ذا المراد
كذلك لا تجد لَا تَتَّخِذُوا لا.. إلى بُرَآَءُ مِنْكُمْ يا عباد [الممتحنة 1-3]
لواسعة وَلَوْ كَانُوا وبدأ [المائدة 81] بَرَاءَةٌ فافهموا صوب السداد [التوبة 1]
وليس لنا كلام في خليط لهم ود كبد وذاك بادي
ولا تسأل عن أصحاب الجحيم كصاحب ناقة أهل الفساد
تولى كبره يغضاً لدين فكان قدارهم وهم كعاد
وإنا في بلاد ليس فيها سوى حكم الإله على العباد
أمير المؤمنين لنا أمير وصرنا كلنا أهل الجهاد
نجاهد في سبيل الله دوما فنقتل أهل الكفر والعناد
سلوا عنا مصادمنا بغنغ متنكركن أيام الجلاد
سلوا شيطان غوبر وهو ينف وهل لم ينف من بين البوادي
وقد جمع الجموع لقطع دين ونادى في المدائن كل نادي
وفوقهم السوابغ من دروع وتحتهم العتاق من الجياد
فساروا يقتلون ويأسرون ذوي الإسلام روماً للفساد
فلاقيناهم يوم الخميس يغردم قبل ظهر في النجاد
وقد ركزوا لحوماً حول نار وحازوا في الخيام علا العتاد
ثاباً من شفوف في صوان وأنواع البساط مع الوساد
ولا تسأل عن الكعك الخليط بسمن مع عسول في المزاد
نياما في النعيم فلم يرعهم سوى همس الرجالة والجياد
وقاموا واستعدوا كل شيء لحرب ثم صفوا في عداد
فسار لواؤنا يدنو إليهم وعاد لهم كغول في البجاد
فراميناهم ورموا نفوطا فصارت نارها مثل الرماد
كأن سهامهم لا نصل فيها وأسيفهم بأيد للجماد
كأن رماحهم بيدي عمي فولوا هاربين بغير زاد
تشتت جمعهم وهم عطاش حياري مثل غوغاء الجراد
قتلناهم وحزنا كل مال لهم تركوه منثوراً بواد
قتلنا قابغي وكذا تمدغي كذا ورو القياه في المبادي
كذا أمثالهم تترى وكل شياطين وأشقاهم مغاد
ففر بلا التفات ينف يعدو أمام خيوله تعدو بداد
فأنفه من الموت المتاح تعلقه على عرف الجواد
سواد الليل صار له حصونا فبات ولم يذق طعم الرقاد
فوارسه عوابس في مروط عضضن على خيول كالقراد
غياض بجو ظنوها قصورا فما بالوا بشوك أو قتاد
فلم يرجع لهم ثوب صحيح وكل قد تمزق في الوهاد
فليسوا راجعين إلى قتال لنا فيها إلى يوم المعاد
ألا أبلغ أنا الحسن بن أحمد مغلغة تبين بالمراد
بأنا سوف نجمع للجهاد جموعا من كوار إلى وطاد
تحل ببركها غار وتخشى جناحاها رديف إلى غلاد
تفرح كل ذي قلب سليم وتحزن كل كفار الفؤاد
فإن الله ينصر ناصريه بوعد جاء من رب العباد
فوعد الله تم بنصر دين وليس لنا سوى شكر الأيادي

تمام الخبر عن واقعة كتو

ولما هزم الله المشركين بكتو، وهرب أميرهم ينف، وخلى من الأموال ما لا يحصيه إلا الله وغنمها المسلمون، فنزل بموضع يقال له تَنبَغَرك-بفتح التاء وإسكان النون وفتح الباء والغين المعجمة وإسكان الراء-ولقي من تخلف عن الوقعة من بعض أقياله أمير غم-بضم الغين المعجمة-وهو الذي سبب له غزو عبد السلام وجماعته بغنبنا-بكسر الغين وفتح الباء-حتى هاج هذا الأمر وكانوا يجلون هذا القيل، فأمره على من التحق به من الفل، فعسكر هذا القيل بشمولا-بكسر الشين وضم الميم مع التشديد، والتحق به من جموعهم خلق كثير، وقد انحاز قومهم من أهل ذمتهم من السودانيين، ومواليهم من الفلاتيين والتوارك، وهربوا إلى أقاصي البلد، وعسكروا هناك، أطمس قومهم بذلك، ورجعوا إلى ما حولهم.

ثم إنه لما رحعنا نحن إلى ديارنا، وقد رد الله عنا عدونا، أقمنا أياماً ننظر في شأننا وندبر في أمورنا، ونجبر كسرنا، ونحتال في طلب القوت إذا أنهم ضيقوا علينا وضن عندنا القوت، لظافرة السودانيين كلهم على عداوتنا، فلا نمتار في أي بلدة من بلادهم، ونحن مهاجرون، ليس عندنا إلا عيالنا ومواشينا، ولا نقتات إلا بما استلبنا من عدونا.

ذكر الطلب بعد الهزيمة والفل

ثم إنه اطمأنا أياماً. خرجت بالراية في طلب القوم، فسلكت الشمال، حتى نزلنا قريباً من مهاجرنا، ثم إنه أتى إلينا خيل أغاروا على أرض العدو، فخبرونا أن العدو كلهم رجعوا بعيالهم ومراكبهم، يحملون المعيشة، وأغتروا بالعسكر الذي بجنبهم، وكان بيننا وبين العسكر حين خبرونا نصف يوم.

ولما أصبحنا عبأنا الجيش، وأرسلنا بالسرايا والغارات على أرض العدو، فقتلوا وغنموا ما شاء الله، واحتملوا القوت، فسرت بهم حتى وصلت محلتنا التي هاجرنا منها، وعبرت حتى نزلت قريباً من عسكرهم. ثم إنهم لما سمعوا بنا أنفذوا خيلاً، فلقيت بالسرايا فرجعت مذعورة إلى أمير غم، وأخبروه بكثرة الجيش وجده فانتقل بهم من شمولا هرباً، حتى نزل كوتا-بفتح الكاف والواو مع التشديد.

ولما سمعت بهروبهم رجعت بالقوم، وقد غنموا فلقينا بغندو-بضم الغين المعجمة وإسكان النون وضم الدال-طائفة من العدو، وخرجوا من كنب، وهم من فل كتوا، فتوجهوا لبدهم، فجالدناهم واستأصلناهم، ثم سرنا حتى وصلنا ديارنا، بحمد الله وحسن عونه.

ذكر غزوة مني

وكان من حديثها أنه لما رجعنا من الطلب، اجتمعنا وشاورنا في أمرنا فاتفق رأينا في إنفاذ الجيش إلى عسكرهم إن أمكن لنا، فخرج الجيش حتى نزل بمتنكر، بجنب مائها، فإذا خيل من العدو غزت على أطراف بلادنا، فقتلوا وأسروا قريباً من معسكرنا، ثم إنه نهض الجيش على آثارهم واقتفى آثارهم، حتى صبح عسكرهم كوتاو-بفتح الكاف وتشديد الواو. ولما أبصروا بالجيش انحاز أكثرهم وسلك طريق مكد، وتبعهم الجيش يوم ذلك، فنزل جيشنا بمكد، ونزلوا بكرار. وقد جرى بينه وبينهم محاورات، ثم نهض الجيش صباح ذلك اليوم إليهم وسلك الطريق حتى وصل إلى كرار، وبها جمعهم، فحسهم عنها، فنزل الجيش على مائها يستسقي، فتبعهم الخيل وبعض الرجال، حتى وصلوا بهم إلى جنب الجبال. فثبت لهم العدو، فاقتتلوا ساعة، فانحاز المنافق ثنب-بفتح المثلثة وإسكان النون، كابش-بفتح الكاف والباء-في خيل له.

ولما رأى العدو اكشافه ثابت خيل المشركين، فمالوا على بقية الخيل والرجالة، فكانت الهزيمة فاستشهد جماعة من القراء والصلحاء، حتى انتهى الفل إلى الجيش، فنهض قائد الجيش، وثبت لهم وسار الجيش إليهم، فهزمهم حتى وصل بهم إلى المعركة، فحسهم عنها، فتفرقوا عباديد، ثم إنه عبأ بالجيش إلى مني، ونزل بها ساعة من نهار، وقد أغار الجيش على نواحيها، وأصاب غنائم وحمل قوتاً، فراح وبات قريباً منها، وكان المشركون لما سمعوا بالجيش أرسلوا إلى أميرهم يطلبون منه المدد، فأمدهم بكل من تخلف منهم، وكانوا في هذه الأيام ينتظرون المدد.

ولما راح الجيش من مني، لحق بهم مدد، فجاءوا بجمع لا يحصيه إلا الله، وحملوا من عددهم معهم كثيراً.

ولما أصبحوا نهضوا إلى جيشنا وتبعوا آثاره، وكان الجيش لما انتقل افترق ثلاث فرق فأخذ المنافق طريقه مع جمع، وسلك اليمين، وتوجه لبلاده، وأخذ أهل آدر من جماعة الفقيه أغال طريقهم فسلكوا الشمال، وأخذ قائد الجيش الطريق المتوسط، ونحى بلادنا "غد". فلما وصلوا إلى هذا المحل سلكوا طريق قائد الجيش، فلحقوا بهم بعد الضحى، وسار الجيش وهم يقاتلونه يميناً وشمالاً وخلفاً إلى الظهيرة، ولم يكن يأس فامتنع الجيش عنهم كلما صالوا عليه ثبت لهم رجال، وثبتوا حتى أيسوا منه، فرجعوا خائبين خاسرين حتى وصلوا غد، في عافية.

تمام الخبر في مقامنا بغد

ثم إنه لما سار الجيش إلى "مني" في مدة قليلة، ورد علينا بريد "غد" و"لغ" وأمير "دنك" وأمير "برم" وأمير "مفر" كلهم بالتهنيئة، وكان أمير "برم" و"مفر" و"دنك" قبل هذا الجهاد بغاة على أمير "غوبر"، ولما وصل إليهم الخبر بما صنع الله للمسلمين فرحوا بذلك جداً، ورغبوا فينا لعدواتهم له، لا رغبة في الإسلام، فداريناهم على ذلك لشدة احتياجنا إلى الميرة فأطلقوا إلينا عيرهم وتجارهم، وانتفعنا بذلك.

ولما رجع إلينا الجيش وقد اشتد بنا الجوع، وبلغ كل مبلغ حتى لا تكاد تتجمع الميرة من بعيد، أرسلني الواللد إلى الأخ محمد مويج أمير "كب" وهو ببلدة "ياب"، أنه يريد اللحوق بجماعته بها ليتسعوا في الميرة، فأجاب إلى ذلك، وشرع في جهاز الشيخ، ووجدته أنه قد نصر على ما يليه من بلد العدو، ووسع كثيراً، ثم ذهبت راجعاً فلقيت بالشيخ والجماعة، فسرنا حتى وصلنا بجنب البحر، فتأخر هناك أياماً.

وكان العدو لما رجعوا من وراء الجيش، ساروا إلى حصن لهم يقال له "دان غيد"-بفتح الدال وإسكان النون وكسر الغين-وأنشأوا جيشاً فغدوا إلى أطراف جماعتنا في "ركن"-بكسر الراء والكاف وفتح النون فأصابوا بقراً وسبوا، فخرج إليهم الطلب فأنقذ بعض ما أصابوا وغنموا من خيل العدو نحواً من سبعين، وذهبوا بالبعض، ثم إنهم لما وصلوا إلى حصنهم، سمع أمير "غم" قائدهم أن أمير "دنك" خلفه في عياله فقسم الجيش قسمين، وخلف بعضه في الحصن، وسار بالبعض حتى هجم على أمير "دنك" وجنوجه فشتتهم، وسكن بالجيش هناك.

ثم إنه لما تأخر الشيخ أنشأ جيشاً إلى حصنهم وبقية عسكرهم، فخرج المنافق "ثنب كابشي" فسار بالجيش حتى وصلنا الحصن بعد صلاة العصر، فخرج عسكرهم وكمن في ناحية. فسار الجيش وأخذ يقاتل الحصن، ونحن نظن أنهم في الحصن. ثم خرجوا على الجماعة، فكانت الهزيمة حتى انتهت إلى قائد الجيش، وتلاحق الناس وغنمنا منهم، فغربت الشمس فنهضت بالجيش ونزلت به قريباً من الحصن فبتنا.

ولما أصبحنا عبأنا للقتال، فغرونا بالصلح والأمانة، وطلبوا منا الانصراف حتى يتأتي لهم الإرسال إلينا، فانصرفت بالجيش راجعاً، فلم ينقض ذلك اليوم حتى غدروا بنا وقتلوا من تأخر عن الجيش قليلاً، فذهبنا إلى محلنا في عافية.

ثم رحل الشيخ وجماعته حتى نزل "بمغبش"-بفتح الميم والغين وإسكان الباء-بقية فصل الربيع، وبها كاتب ملوك بلادنا السودانية. فمن جملة ما في وثائقه أن بين لهم ما هو فيه من نصر الحق على الباطل، وإحياء لسنة وإخماد البدعة، وطلب منهم أن يخلصوا لله دينهم وأن يتبرأوا من كل ما يخالف الشرع ويصادمه، والتمس منهم أن يساعدوه على جهاد عدوه، وألا يغتروا بكلام عدوه فيه، فيساعدوا العدو عليه فيعمهم الله بالهلاك بسبب ذلك، لأن الله أقسم: لينصرن المؤمنين وليخزين الكافرين، فسار بالوثائق عبد الرحمن بن العلامة، زمنوا والمصطفى. فلما أوصلوا وثيقة أمير "كاشنة" ونظر إليها أخذته العزة فمزقها، فمزق الله ملكه.

ولما أوصلوا وثيقة أمير "كنوا" كاد أن يقبل، ثم أبى وسلك ما سلك إخوانه.

ولما أوصلوا وثيقة أمير "زكزك" قبل وتاب، وأبى عليه قومه، فقاتلهم فقام على ذلك مدة عمره. ولما مات بغوا على المسلمين، وارتدوا، وكان من أمرهم ما كان.

وفي هذا العام أنشأ منها سرايا إلى أرض العدو، منها سرية محمود إلى "كيمي"-بفح الكاف وإسكان الياء وكسر الميم.

تمام الخبر من اتنقالنا من غد

ثم إنه لما انتقلنا من "غد" وخلفنا الذين بشمالنا من جماعة الشيخ الأستاذ أغال، صاحب الشيخ، والفقيه محمدان، والوالي الكاشف محمد تكر-بضم التاء والكاف-و"جود"، واجتمعوا، وحلوا ثنية بين "آدر وغوبر" وكان العدو علموا بمقامهم هناك، فنصب لهم أمير غوبر عسطراً آخر بجنبهم وجعل يمدهم بالأمداد، وكلما وصل اليهم مدد نهضوا إلى الجماعة فيدرهم الله عن الجماعة، فينهزمون، ولم يزالوا هكذا نحو سبع غزوات، حتى أفنى الجماعة أكثرهم، فحينئذ نهض الجماعة إلى غزوهم، فغزوا أرض "غدو"--بفتح الغين المعجمة وضم الدال-و"غلم"-بفتح الغين وإسكان اللام-و"زنغلم"-بكسر الزاي وإسكان النون وكسر الغين المعجمة-و"تاكس"-بضم الكاف، فاستصعب عليهم "تاكس" وهزمهم بعض الهزيمة ولم يكن بأس، وغزوا حتى وصلوا "كرفي"-بضخ الكاف وإسكان الراء-نصف يوم من "الغاضا"، ورجعوا لمحلهم، وكان إذ ذاك لا يسمعون بأخبارنا، ولا نسمع بخبرهم لإحاطة الأعداء بهم وكثرة المياه.

رجوع الشيخ إلى أرض العدو من أهل غوبر

ثم إنه لما حان وقت الخريف اجتمعنا وشاورنا في أمرنا، فاتفق رأينا في الرجوع إلى أطراف بلاد العدو بعيالنا، ليمكن لنا غزوهم، فانتقل الشيخ من "مغبش" ونزل إلى "سيف"-بكسر السين وإسكان الياء وفتح افاء، ثم خرج فنزل "بركن". فخرج سرية عليها عبد السلام، فاحتملوا قوتاً، ثم خرجت سرية أخرى فالحتملت أيضاً قوتاً، ثم انتقل ونزل "بسكت"-بضم السين والكاف مع التشديد، وتأخر هناك أياماً.

ذكر غزوة "دن غد" افثانية

ثم إنه كان أمير "غم" أرسل إلى الشيخ وطلب أن يصلح بينه وبين أمير "غوبر". فأجاباه الشيخ إلى ذلك، فأرسل أمير "غم" إلى أمير "غوبر" أن وجه إلى الشيخ من وزرائك بريداً، واصطلح مع الشيخ، وأعطه ما يريد منك، فإنا لا نقدر على أمره، فوجه وزيره الأكبر "غلاديم"، وكان بينه وبين الشيخ موافقة وهو رجل عاقل يحب الشيخ، فضيعوه [فضيفوه؟ فضيقوه؟].

ولما ضيقنا عليهم راجعوه ووازروه، ولذلك وجهوه إلينا. فلما نزل "بسكتوا" عازماً على إنشاء الجيش إلى "دار غد" ورد علينا يوم ذلك، وأخبر الشيخ أن أمير "غوبر" ندم وعزم أن يقبل على الشيخ كل خلة طلبها منه. فاجتمعنا وشاورنا في أمرهم، فاتفق رأينا أن يجتهد الأمير ويسير إلى الشيخ بنفسه، ويأخذ من الشيخ كل ما يريد، ولم نتكتف بقدوم الوزير علماً منا بأحوالهم، ومكايدهم. فقبل منا ذلك الوزير، فضرب له الشيخ مدة يسيرة، وأمنهم ما خلا "دان غد"، فقبلوا ذلك منا. فخرج الجيش إلى "دان غد" يوم الخميس، فصحبهم بكرة الجمعة، فلم يكن بأس أن فتح الله علينا الحصن، فقتلنا وأسرنا ونهبنا، ولم تكن غنيمة مثلها، ثم كففنا أيدينا عن أرضهم، على ما شرطناهم وعاقدناهم. فذهب ذلك الوزير حتى وافى الأمير، وأخبره بجميع الأمور، فكاد أن يقبل منه، فجمع أهل مشورته، فاتفق رأيهم على عدم مسيره وإنفاذ البرداء، فأنفذوا الشيخ الشريف "باب"، وكان محصوراً عندهم مع قومه، فوافى. وقد نزل الشيخ "بتبر"-بفقتح التاء واإسكان الباء. فأخبره بإباء الأمير عن المسير، وطلبه المصلحة هكذا، فلم نقبل علماً منا بمكائدهم وخيانتهم "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ" [الأنفال 58]. فنبذنا إليهم عهدهم. فرجع الشيخ الشريف "باب" واحتال. فخرج منهم إلى الجماعة، ثم إن الشيخ أنشأ غزوة إلى "كيمي" لرجوع الأعداء إليها، وأنشأ آخر إلى "غنغرم"-بضم الغينين المعجمتين مع إسكان النون. فخرجت بهم إلى "غنغرم"، وقد اجتمع فيها العدو، وتحصنوا في عيالها، ففتحها الله علينا، وغنمنا أكثر من غنيمة "دان غد". ورجعنا وقد رجع غزو كيمي بالنصر والغنيمة، وعليهم محمود غردم. ولما رجعنا ورجع غزو محمود انتقل من "ثبر [تبر]" إلى "كرار". فنزل بها. وانضم إلينا جماعة الفقيه أغال، ومن معه، وجماعة الكشناويين.

وكان من حديثهم أن سلطان كاشنة، لما سمع بما وقع لأمير غوبر بعد ما عاقدوه وأذنوا له، أمر عماله بغزو جميع من انتسب إلى الشيخ واستئصالهم. فجعلوا يقتلون ويأسرون، فنفر أولئك الجماعة يأوي بعضهم إلى بعض حتى صاروا جماعة، فجعلوا يدافعون عن أنفسهم، ووصل بعضهم إلى "مستماطي"، فتحصنوا بها. ووصل بعضهم إلى "مدب"-بفتح الميم والدال. ثم توجهوا إلينا حتى دخلوا بلد "زنفر". ثم خرجوا ووصلوا إلينا "بكرار". وقد قطعوا الفيافي مسيرة شهر، ولقوا من العدو الزحوف الكثيرة، ثم إنه اجتمعنا وشاورنا في أمرنا، فاتفق رأينا على إنقاذ العزو إلى ضواحي "حصن القاضاو" ليتمكن الوصول إليه.

ذكر غزوة بور

وكان من حديثها أنه لما اجتمعنا وشاورنا في غزو ضواحي القاضاو، واتفق رأينا على إنفاذه، خرجنا، وعلينا علي جيد، قائد الجيوش، حتى نزلنا "مني". ثم سرنا وأغرنا غربي الحصن، ووجدنا الكفار متحصنين في "غيال"، ففتحها الله علينا. ولم نرجع حتى وصلنا "بور"-بضم الباء ون-نصف يوم من "القاضاو". وكان إخواننا من أقيال الفلاتيين الذين مع الكفار بجنب الحصن من ناحية اليمين، قد أرسلوا إلينا بإسلامهم، وقد التحق بهم من المسلمين المهاجرين والفرارين الذين تسلط عليهم العدو، وممن له نسبة إلينا، أو كان فلاتياً. فأغاروا في ذلك اليوم حتى وصلوا إلى "جرو" فريباً من الحصن جداً. فرجعنا ورجعوا.

ذكر غزوة القضاو الأولى

وكان من حديثه أنه لما رجعنا من غزو ضواحيها الغربية، وغزو إخواننا ضواحيها اليمانية-وقد التحق بنا الأخ الصالح "نمود" بجماعته، وأغار على شرقي الحصن وأبلى-اجتمعنا وشوارنا في أمرنا. فاتفق رأينا على قتاله والمسير إليه، مع أنه اجتمع فيه من جنودهم وقومهم ما لا يحصيهم إلا الله، ونحن قد التحق بنا كل من تخلف عنا من إخواننا، ممن كان محصوراً فيها، فخرجنا مستهل شعبان، فنزلنا "بمني"، ثم رحلنا وعلينا الوزير الأكبر عبد الله، حتى نزلنا "بور"، وأخرنا حتى تلاحق الناس. ثم سرنا حتى نزلنا "غاذك"، فأعجل قائد الجيش حتى لحق بالمقدمة، فوجدناهم قد أعدوا لكل ناحية طائفة، وخرج عسكرهم فحمل على ميسرتنا فثبتت، فاقتتلوا ساعة وأهل الحصن يرمون بالسهام من ناحية والعسكر يقالت من ناحية، فأعاننا الله عليهم فهزمنا عسكرهم، وقد أصيب العم في رجله فمنحنا الله أكتافهم، فاستحر القتل فيهم، ثم إن ميمنة الجيش بقيت على مقاتلة الحصن يوم ذلك واتبعنا نحن آثارهم، ثم رحنا إلى المعسكر الذي أتينا منه، وأرسلنا إلى الميمنة فلحقونا فخرح خيل المشتركين لما رحلنا، فكمنت في خيل من ناحية، حتى أدركوا مؤخرة الجيش، فحملنا عليهم فردهم الله، وكانت خيلاً عظيمة فوافينا الجيش وقد نزل بالمعسكر. ولما أصبحنا بعثوا إلينا خيلاً عظيمة وظننا أن أميرهم خرج إلينا. فثار الجيش إليهم، فتلقناهم خيلنا فانهزموا وتبعت آثارهم، فسار جيشنا حتى نزل "زغرب"-بضم الزاء والغين-بجنب الحصن من ناحية اليمين، وبتنا ثلاث ليال، ثم سرنا لقتال الحصن، فنزلنا وعبأنا للقتال يوم الأحد، وقاتلناهم أشد قتال، حتى كاد أن يفتح لنا، واستشهد من جماعتنا خلق كثير، وقتلنا منهم كذلك حتى الغروب، فرجعنا إلى المعسكر.

ثم إن التوارك كانوا ينافقون يأتون ويقولون: آمنا وإذا خلوا إلى الكفار السودانيين قالوا: إنا معكم، ولما حضروا الوقعة الأوولى رجعوا إلى رحالهم واجتمعوا وخلفوا في عيالنا يغيرون. فكتب إلينا الأخ الصالح منهم، أحمد بن حيدرة، وأنذرنا منهم وأخبرنا بما هم فيهم، فنهض بالجيش الوزير إلى عيالنا، وتخلفت في الإخوان الذين بجنب اليمين لئلا ينتشروا، فبقينا نجاهد العدو، يغيرون علينا، ونغير عليهم حتى سار الجيش والتحق بالعيال.

وفي ذلك المقام أنشأت سرية إلى "أكي"-بفتح الهمزة وضم الكاف وتشديد اياء، فأصابت غنائم كثيرة ورجعت سالمة. ثم انتقل الشيخ بالجماعة، ونحى ناحية القاضاو، حتى نزل "ببور". ولما سمعنا بمسيره خرجت حتى لقيته. ثم إنه كتب أولئك التوارك كتاباً غرونا به، مع أنهم يجتمعون. فلما تم جمعهم ساروا إليها، وقد نزلنا "ثنثو"-بضحم المثلثتين مع إسكان النون-وانتشر الناس في طلب القوت، وبقي الأشراف في الديار. فلم يفجأنا إلا العدو وبجنبنا، فخرج الأشراف ومن معهم فعسكرنا بجنب رجالنا. ثم إنه أتى إلينا الأخ الصالح أخو الشيخ سعد، ومعه الراية، وقال: انهضوا إلى عسكرهم فتقدمت إليه، وقلت: دعهم حتى يدنوا منا، فأبى وسار بالناس، وأنا إذ ذاك مريض، فقعدت عنهم لذلك حتى وصلوا إلى العدو، وقد تهيئوا وتعبوا فالتتتلوا ساعة، فكانت الهزيمة واستشهد من خيار الجماعة طائفة كثيرة، وانتهى الفرارون إلى حيث عسكرنا دون رحالنا. فخرج الأخ الوزير إلينا، وخرج بأثره الشيخ، وهو يدعو الله فهزم الله عدونا، ووضعنا فيهم السلاح، وتفرقوا عباديد، ثم رجعنا لدفن الشهداء، وقد استشهد منا نحو ألفين واستشهد من خيار القوم رجال، ومنهم: